Home»Enseignement»أزمة الضبط المدرسي وسؤال السلطة التربوية

أزمة الضبط المدرسي وسؤال السلطة التربوية

0
Shares
PinterestGoogle+

بقلم هشام البوجدراوي

تُعدّ أزمة السلطة التربوية داخل الفصول الدراسية إحدى الإشكالات البنيوية العميقة التي تواجه منظومة التربية والتكوين، لما لها من انعكاسات مباشرة على جودة التعلمات واستقرار المناخ المدرسي. فقد غدت ممارسة المدرس لسلطته التربوية مهمة معقدة تتداخل فيها الأبعاد النفسية والاجتماعية والتنظيمية، مما أدى إلى انحباس التواصل الصفي، وتنامي مظاهر الفوضى والسلوكات غير المنضبطة داخل عدد من المؤسسات التعليمية. ويعود جانب مهم من هذا الوضع إلى التحولات التي مست مفهوم السلطة داخل المدرسة، إذ لم تعد هذه الأخيرة تقوم على الانضباط الصارم والطاعة غير المشروطة كما كان الحال في فترات سابقة، حين كانت الأسرة تضطلع بدور محوري في التربية والتتبع والدعم، وتشكل امتداداً فعلياً للمدرسة في التنشئة والضبط.

غير أن التحولات التي عرفها المجتمع، وفي مقدمتها تغير البنيات الأسرية، وتراجع المكانة الاعتبارية للأستاذ، واهتزاز رمزيته داخل المجتمع، وانشغال عدد متزايد من الأسر بتأمين شروط العيش على حساب المتابعة التربوية، إلى جانب التعديلات التي عرفتها المذكرات المنظمة للمجالس الانضباطية، خاصة ما يتعلق بالتخلي عن الصرامة واعتماد العقوبات البديلة، كلها عوامل أسهمت في إضعاف هيبة السلطة التربوية، وفتحت المجال أمام انتشار اللامبالاة المدرسية وشيوع مظاهر الشغب والاستهتار داخل المؤسسات التعليمية. وفي هذا السياق، يشير عالم الاجتماع بيير بورديو إلى أن « المدرسة لا تعاني فقط من أزمة تعلم، بل من أزمة شرعية رمزية »، وهي شرعية تتأسس أساساً على الاعتراف المجتمعي بدور المدرس ومكانته.

وأمام هذا الوضع المأزوم، يجد عدد من المدرسين أنفسهم مضطرين إلى تبني ممارسات لا تنسجم دائماً مع التوجيهات الرسمية، اعتقاداً منهم بأنها السبيل الوحيد لضبط القسم والضغط على المتعلمين من أجل إنجاز الواجبات المدرسية واحترام النظام الداخلي. غير أن اللجوء إلى أساليب من قبيل الإقصاء من الفصل أو التوقيف المؤقت، يظل محدود الجدوى، بل يكرس نموذجاً إقصائياً يعمق التعثرات الدراسية ويغذي مظاهر الهدر المدرسي بدل معالجتها، كما يحول العقوبة إلى غاية في حد ذاتها، لا إلى وسيلة للإصلاح التربوي.

ولا يمكن فهم أزمة السلطة التربوية بمعزل عن التحولات العميقة التي تعرفتها الأسرة والمجتمع، إذ أدى الانتشار الواسع للأسر أحادية الوالد ( المطلقات، الأمهات العازبات…)، خاصة في هوامش المدن، وتراجع السلطة الأبوية، والتخلي التدريجي عن أدوار الأسرة الأساسية من قبيل المراقبة والتتبع والتنشئة القيمية، إلى بروز جيل يفتقر إلى حدود قيمية واضحة وإلى مرجعيات ضابطة للسلوك. وينعكس هذا الوضع داخل المدرسة في صورة تأخر وغياب متكررين، وعراك وشجار، ورفض إنجاز الواجبات، وتبني سلوكات لامدنية اتجاه الذاة والآخر.

كما أسهمت التكنولوجيا الرقمية في تعميق هذه الأزمة، بعدما أضحت الشاشات ومحتوياتها تؤدي دوراً موازياً، بل أحياناً بديلاً، لأدوار الأسرة والمدرس، مما خلق لدى المتعلمين ارتباطاً بسلطة رقمية جديدة تؤثر في سلوكهم وتركيزهم وقدرتهم على ضبط الذات. وفي هذا الإطار، يرى فيليب ميريو أن « المدرسة لم تعد تنافس فقط الأسرة، بل أصبحت تنافس الشاشات في تشكيل الوعي والسلوك ».

وبفعل تراجع سلطة الإدارة التربوية، وانسحاب الأسرة والمجتمع من أدوارهما في التربية والتنشئة الاجتماعية، لم تعد المشكلات المدرسية تقتصر على المخالفات البسيطة، بل تجاوزتها إلى سلوكيات خطيرة ذات طابع إجرامي، من قبيل تعاطي المخدرات أو ترويجها داخل وحول محيط المدارس، إضافة إلى التهديد والعنف. وهو ما يكشف أن جزءاً من هذه المشكلات لم يعد تربوياً صرفاً، بل أصبح يتطلب مقاربات أمنية وقانونية موازية. كما أن ضعف المستوى الدراسي لدى عدد من المتعلمين، وانسحابهم الفعلي من سيرورة التعلم، إلى جانب محدودية قدرة القوانين الحالية على الردع، يجعل ضبط القسم أمراً بالغ الصعوبة، ويدفع الإدارة والأطر التربوية إلى التردد في اتخاذ قرارات تأديبية حازمة، خوفاً من الطعون الإدارية ومن تبعات المتابعات المحتملة.

في هذا السياق، تتعزز الحاجة إلى حضور رمزية مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة الأمنية، داخل الفضاء التعليمي، خاصة في المؤسسات التي تضم أعداداً كبيرة من المتعلمين أو تقع في مجالات تعرف هشاشة اجتماعية وأمنية. فوجود عنصر أمني بالمؤسسة يسهم في تعزيز الإحساس بالأمن، والحد من السلوكيات الإجرامية، وحماية حرمة الفضاء التربوي، كما يشكل دعماً للإدارة في تطبيق القوانين، ويضفي قدراً من الجدية والانضباط. ويظل هذا الحضور ذا طابع وقائي ورمزي بالأساس، يهدف إلى استعادة جزء من هيبة المدرسة، لا إلى عسكرة الفضاء التعليمي، خصوصاً في ظل القيود القانونية التي تحد من اعتماد العقوبات الصارمة بدعوى محاربة الهدر المدرسي.

إن ما تعرفه المدرسة من عنف وتراجع في احترام المدرس ليس سوى انعكاس لتحولات مجتمعية أوسع، تتجلى في ضعف تمثل رمزية السلطة في الفضاء العام، وانتشار الهشاشة الاجتماعية، وتنامي السلوكات المنحرفة في صفوف القاصرين. وقد أسهم هذا الوضع في تراجع جودة التعلمات، وتدني نتائج المتعلمين في الاستحقاقات الوطنية والدولية، كما أن آثاره تتجاوز أسوار المؤسسة التعليمية لتطال مستقبل الأفراد والمجتمع، إذ يواجه المتعلمون الذين نشؤوا في بيئات غير منضبطة صعوبات حقيقية في احترام القوانين المدرسية والاجتماعية وبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل.

ومن أجل إعادة الاعتبار للسلطة التربوية بين أسوار المؤسسات التعليمية، يبرز رهان التنمية المجالية باعتباره مدخلًا أساسيًا للحد من هشاشة المكان، حتى لا يظل تلاميذ المناطق الهامشية عرضة للإقصاء الاجتماعي وتداعياته النفسية داخل الفضاء المدرسي. كما تكتسي مشاركة جمعيات المجتمع المدني وجمعيات آباء وأمهات وأولياء التلميذات والتلاميذ أهمية مركزية في دعم أدوار التربية والتنشئة الاجتماعية، عبر أنشطة تربوية وتوعوية ترسّخ قيم الانضباط والمسؤولية الجماعية. وفي نفس السياق، تبرز ضرورة تجفيف منابع ترويج المخدرات داخل المؤسسات التعليمية ومحيطها، حتى لا تتحول إلى فضاءات مفتوحة أمام الانحراف، مع تعزيز التنسيق مع مؤسسة الأمن الوطني من خلال حملات تحسيسية بمخاطر التعنيف والسلوكات اللّامدنية وغير القانونية، إضافة إلى الحضور الرمزي الوقائي للمؤسسة الأمنية داخل الفضاء المدرسي بما يضمن حماية المتعلمين ويحقق احترام القانون.

ومن جهة أخرى، يفرض واقع التعثر الدراسي الممتد إعادة النظر في مسارات التوجيه، عبر توجيه التلاميذ الذين لم يعودوا قادرين على مسايرة المنهاج الدراسي، بما في ذلك تلاميذ الفرصة الثانية، نحو المسارات المهنية والتكوين المهني، بما يتيح لهم آفاقًا بديلة للاندماج الاجتماعي والاقتصادي. كما يستدعي ضبط السلوكات الشاذة داخل المؤسسات التعليمية قدرًا من الحزم التربوي والأمني، من خلال إقرار عقوبات تتناسب مع خطورة الأفعال المرتكبة، مع إمكانية تغيير المؤسسة بالنسبة للتلميذات والتلاميذ الذين أصبح سلوكهم يشكل خطرًا على سلامة المؤسسة واستقرارها، خاصة حين تتخذ هذه الممارسات طابعًا جماعيًا منظّمًا. وفي هذا الإطار، يكتسي تغيير مضمون مذكرة العقوبات البديلة أهمية قصوى، بحيث تتحول من آلية ذات بعد تساهلي إلى أداة ردعية وتربوية فعّالة لمواجهة كل سلوك إجرامي أو عدواني أو كل فعل يستهدف التشويش على السيرورة التعليمية، وذلك عبر ربط العقوبة بطبيعة الجرم وآثاره، وتمكين الإدارة التربوية من صلاحيات واضحة للتدخل الحازم في الوقت المناسب، بما يعيد الاعتبار لهيبة المؤسسة ويضمن حق المتعلمين في تعليم آمن ومستقر.

بقلم هشام البوجدراوي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *