Home»Enseignement»تلاميذ الثانوي بين التعثر والهدر المدرسي الصامت

تلاميذ الثانوي بين التعثر والهدر المدرسي الصامت

0
Shares
PinterestGoogle+

بقلم هشام البوجدراوي

تتجلّى ظاهرة الهدر المدرسي داخل فصول التعليم الثانوي التأهيلي بأشكال أعمق من مجرد مغادرة التلميذ للمؤسسة التعليمية. فالهدر لا يبدأ عند عبور التلميذ بوابة المدرسة نحو الشارع، بل يتسلل مبكرًا إلى الفصول في صورة تكرار متواصل وتعثرات دراسية ممتدة. وكما يؤكد أحد الباحثين: « الهدر لا يبدأ حين يغادر التلميذ المدرسة، بل حين تتخلى المدرسة عن واجبها تجاهه وهو لا يزال داخل القسم. »

ويظهر هذا الواقع بوضوح لدى التلاميذ القادمين من إعداديات الهوامش المنسية أو من برامج الفرصة الثانية التي تفتقر للنضج في تعاطيها مع واقع الظاهرة، حيث يصلون إلى الثانوي التأهيلي مثقلين بفجوات معرفية عميقة تراكمت خلال سنوات التعليم الإلزامي، وهي فجوات تزداد صعوبة معالجتها في ظل ضغط الامتحانات الإشهادية وإكراهات احترام التسلسل الزمني لفقرات المنهاج الدراسي. وهكذا يصبح تحقيق مشروعهم الدراسي والمهني أمرًا بالغ التعقيد، فتنضاف أعدادهم إلى أعداد المغادرين لمقاعد الدراسة بعد استنفادهم سنوات التمدرس المسموح بها في الثانوي التأهيلي وتجاوزهم سن الثانية والعشرين. وهنا تبرز إشكالية جوهرية تتلخص في التساؤل التالي: ما جدوى المدرسة إذا لم تمكّن المتعلمين من بناء مستقبلهم؟ فالمدرسة، كما قال جون ديوي، ليست مجرد فضاء لتلقين المعارف، أو ساحات انتظار تجنب الأطفال والمراهقين الاختلاط المبكر بالشارع، بل هي « إعداد للحياة. »

ولا تقف تعثرات تلاميذ الثانوي عند حدود ضعف التحصيل في المواد المُدرّسة، بل تمتد إلى صعوبات في مهارات أساسية كالقراءة والكتابة وفهم المقروء، إضافة إلى محدودية القدرة على توظيف مهارات التفكير العليا مثل التحليل والتركيب والاستنتاج. كما يشكل ضعف التحكم في لغات التدريس حاجزًا آخر أمام اكتساب المعارف الجديدة. أضف إلى ذلك هشاشة المنظومة القيمية التي أصبحت الأسر تشتكي منها أكثر من أي وقت سابق، في ظل ما أصبح يُنظر إليه كنوع من الانحلال الأخلاقي لدى الجيل الحالي. وفي هذا السياق يوضح المربي بول لانجفان: « لا يمكن بناء تعليم قوي على قاعدة هشة. »

ويمثل جمع تلاميذ ينتمون إلى فئات عمرية متباينة داخل القسم الواحد، خاصة خلال مرحلة المراهقة، في إشارة إلى عملية إدماج تلاميذ الفرصة الثانية بأقسام الجدع المشترك، مصدرًا لعدد من الإشكالات التربوية والنفسية الخطيرة التي تؤثر سلبًا على المناخ الصفي والتحصيل الدراسي. فالفوارق في النضج الجسدي والانفعالي والاجتماعي بين المتعلمين تخلق ديناميات غير متوازنة داخل الفصل، وتزيد من احتمالات الاضطراب السلوكي والتوتر، كما قد تدفع المتعلمين الأكبر سنًا إلى ممارسة تأثيرات سلبية على الأصغر منهم، مما يعرض هذه الفئة للانحراف والهشاشة والشعور بالضعف وفقدان الثقة بالنفس. كما تجد الأطر التربوية صعوبة في اعتماد مقاربات بيداغوجية تستجيب لحاجيات فئة غير متجانسة عمريًا وغير مستقرة انفعاليًا، الأمر الذي يحدّ من فعالية العملية التعليمية ويزيد فرص العنف المدرسي وهدر الزمن والتعثر الدراسي. وبالتالي، فإن الفارق العمري الكبير داخل القسم، خصوصا إذا صاحبه الانحلال الخلقي، لا يشكل مجرد اختلاف طبيعي، بل يتحول إلى عامل يهدد التوازن التربوي ويعيق النمو الوجداني للمتعلمين ويساهم في التعجيل بمغادرة مقاعد الدراسة. وقد لخص سيلفان ويل هذا الواقع بقوله: « الفصل المضطرب يلتهم الزمن المدرسي كما يلتهم الرمل الماء. »

وتتعمّق الإشكالات أكثر بفعل الظروف الاجتماعية والمجالية الهشة. فالتلاميذ المنحدرون من أوساط فقيرة يعانون من ضعف الدعم الأسري وقلة الموارد المالية وخصاص في الاحتياجات المادية الخاصة بالمراهقين، إضافة إلى محيط قد يكون محفزًا على الانقطاع والانحراف وتعاطي المخدرات. وهذا يعيد إلى الأذهان طرح بورديو: « المدرسة لا تعيد إنتاج المعرفة فقط، بل تعيد إنتاج الفوارق. »

ومع الاكتظاظ الذي تعاني منه مؤسسات عديدة، يصبح التتبع الفردي شبه مستحيل، فتضيع الاستعدادات والميول الفردية للتلاميذ بين أرقام الخريطة المدرسية. ويُفاقم ضعف منظومة التوجيه التربوي المشكلة، إذ لا ترافق التلميذ بالشكل الكافي، ولا تسمح له بالاريحية في اختياراته، بل تخضعه لإكراهات البنية التربوية المحلية، مما يبعدها عن جوهر رسالتها. فالتوجيه الناجع، كما يوضح الخبراء، « ليس اختيارا لمسار، بل اختيارا لحياة ممكنة » تراعي قدرات المتعلم وميولاته والفرص المهنية المتاحة.

وفي هذا السياق تبرز ضرورة إعادة النظر في التوجيه المدرسي، خاصة لتلاميذ الفرصة الثانية والمتعثرين القادمين من السلك الإعدادي. فهؤلاء المتعلمون غالبًا ما يوجَّهون نحو الثانوي التأهيلي دون مراعاة حقيقة لمؤهلاتهم الدراسية، مما يجعل التجربة التعليمية شبه محكومة بالفشل. ولا ينبغي، للجهات المسؤولة، السعي لتوجيه المتمدرسين إلى شعب بعينها على حساب مستقبل فئات واسعة من التلاميذ المتعثرين وخريجي مدارس الفرصة الثانية التي تُوهَّم بأنها قادرة على مسايرة متطلبات هذا السلك رغم افتقارها للحد الأدنى من الكفايات الأساسية.

فالواقع يثبت أن حتى التلاميذ الذين تابعوا مسارهم الدراسي بشكل عادي يواجهون صعوبات كبيرة عند الانتقال إلى تبني الخيار التعليمي فرنسي الذي يتطلب تحكمًا لغويًا ومعرفيًا دقيقًا. فكيف يمكن للتلاميذ الذين تعثروا لسنوات أو انقطعوا عن الدراسة أن يسايروا هذا الإيقاع؟

ومن هنا يصبح من الضروري تغيير النظرة تجاه المسارات المهنية ومسارات التكوين المهني، سواء لدى المتعلمين أو لدى أسرهم. فهذه المسارات لم تعد بديلًا للمتعثرين، بل أصبحت خيارًا استراتيجيًا تراهن عليه الدول الصاعدة والمقاولات الحديثة. ويبرز دور التوجيه المدرسي، وحصص المواكبة التربوية، وأنشطة التعريف بالمهن، والإعلام والتوجيه، في مساعدة المتعلمين على فهم أعمق لمسارات التكوين المهني وآفاقها الواعدة.

وتزداد أهمية تطوير المسالك المهنية وإعادة النظر في مناهجها ولغة تدريسها لتكون أكثر مرونة وقابلية لاستقبال الفئات الهشة من التلاميذ، مع تعزيز الجانب العملي وربط التكوين بعالم الشغل. فالشراكات بين المدرسة والمقاولة تتيح للتلاميذ فرصا للتدريب على أرض الواقع وفهما أوضح لمتطلبات المهن. وقد لخص أحد خبراء التكوين المهني هذا الأمر بقوله: « المهن تُتعلم بالأيدي قبل أن تُفهم بالعقول. »

إن تقليص الهدر المدرسي يتطلب رؤية شمولية تقوم على تخفيف الاكتظاظ، واعتماد بيداغوجيات مرنة، وتطوير التوجيه المدرسي، وتوسيع المسالك المهنية. فعندما تعمل المدرسة بهذه المقاربة، فإنها لا تمنح التلميذ شهادة فقط، بل تفتح أمامه آفاقًا جديدة، وتضيء له طريق المستقبل، لتظل فضاءً حقيقيًا للارتقاء الاجتماعي، لا مجرد محطة على هامش الفشل.

بقلم هشام البوجدراوي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *