Home»Jeunes talents»المقامات الدفية : الدف الواحد والأربعون – – الرجل الذي التقى بالهمذاني وحكى ما جرى له مع البرلماني

المقامات الدفية : الدف الواحد والأربعون – – الرجل الذي التقى بالهمذاني وحكى ما جرى له مع البرلماني

0
Shares
PinterestGoogle+

المقامات الدفية : الدف الواحد والأربعون – –  الرجل الذي التقى بالهمذاني وحكى ما جرى له مع البرلماني

حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من أهل الأخلاق والفضيلة، عاش حياته مهتما وساهراً على شؤون القبيلة، وقد قضى في ذلك ما تيسر له من السنين الطويلة…ظل يَجْمَعُ ويُدَوِّنُ ما يحدث في القرية من حكايات، وما يُفْرَضُ على أهلها من إتاوات وجبايات، معبرا عن ذلك بكل ما يَمْلِكُ من استعارات وكنايات…عُرف بالتَفَكُّه والنكتة وبعشقه لفن المقامة، وكان يسامر أهل النجارة والحدادة والخياطة والحجامَة، وتعلَّمَ من كلامهم وسَمَرهِم حُسْنَ السماع وجَمالَ الابتسامة…رجَعَ ذات ليلة إلى منزله بعْدَ سهرة مُمتعة، فأحَسَّ بألم شديد برأسه أعقبه بصرخة مُفزعة، حتى استيقظت زوجته وهرعت إليه مسرعة…واستنفرت همتها وأعلنت كل ما تملك من النفير، فأحضرت له دواء تجرعه بمرارة ثم مددته على السرير، وهدأ قليلا ثم استسلم للنوم وغرق في الشخير…وحدث يوما أن خرج يتجول في القرية ليسمع ما جدَّ في الأخبار، وما يصلُحُ لكتابة مقامة يحكيها على صحبه الأخيار، ويضمنها كل ما يناسب الأحداث  من الأهازيج والأشعار…دخل السوق وقصد دكان صاحبه للحجامة والحلق، وفي الطريق استرعى انتباهه جمْعٌ يَعُجُّ بالخلْق، وقد شكلوا دائرة كبيرة تحيط برجل كالطوق…اقترب وسمع الرجل يحكي للناس قصة عيسى ابن هشام، تسلل وأخذ لنفسه مكانا قريبا وبدأ يُنصِتُ باهتمام، ضحك الناس وتسلَّوْا ونَسَوْا ما بينهم من خصام…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في فن الفرجة والحلقة، أن صاحبنا لاحظ في لهجة الرجل شيئا من التأفف والحرقة، فتقدم نحوه يسأله وانفرد به بعد انصراف ما تبقى من الجوقة…حياه مرحبا ودعاه إلى شرب شاي في أقرب مقهى، وتعارفا واستحضرا كل ما يعرفانه عن أهل العلم والنُّهى، فقال الرجل شعرا مستعينا بالذي لا ينام ولا يسهى:       

هَمَذانُ حاضرتي  وفيها المولِدُ        وَقَبيلَتي هِـيَ تَغْلِبٌ والمـوردُ

نُسِجَتْ مقاماتي بأُسلوبِ الحِجا        كلمـاتـها بفكـاهة تَتَـجَـدَّدُ

بالسَّجْـع  أنْظِمها خَيالا بارعا        بَطَلي هشـامٌ لِلْـحِكاية يَسْـرُدُ

صفق صاحبنا بحرارة مُبْدِيا اعترافه كعربون حُبٍّ، فانحنى له احتراما ومدحه مدحا خاليا من كل نَقْص أو عَيْبٍ، بعد أن أدرك أنه الهمذاني فعلا دون شك ولا ريْبٍ…شكر الهمذاني صاحبنا على حسن التقدير والاعتراف، وتمنى أن يكون كلامه مبنيا على العدل والإنصاف، ثم اعتذر منه وطلب السماح له بالانصراف…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في الضيافة والإكرام، أن الهمذاني بقي في ضيافة صاحبنا بعض الأيام، تناقشا خلالها في شؤون القرية بكثير من الاهتمام…اتفقا أن يكتبا معا مقامة بديعة الأسلوب، يتناولان فيها ما تعرفه القرية من العيوب، من أجل الفكاهة والتسلية وتنقية القلوب…تحمس صاحبنا للفكرة بشرط أن يصوغها الهمذاني، واقترح أن يكون موضوعها ما يقوم به البرلماني، وما يحدث للقرية أثناء حملة الوعود والأماني…انتهيا من كتابة المقامة وتهذيبها في ثلاثة أيام، واتُّفِقَ أن يقوم فيها صاحبنا بدور عيسى بن هشام، حتى يتحمل مسؤوليته إن حدث ما يدعو لِصراع أو خِصام…وصلا إلى مكان تجمع الناس واستعدا لأجواء الحلقة، وكل واحد منهما يحاول الالتزام بما جاء في بنود الصفقة، وقلب صاحبنا يتناوب الخفقة تلو الخفقة…استهل الهمذاني القول بـ »حدثنا عيسى بن هشام »، ودخل صاحبنا وتقدم قليلا إلى الأمام، متقمصا دور الراوي واسترسل في الكلام:  » بينما أنا في دروب القرية أسير، رأيت وريقات ملونة في الهواء تطير، فراقبتها لأعرف إلى أي مكان ستصير…سقطت إحداها وانتهت إلى حيث مهواها ، فالتقطتها لَهَفا أريد معرفة فَحْوَاها، وعجبت ممن يكون قد كتبها وسواها…صيغَ برنامجها بالبديع وزادت رونقا بشعارها، وركزت اهتمامها على كل شؤون القرية ودوارها، من كهربائها إلى مائها ومن بشرها إلى حمارها…وبينما أنا على تلك الحال سمعت ما يُشبه صوت البراح، ينادي في الناس ويدعوهم إلى العمل من أجل النجاح، طالبا منهم أن يصوِّتوا على من سيقوم بالتغيير والإصلاح…اقتربت من الصوت وإذا بجمع غفير، يتقدمه شخص مهندم وقد حملوه على بعير، وهم خلفه يهتفون بما اتُّفِق عليه من تعبير…وقف الجمع يستمعون إلى خطاب بالاختصار والتكثيف، وطغت فيه أساليب التمني والوعود ولغة التسويف، مُدَّعيا أنه ابن قريتهم وأنه أولى من الغريب في التكليف…ذكرني المشهد بما حدث في القرية منذ سبع سنين عَجَفََتْ، وبسبع شداد أخرى جفت فيها أحواض القرية ونشِفَتْ، فتعجبت للساكنة كيف لحد الآن ما فهمت ولا عرفَتْ…اعتلى مدير حملته المنصة منبها الناس عبر البوق، طالبا منهم التمييز أثناء الإدلاء بالصوت في الصندوق، وخلفه صاحبه بربطة العنق يبتسم ابتسامة المشنوق…تشنجت أذني من كثرة سماع هذا الموال، وأحسست بلساني يقفز يريد النطق بالسؤال، فقلت والناس يصيحون : « أفتنا في سنوات المحال »…فقال: « تلك كانت سنوات أهلها وقد خلت »، فقلت : « واعدتمونا بأسلاك الكهرباء فما وصلت »، قال: « تلك أمانيكم أما أمانينا فبالمصلحة قد سمتْ وعلتْ…أما الآن فقد حق علينا خدمتكم في السنوات القادمة، وستغاثون إن شاء الله بالخير والبركات الدائمة، وحينها من حقكم أن تحاسبونا وتلقوا علينا باللائمة »…حرك سيد مدير الحملة رأسه موافقاً، وشرح للحاضرين أن الظرف اليوم أصبح لائقاً، إن هم انتخبوه وقضوا على من يُشَكِّلُ أمامه عائقاً… » يروي أحد الفضوليين المتخصصين في علم التفاوض والسمسرة، أن مدير الحملة وجد في كلام صاحبنا نوعا من الثرثرة، ثم تحمس مبشِّراً بمستقبل القرية واصفا إياها بالجوهرة…ومرت الأيام كما اشتهت إرادة البرلماني الدائم، وظلت القرية على نفس الوضع القائم، وتحولت صفة البرلماني من النائب إلى النائم…وأصبح يملك الوقار والاحترام والتمتع بحق الحصانة، وحقق لأهل القرية الكثير من مشاريع الصبر والرزانة، أما الهمذاني فقد وجد في ذلك كثيرا من المهانة…استغل صاحبنا تدخل الهمذاني في مجرى السرد، وخرج عن النص وحث الحاضرين على التخلص من القيد، والمطالبة بفضح البرلماني على الكذب في الوعد…هتف الحاضرون مؤيدين صحة قوله، وضرورة تعريته والكشف عن أصله، وعن كل من ضيع القرية من قبله…تحمسوا ودعوا في الحال إلى تنظيم مظاهرة، يرفعون فيها شعارات فاضحة وتنديدات مجاهرة، لكن الهمذاني انسحب معتبراً ذلك مجرد مغامرة…جابت المسيرة طرقات القرية نحو الساحة الكبيرة، حيث يوجد مصنع البرلماني لصناعة الخميرة، وحيث اعتاد الاجتماع والسهر مع أعيان العشيرة…تقدم صاحبنا وهتف بحياة القرية وحقها المصان، الذي لا يباع في سوق الخردة والقمصان، ثم استمر المسير وبدأ الحشد في النقصان…وصل صاحبنا إلى الساحة لوحده بعد المسير الطويل، فتذكر قصة احتجاج الناس على صاحب الفيل، فتقدم نحو البرلماني يشكره على عمله الجليل…يحكي بعض الفضوليين المتخصصين في علم التواصل والعلاقات، أن صاحبنا تقدم للبرلماني بكافة أنواع البطاقات، ملتمسا منه التدخل لصالحه في أحد السباقات…بعد شهر تصدر قائمة من كُللوا بالفوز والنجاح، فما كان عليه إلا أن يدعو للبرلماني بالفلاح، وتسلم أوراق التعيين مرفقة بشهادة الصلاح…استقبله رئيس المصلحة بالابتسامة والتحية والترحيب، بعد توصية البرلماني الذي قدّمته بصفة القريب، ثم عَرّفه على كل مرْؤوسيه بالدرجة والترتيب…توجه نحو مكتبه مسرعا لمباشرة عمله في الحال، ليُبرْهِن أنه يستحق ذلك ويبتعد عن القيل والقال، لكنه وجد مكتبه مُغْلَقاً ولم يكن يخَطُر ذلك على البال…سلمه العون المفتاح في حضور الكل، مُثبتا ذلك بالكتابة والتوقيع والورق والقول، وأثناء فتح الباب انكسر المفتاح وسط القُفْل…صرخ في وجه العون وكاد يدخل معه في اشتباك، ثم حاول فتح الباب بالقوة وسط حالة ارتباك، فبدا له إطار الباب عن الجدار في انفكاك…أحضروا متخصصا ليعاين قفل الباب وأَمْره، وصاحبنا قلق وقد احتضن ملفا بكامل صدره، خاصة بعد أن أحس أنه يفقد الكثير من صبره…فُتح الباب بعد أن كسروا القفل والمفتاح، فدخل إلى المكتب متطلعا إلى الكرسي ليرتاح، وينفذ ما طلب منه قبل أن يُطرد أو ينزاح…ولما ولج المكتب وجد نفسه قد سقط من على السرير، فاستيقظ مذعورا ووجد زوجته غارقة في التفكير، ثم مات وترك سره لمتخصصي الترميز والتشفير…وفي رواية أخرى أنه لما أدرك كابوس حلمه، تحسر على ضياع هويته واسمه، ثم مات ثلاثا غير مبالٍ بتعفن جسمه….          

 

يتبع مع دف آخر .         محمد حامدي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *