الطب في زمن الانحطاط الإنساني والأخلاقي: حين يتحول الألم إلى عُملة صعبة وشيك على بياض؟؟..

مصطفى قشنني

في مدينة وجدة، لا يُقاس المرض بدرجة الحرارة أو ضغط الدم، بل يُقاس بعدد السنوات التي ستقضيها في طابور الانتظار، أو بعدد المرات التي ستُذل فيها أمام بوابة المستشفى، أو بعدد الأثاث الذي ستبيعه لتدفع ثمن علاجك. هنا، لا يُعالج الإنسان، بل يُصفّ في طوابير كعلب السردين، يُنتظر أن يفرغ الطبيب من عدّ أرباحه ليمنحه دقيقة من وقته، إن تكرّم.
المنظومة الصحية، أو ما تبقى منها، تعيش حالة من الانحطاط الممنهج، لا بسبب قلة الموارد فقط، بل بسبب غياب الضمير، وغياب الرؤية، وغياب الدولة حين يتعلق الأمر بأبسط حقوق المواطن: أن يُعالج دون أن يُهان. المستشفى الجامعي محمد السادس، الذي يُفترض أن يكون صرحاً طبياً، أصبح أشبه بمتحف للمواعيد المؤجلة، وقلة الإمكانيات والموارد والتخصصات، حيث يُطلب من المريض أن يعود بعد عام أو اثنين، فقط ليُشخّص حالته. أما العمليات الجراحية، فهي حلم مؤجل إلى ما بعد الحياة، أو إلى ما بعد بيع البيت، أو إلى ما بعد أن يُقرر الطبيب أن يعود من المصحة الخاصة التي يعمل فيها خلسة أو علانية (و بتخراج العينين مزال).
مستشفى الفرابي؟ لا تسأل. لقد تحوّل إلى أطلال مهترئة، يصلح لتصوير أفلام الرعب، لا لعلاج البشر. مراكز القرب؟ هي مراكز للبعد، للتيه، للخذلان. المواطن يدخلها حاملاً أمله، ويخرج منها حاملاً خيبته، وقد لا يجد فيها سوى “سيكيريتي ” يعتذر له عن غياب الطبيب، أو عن غياب كل شيء.
وفي المقابل، تُنبت المصحات الخاصة كالفطر، بل أصبحت تحتلّ المواقع والواجهات الراقية بمدينة وجدة، لا لتُداوي، بل لتُتاجر. الدفع المسبق، الشيكات على بياض، “النوار”والضمانات الخارجة عن القانون، كلها شروط تُفرض على المريض بشكل تعسّفي قبل أن يُنظر في حالته. هذه المصحات لا تعرف من الطب سوى فواتيره، ولا من الإنسانية سوى شعاراتها. والأسوأ أن الكثير من أطباء القطاع العام، الذين يُفترض أن يكونوا في المستشفيات العمومية، يُشاهدون وهم يجرون العمليات والاستشارات في هذه المصحات، تاركين أماكنهم فارغة، ضاربين عرض الحائط بكل ما يُسمى قسم أبوقراط.
المواطن، الذي أصبح يقترض ويبيع أثاثه ليعالج نفسه، يتساءل: أين هي التغطية الصحية التي بُشّر بها؟ أين هي الوعود التي طُبّل لها في الحملات الانتخابية؟ الأطباء في القطاع الخاص، في أغلبيتهم، أصبحوا من أصحاب الملايير، بسبب مهنة الطب، التي منهم من حوّل مُدّخراتها القارونية إلى استثمارات ضخمة في المدارس الخاصة، والضيعات، وتربية البقر والغنم والدواجن. نعم أطباء في أغلبهم، جشعون لا يرون في المريض سوى ما سيدفع، وبعضهم يفحص أكثر من مائة مريض في اليوم، وآخرون يقطنون في عياداتهم، لا حباً في العمل، بل لهطاً وجشعاً.
المرضى، بالعشرات، ينتظرون منذ ما قبل الفجر، على أمل أن ينعموا بعلاج قد يأتي وقد لا يأتي بنتيجة. ومع ذلك، هناك فئة قليلة جداً من “أولاد الناس” في مهنة الطب، لكنهم كقطرات المطر في صحراء الأخطبوطية التي استحوذت على القطاع. الأخطبوطية التي تمد أذرعها في كل اتجاه، من المصحات إلى المدارس إلى الضيعات، دون رقيب أو حسيب.
وهنا يُطرح السؤال: أين وزارة الصحة؟ أين مفتشيتها؟ أين مديريتها الجهوية؟ أين مندوبها؟ أين البرلمانيون النائمون؟ صحّ النوم يا من تُفترض فيكم الرقابة. أين الأحزاب؟ أين فعاليات المجتمع المدني التي أصبحت في أغلبها غير فاعلة؟ أين من يُفترض أن يدافع عن أرقى حق إنساني عالمي: الحق في الصحة؟
الجواب؟ في مكان ما بين اللامبالاة والصفقات، بين التصريحات المنمقة والواقع المتعفن. في بلد يُقدّس الملاعب وينسى المستشفيات، ويُكرّم الفنانين وينسى الأطباء، ويُصفق للإنجازات الورقية بينما يُدفن المواطن تحت أنقاض الإهمال.
إنها مأساة، لكنها ليست مأساة فردية، بل مأساة جماعية، وطنية، إنسانية. مأساة تُكتب كل يوم في وجوه المرضى، في نظرات الأمهات، في صمت الآباء، في دموع الأطفال. مأساة لا تحتاج إلى تحليل، بل إلى صحوة، إلى ثورة ضمير، إلى من يقول: كفى. كفى عبثاً، كفى جشعاً، كفى موتاً في طوابير الانتظار.
لكن من سيقولها؟ من سيصرخ في وجه الأخطبوط؟ من سيعيد للطب إنسانيته؟ من سيعيد للحق في الصحة قدسيته؟ ربما لا أحد. وربما، فقط ربما، يأتي يوم تُصبح فيه المستشفيات أماكن للعلاج، لا للموت البطيء. يوم تُصبح فيه المصحات مؤسسات، لا شركات تجارية. يوم يُصبح فيه الطبيب إنساناً، لا تاجر أعضاء. يوم يُصبح فيه المواطن مواطناً، لا زبوناً في سوق الألم.
نعم، في مملكة المصحات الخاصة، حيث تُقاس الإنسانية بعدد الشيكات، يعيش العاملون في القطاع الصحي هم أيضا حياةً لا تليق حتى بالخيال الرديء. بعض الممرضين والمسعفين والمتعاونين والمداومين يتقاضون أقل من 1500 درهم، يعتاشون من فتات المرضى، ويُعاملون كأدوات طبية مستهلكة، لا ككائنات بشرية. لا تغطية صحية، لا ضمان اجتماعي، لا كرامة. أما الأطباء، فبعضهم يحقق في عملية جراحية واحدة ما لا تحققه ممرضة في عام، لكن جشعه يمنعه من توفير كرسي مريح لمن يعمل معه، فضلاً عن حقوقه. المصحة تُدار كدكان، المساعد يُعامل كخادم، والمرضى كزبائن في مزاد الألم. الطبيب يلهث خلف الملايين، لكنه لا يلتفت لمن يضمد جراحه، أو ينظف أدواته، أو يبتسم في وجه مرضاه. إنها كوميديا سوداء، حيث من يُداوي يُستنزف، ومن يُعالج يُستعبد، ومن يُفترض أن يكون ملاك الرحمة، يتحول إلى تاجر لا يرى في الإنسان سوى رقم في فاتورة.
ما يحدث في وجدة ليس استثناءً، بل هو مرآة تعكس حال قطاع الصحة في مختلف مدن وجهات المملكة. من طنجة إلى الداخلة، ومن فاس إلى أكادير، يتكرر نفس المشهد: مستشفيات منهكة، مراكز صحية خاوية، أطباء يلهثون وراء الربح، ومواطنون يلهثون وراء العلاج. الوضع لم يعد يبعث على القلق فقط، بل على القرف والاشمئزاز، وعلى شعور عميق بالقهر والخذلان. أن تمرض في المغرب اليوم، لا قدر الله، يعني أن تدخل متاهة لا مخرج منها، حيث ترى العجب العجاب: مواعيد مؤجلة، طوابير مذلة، مصحات تبتز، وأطباء يتاجرون في الألم.
الصحة، التي يُفترض أن تكون حقاً مقدساً، تحولت إلى امتياز طبقي، لا يناله إلا من يملك المال أو العلاقات. أما المواطن البسيط، فمصيره أن يتألم بصمت، أو أن يبيع ما تبقى له من كرامة ليشتري جرعة دواء. هذا الانهيار ليس عارضاً، بل هو نتيجة تراكمات من الإهمال، والفساد، واللامحاسبة. وإذا لم يُدق ناقوس الخطر اليوم، فغداً سيكون المرض هو القاعدة، والعلاج هو الاستثناء. قطاع الصحة في المملكة يئنّ يتألم، لكن من يصغي؟ من يتحرك؟ من يجرؤ على مواجهة هذا الخراب والإفلاس المركّب في كلّ شيء؟.
===============
المصدر : https://respress.ma/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7/





2 Comments
تعرضت والدتي لكسر في عضم الفخذ بعد أن زلت بها قدمها و سقطت أرضا فنقلناها على وجه السرعة إلى أحد المستشفيات العمومية، و قد أثبت الفحص بالراديو العادي القديم، قدم المستشفى ربما، بالأبيض و الأسود، والذي لم يكن معطلا لحسن حظ الوالدة، الكسر، إلا أنه لم يقم أي طبيب مختص بزيارتها و فحصها و علاجها طيلة اليوم، بل المفاجأة و الطامة هو أن أحد » سماسرة الأطباء » إتصل بنا مساء مباشرة في القاعة و قال لنا بالحرف: » راه الوالدة ديالكم غادي تبقى هاكذا و إلى بغيتوها تتعالج، 3000 درهم يجي الطبيب هاذ الليلة يدير لها العملية. « . في صباح اليوم الموالي، نقلناها دون تردد إلى إحدى مصحات المدينة…
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شكرا للكاتب على المقال المؤلِم، إنها أزمة إن لم تُحل،ستتعقد في المستقبل المنظور والبعيد، قبل أشهر يراودني سؤال حارق: لماذا صحتنا مبعثرة في رفوف مهمَلة مم الشرق إلى الغرب،ومن الشمال إلى الجنوب، إنها رحلااااااااات ماراطونية لا تنتهي إلا بإحدى المصيبتين: الموت أو بقاء المرض جاثما بعد استنفاد كل درهم أبيض لليوم الأسود…أتألم من الأعماق … أين هم ملائكة الرحمة في كل هذا؟؟؟ طبعا لا اعمم ولكن صحة الناس( مْزَلْعَةٌ ) الله يلطف بنا.