Home»Enseignement»نموذج المعرفة والقيم :المنهج التربوي عند ابن خلدون إطار مرجعي أساسي لبيداغوجيا التدريس بالملكات

نموذج المعرفة والقيم :المنهج التربوي عند ابن خلدون إطار مرجعي أساسي لبيداغوجيا التدريس بالملكات

0
Shares
PinterestGoogle+

1-سياق فكري عام

يقول ابن خلدون : » انتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع ،ودرست السبل والمعالم ،وخلت الديار والمنازل ،وضعفت الدول والقبائل ،وتبدد الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه » المقدمة ص 32 33 نشر دار إحياء التراث العربي.

كان لطبيعة العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، المتسم بالصراع السياسي على السلطة، و بالمد الصليبي المحاصر للحركات الجهادية، و بالإغارة الهمجية على مؤسسات الثقافة، التي قادها هولاكو على بغداد والعالم الإسلامي…الأثر الواضح ،في تشكيل المعالم الكبرى لنظرية العمران الخلدونية، التي كان لها صدى طيب لدى أوجست لوكنت ،في وضع الأسس الكبرى  لعلم الاجتماع، وتحديد مباحثه، كما  يرجع لها الفضل، في بلورة آراء ابن خلدون التربوية ،وصياغة منهجه التربوي، المؤسس على أربعة مبادئ وهي:

1-العقل المنطقي:

 يقول لسان الدين بن الخطيب : » ولازم العالم الشهير،أبا عبدالله الآبلي ،وانتفع به « .كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة جزء3 ص 498 .

 يقول ابن خلدون في هذا الصدد : » وقد أخذت عنه العلوم العقلية ،والمنطق ،وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية  » التعريف بابن خلدون في ذيل تاريخه العبر الجزء 7 ص 386

2-العقل الشرعي:

حفظ ابن خلدون القرآن على سبع قراءات ،وتضلع في الفقه الإسلامي ،وتبحر في علوم اللغة ،وأثث ذاكرته بعيون الشعر العربي ،كشعر أبي تمام ،والمتنبي ،والمعري.

3-الحرية:

آمن ابن خلدون عالم التاريخ الطبيعي،  وعالم الاجتماع الإنساني ،بالحرية واعتبرها اختيارا، وإبداعا، ومسؤولية، في عملية تكوين النشء، كاختيار معارف مواد التدريس ،واتجاهاته نحو علوم القرآن ،والشرعيات، أو الحساب ،واللغويات ،والإنسانيات ،كالشعر …واعتباره معرفة التكوين الدراسي، مجالا قابلا لتعدد الرؤى، واختلاف الآراء ،لاعلما ذا مبحث واحد، ولغة مجالية تعبيرية ،أواستقبالية واحدة.

4-التجربة الشخصية:

 تأثر ابن خلدون بوالده العلامة، في التمكن من العلوم الشرعية ،والدراية بعلوم عصره ، وأثث ذاكرته بعيون الشعر العربي، كشعر أبي تمام، والمتنبي، والمعري…و خبر السياسة من خلال المناصب، التي تقلد ها، ككتابة الدواوين، والختم باسم السلطان، ثم اعتزل المجال ،وتفرغ للقضاء، والتدريس ،و تدوين تاريخه في كتاب العبر، وأهداه للسلطان أبي العباس. ومر في حياته بثلاث مراحل :

1-مرحلة الاستقرار، والتعلم.

 2 مرحلة القلق، والإحساس بتخلي النخبة الحاكمة، وبفقد  الوالدين، بسبب الإصابة بمرض الطاعون.

3-مرحلة العزلة ،والنقد الذاتي، والتأليف.

أتاحت له هذه المراحل بلورة تصوراته العلمية،  وتشييد صرح  نظرية العمران ،وصياغة المنهج التجريبي. فهو يطبق المعرفة التي قيد الاختبار ،على نفسه ،وعصره ،ليستخلص القوانين الثابثة، ثم يعللها من خلال الرسوخ في المعرفة ،وطلبها من أهل الاختصاص ،وفق خطوات منهجية :

1-استقراء المعلومة.

2-السماع من الأشخاص.

3-التأكد من المسموعات ،ومن أقوال الأشخاص، ومقارنتها ببعضها البعض.

4-البحث عن المداخل.

5-الإحالة على التجربة الشخصية ،والإحساس الداخلي.

تأثر ابن خلدون بالمنهج العلمي، في تدبير العملية التعليمية  التعلمية، من منظور علمي ،يقوم على وصف الواقعة التعليمية، ورصد تجليات التفاعلية الداخلية، بين المتعلمين من جهة، وبين المعلم والمتعلم  من جهة ثانية ،ويرجع الفضل في هذه النظرة المندمجة ،لماهو اجتماعي ،وتاريخي ،ومعرفي ، وشرعي، وفلسفي… لتدبيره لمفهوم  الاجتماع

الإنساني، باعتباره مفهوما عدديا ،يروم تجميع جهود الناس ،لتحقيق التعاون ،والعمران البشري، وباعتباره دينامية اجتماعية ، تحكمها نظم محركة للأفراد والجماعات.  »  للمزيد من التفصيل الرجوع إلى كتاب المقدمة ص 6 .

فوفق العلامة في صياغة مفهوم البنية ،والوظيفة في العلوم الإنسانية ،وبنية الفعل الاجتماعي في العلوم الاجتماعية، كما وفق في نظائر ذلك في قطاع التعليم.

حلل ابن خلدون في الفصل 39  انطلاقا من نظرية العمران، التي تخضع لقانون التشابه، والتباين ،ولقاعدة  التغيير  ،ولمفهوم العصبية،  وبشكل مترابط مع الأحوال ،والعلوم، والصنائع…  الطبيعة البشرية ،ومحفزاتها ،ومثبطاتها، وكشف – من خلال الفصل 38- عن  جوهر النفس الإنسانية، ودوافعها ،ونزوعاتها، أثناء التعلم ، وفق منهج شكي، مصطلحا عليه » بتخلق العقرب »، يتوخى الحقيقة ،واليقين .كما حلل طبقات الاستبداد، التي تتحكم في العملية التعليمية ، بين المعلم والمتعلم ، وأوعز الخبث، والمذلة، للقهر، والتسلط. ودعا إلى اصطناع تربية راقية، مبنية على العدل، والرفق، والحرية …كما دعا إلى تحكيم العقل، وإعطاء الأولوية للفهم، على الحفظ ،إذ يرى في كتابه المقدمة ص433 : »

من أهل البدو من هو في أعلى رتبة، من الفهم، والكمال في عقله ،وفطرته.إنما الذي ظهر على أهل الحضر، من ذلك هو رونق الصنائع ،والتعليم  » .

كما حلل ابن خلدون العملية التعليمية التعلمية،  من منظور ثقافي شامل ،و جد متطور بالنسبة لعصره ،ضمن عدة مجالات : ديني التعلم للتقرب إلى الله، التعلم لتكوين الشخصية من جوانب عدة، التعلم لتشغيل المكتسبات في مسار مهني ،أو حياتي ،أو وجودي .فحذر من الحفظ في بدايته، ومن الملخصات، التي يقدمها المعلم بشكل جاهز للمتعلم، قصد استدعائها، في استحقاق آخر السنة. وحث على الفهم  ،وكشف الروابط المنطقية، بين مكونات المعرفة المقدمة، التي صنفها إلى قسمين :

1-معرفة مقصودة لذاتها : القرآن، وعلومه  .

2-معرفة غير مقصودة لذاتها، مثل اللغويات ،والشعر ،والحساب، حيث أوصى بتلقين مبادئه للنشء ،منذ صغره، لاستضمارمهارة التحسيب، وحل المسائل الحسابية ،واستدخال قواعد منطق التمييز، بين الصحيح والخطأ.

وربط بين الاستعداد الطبيعي، وبين النتائج. ودعا إلى التدرج في القدرة الفطرية، أثناء عملية التلقي ،وإلى اكتساب الملكة، والمهارة، ثم تثبيت القواعد ،بواسطة الدراية. للتوسع يرجى العودة إلى  الفصل 37

ونظرا لقداسة رسالة التعليم، أخرج ابن خلدون رجال التعليم من الطبقة السياسية، لإيمانهم بمنطق المبادئ والثوابت ،لا بمنطق المصالح والمتغيرات، ولانقطاعهم في نكران ذات، لمهمة تكونهم الخاص ،للاستجابة لانتظارات متعلميهم ،وانشغالاتهم المعرفية ،والعقلية والنفسية ،والاجتماعية .لذلك  جنح منهج ابن خلدون التربوي، نحو  الإبداعية ،والتسبيب، أي  الأخذ بالأسباب ،والتعليل ،والعقلانية، والطابع العلمي  ، في عملية التعليم والتعلم ،للمرور من  القدرة الفطرية ،والوراثة ،إلى الملكة القابلة للتنمية ،المؤمنة للاكتساب  المستمر، عبر تجنب مسار الاقتباس ،والتقليد ،والنقل ،الذي  يقتل العملية التعليمية ،وتذوب فيه ذات المتعلم، وتوجه إرادته.

لهذا نراه  في الفصل 53 يشيد بملكة صديقه  لسان الدين بن الخطيب: « اللسانية التي لاتدرك، وهي نموذج للتأسي.  » وبملكة أستاذه أبي القاسم، قاضي غرناطة،  الذي: » استبحرفي علم اللسان ،وجاء من وراء الغاية فيه « . الفصل 58

وتسلمه هذه التقويمات الشخصية، إلى تحديد مفهوم الملكة في مجال التعليم ،في الفصل الثاني من المقدمة وهي مفهوم مركزي ،في منهجه التربوي:

 » في أن التعليم للعلم، من جملة الصنائع »: » وذلك أن الحذق في العلم ،والتفنن فيه ،والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه، وقواعده ،والوقوف على مسائله ،واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة، لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا. ص431

« وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي، لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد، ووعيها ،مشتركا بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدئ فيه ،وبين العامي الذي لم يعرف علما ،وبين العالم النحرير  » ص431

« والملكة إنما هي للعالم أوالشادي في الفنون، دون سواهما، فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي، والملكات كلها جسمانية، سواء كانت في البدن ،أوفي الدماغ من الفكر، وغيره كالحساب .والجسمانيات كلها محسوسة، فتفتقر إلى التعليم ، ولهذا كان السند في التعليم، في كل علم أو صناعة، إلى مشاهير المعلمين فيها، معتبرا من الأئمة المشاهير، اصطلاح يختص به، شأن الصنائع كلها. فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، وإلا لكان واحدا عند جميعهم. »ص431

من خلال استنطاق هذه النصوص ،يبدو أن الملكة  في تقدير العلامة ابن خلدون  ،هي القدرة الطبيعية، والاستعداد الفطري للاكتساب ،والتحصيل ،والتعلم .وهي ذات طابع جسمي ،رغم تمظهرها على المستوى الجسدي، والعقلي  معا ،وتشكل مفهوما مركزيا، في نموذج ابن خلدون التعليمي : »التعليم المفيد ،النابذ للمختصرات ،والمطولات ،وللعنف المدرسي ».

حيث يميزا بن خلدون بين المعرفة العالمة، باعتبارها علما  واحدا ،في المحتوى، والدليل المصطلحي . والمعرفة المتعلمة في قطاع  التعليم، كمجال تختلف صناعاته، و طرقه ،ووسائله، وأهدافه، واصطلاحاته. تماما كباقي الصناعات الحرفية، الشيء الذي أدى به إلى تقديم نموذجين، لمراكز الإشعاع العلمي، بالشمال الإفريقي العربي : نموذج التعليمي في  القيروان، ونموذج التدريس بقرطبة ،و الاستشهاد بمثالين  حيين  من المعلمين ، درسا في المشرق العربي،هما : مثال أبي عبد الله بن شعيب الدكالي ،وكان تعليمه مفيدا . ومثال القاضي أبي القاسم بن زينون، الذي برع في العقليات، والنقليات. ص 432.

 ويسترسل في عرض تصوره المتقدم، حول الملكة ،من خلال كشف تمظهراتها ،على مستوى الطرق البيداغوجية، وتفاعلها مع المتعلمين ،ووضعياتهم العمرية ،و النفسية ،والفسيولوجية ، وامتداداتها في الدراسي، والحياتي، والمهني :

« وأيسر طرق هذه الملكة في اللسان، بالمحاورة ،والمناظرة في المسائل العلمية. فهو الذي يقرب شأنها، ويحصل مرامها . » ص432

« ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية ،سكونا لاينطقون، ولايفاوضون،  وعنايتهم بالحفظ ، أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل، من ملكة التصرف، في العلم والتعليم . » ص432 .

« كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر، يكسبها عقلا جديدا ،تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. »ص433

 

« واعلم أن الصناعة، هي ملكة في أمر عملي فكري، وبكونه عمليا هو جسماني محسوس. »  » والأحوال الجسمانية المحسوسة نقلها بالمباشر،أوعب لها وأكمل  » .

وينتهي منهج ابن خلدون من استدراج مفهوم الملكة، ومحاور ته إلى ضبط مفهوم التعلم،وتحديد البنية التربوية التي يشغل فيها  ورصد وظيفة فعل التعلم والتعليم:

« والملكة صفة راسخة  ،تحصل عن استعمال ذلك الفعل، وتكرره مرة بعد أخرى، حتى ترسخ صورته. « 

« المعاينة أوعب، وأتم من نقل الخبر…وعلى قدر جودة التعليم ،وملكة المعلم ،يكون حذق المتعلم في الصناعة، وحصول ملكته. » الفصل 17 من المقدمة

« ثم إن الصنائع منها البسيط، والمركب .والبسيط هو الذي يختص بالضروريات، والمركب هو الذي يكون للكماليات . والمتقدم منها في التعليم ،هو البسيط لبساطته أولا ،ولأن مختص بالدواعي الذي تتوفر الدواعي على نقله ،فيكون سابقا في التعليم …ولايزال الفكر يخرج أصنافها، ومركباتها من القوة إلى الفعل، بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج ،حتى تكمل .ولا يحصل ذلك دفعة، وإنما يحصل في أزمان وأجيال ».

 » ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ، ولا يوجد منها إلا البسيط ، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها ،إلى استعمال الصنائع ،خرجت من القوة إلى الفعل . »

« تنقسم الصنائع أيضا : إلى ما يختص بأمر المعاش، ضروريا أم غير ضروري ،وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان ، من العلوم ،والصنائع، والسياسة. ومن الأول الحياكة،والجزارة، و والنجارة ،والحدادة ،وأمثالها …ومن الثاني، الوراقة، وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد ، والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك …ومن الثالث ،الجندية، وأمثالها والله أعلم.  » الفصل17  .

والملكة باعتبارها مقولة أساسية ،في الجهاز المقولي، والمفاهيمي ،للمنهج التربوي الخلدوني، تتخذ لها أشكالا ،ومستويات، أثناء التنزيل،  تختزل سيرورات التعليم والتعلم، حددها ابن خلدون في : » هذا وجه التعليم المفيد ،كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. » ص49

 بدءا من الملكة الدنيا :

« واعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين ،إنما يكون مفيدا على التدريج ،شيئا فشيئا، وقليلا يلقى عليه، أولا مسائل من كل باب من الفن. » ص49 .

ومرورا بالملكة العليا :

« ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله ،واستعداده لقبول ما يرد عليه ،حتى ينتهي إلى آخر الفن ،وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية ،وضعيفة. وغايته أنه هيأته لفهم الفن ،وتحصيل مسائله.ص49 .

وانتهاء بالملكة النهائية :

« ثم يرجع إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ،ويستوفي الشرح، والبيان ،ويخرج عن الإجمال، ويذكر ماله من خلاف، ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته .ثم يرجع وقد شد فلا يترك عويصا ،ولا مهما، ولا مغلقا ،إلا وضحه ،وفتح له  مقفله ،فيخلص من الفن، وقد استولى على ملكته « . ص49

وتسلم هذه الأجرأة لمفهوم الملكة العلامة ابن خلدون إلى تنظيم العملية التعليمية التعلمية، و تحليل أضلاع المثلث الديداكتيكي :

1-المعلم :

 يشترط فيه ابن خلدون الحذق بالطرق التربوية الناجعة، للفهم أولا ،ثم الحفظ ثانيا ،وحسن تدبيره لعملية الإلقاء والتلقي، التي يحكمها المنهج الاستنباطي، حيث يتم اكتشاف الوقائع المعرفية المدرسة ،بشكل متدرج يشبع حب الاستطلاع ،ويلبي متطلبات الفضول المعرفي : إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات، و حينئذ عاجز عن الفهم والوعي ،وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك  من صعوبة العلم  في نفسه ،فتكاسل عنه، وانحرف التعليم .وإنما ذلك من سوء التعليم .ص50  .

2-المتعلم :

 يرى ابن خلدون أن التعلم يتحقق عبر الاستعداد، لقبول المادة المدرسة ،وفهم وقائعها المعرفية، على قاعدة التدرج : » لايزال الاستعداد فيه يتدرج، قليلا قليلا ،بمخالفة مسائل ذلك الفن، وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب ،الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ،ثم في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن.  » ص49 وص50

3-المادة التعليمية :

ويشترط فيها ابن خلدون وحدة الإطار المعرفي، فلا نسمح للمتعلم بتعلم عدة علوم دفعة واحدة، حتى لا تتبدد الطاقة الانتباهية، وتتعقد الصعوبة،  فيكون العسر والاستصعاب، مدعاة للنفور، والفشل، والفاقد الدراسي  :

« ومن المذاهب الجميلة ،والطرق الواجبة في التعليم، أن لايخلط على المتعلم علمان معا ،فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد، ويعود منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معا ،ويستصعبان ، ويعود منهما  بالخيبة ». ص 50

 ثم  يشترط التدرج في تلقي وقائع المادة المعرفية،  وفق غلاف زمني مضبوط ،ومقدر بدقة متناهية ،تراعي خصوصية المتعلم، ومواصفات بيئته الحضرية، أو البدوية .ويستجيب لمقتضيات القدرة على الفهم ،والرغبة في التلقي ،عند المتعلم. وإليك بعض النصوص الدالة : »

لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم، استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد ،والنهوض إلى ما فوق ،حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر، وعجز عن الفهم ،وأدركه الكلال، وانطمس فكره ،ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم.  » ص50

« يجب ألا تطول على المتعلم في الفن الواحد ،بتفريق وانقطاع مسائل الفن، بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة ،بتفريقها .وإذا كانت أوائل العلم ،وأواخره ، أيسر حصولا ،وأحكم ارتباطا ،وأقرب صنعة . » ص50 .

 » إنما تحصل الملكة بتتابع الفعل ،وتكراره، وإذا تنوسي الفعل، تنوسيت الملكة الناشئة عنه . » ص50

نماذج من التعليم بالملكات

يقول ابن خلدون : « التعليم في الصغر أشد رسوخا ،وهو أصل لما بعده ،لأن السابق الأول للقلوب، كالأساس للملكات ». ص55

يعرض ابن خلدون في الفصل السادس والثلاثين، أربعة نماذج من التعليم بالملكات : من الطفولة إلى الشباب:

1-نموذج أهل المغرب : « فما أهل المغرب، فمذهبهم في الولدان ، الاقتصار على تعليم القرآن فقط ،وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ،ومسائله . لايخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم ، لا من حديث ،ولا من فقه ، ولامن شعر، ولامن كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه » ص55 .

 وينتقد  ابن خلدون هذا النموذج، لأنه يركز على حفظ القرآن دون مزجه بتلقي  الشعر، والترسل، وعلوم أخرى، مما يضعف في نظره تنمية  الملكة بشكل تام ،التي تبقى مقصورة على محاكاة، الأساليب القرآنية فقط.

 ويستدل على ذلك، بقول  القاضي أبي بكر بن العربي : »لأن الشعر ديوان العرب ،ويدعو إلى  تقديمه .وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ،ثم ينتقل منه إلى الحساب،فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ،ثم ينتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. »ص57

2-نموذج أهل إفريقيا:

 يقول ابن خلدون : » فأما أهل أفريقية ، فيخلطون في تعليمهم للولدان ،القرآن بالحديث في الغالب ،ومدارسة قوانين العلوم ،وتلقين بعض مسائلها ،إلا أن عنايتهم بالقرآن، واستنظار الولدان إياه، ووقوفهم على اختلاف رواياته ،وقراءاته، أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. « ص56

ويعتبر ابن خلدون هذا النموذج أقل ضررا، من نموذج أهل المغرب، لأنه يمزج ولو جزئيا ،تعليم القرآن بعلوم أخرى.

3-نموذج أهل الأندلس:

  يقول ابن خلدون : »وأما أهل الأندلس، فمذهبهم تعليم القرآن والحديث من حيث هو،…إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك ،وأسه، ومنبع الدين ،والعلوم، جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه، بل يخلطون في تعليمهم للولدان، رواية الشعر في الغالب ،والترسل وأخذهم بقوانين العربية، وحفظها ،وتجويد الخط، والكتاب…بل عنايتهم فيه، بالخط  أكثر. »ص56

ويشيد ابن خلدون بهذا النموذج، الذي مهد لتلقي القرآن  بخلق انسجام بين مداخله ،وعملياته ،ومخارجه. فنجح في تكوين شعراء ،وكتاب ،وخطاطين ماهرين.

4-نموذج أهل المشرق:

 يقول ابن خلدون : » وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك، والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن، وصحف العلم، وقوانينه في زمن الشبيبة .ولايخلطون بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون، ومعلمون له على انفراد ه، كما تتعلم سائر الصنائع، ولايتداولونها في مكاتب الصبيان. »ص56

واكتفى ابن خلدون بعرضه ،والتعلل باللاأدرية، ربما لأنه  لم يقتنع به، أو لم يشهد نماذج عملية منه.

مظاهر للفكر ألاستباقي في منهج ابن خلدون :

كان ابن خلدون سباقا إلى الدعوة إلى المواكبة التربوية ،من خلال  مصاحبة المتعلم لمعلمه، وتلقي العلم عنه مباشرة  ،ويبرز فوائد الرحلة العلمية في الميدان ، بقوله : « فهو اشد استحكاما ،وأقوى رسوخا ، فعلى قدر كثرة الشيوخ ،يكون حصول الملكات ،ورسوخها. »ص60.

 والاندماج بالمكان ،يكفل تصحيح المعارف، وتخفيف اختلاف الطرق بين المشايخ ،مما يحقق التوافق التربوي، بين المتعلم ،ووسط تعليمه.

*-استنتاجات كبرى حول المنهج التربوي الخلدوني :

اعتبر ابن خلدون التعليم ضرورة من ضرورات العمران، وصنعة مختلفة عن الصنائع تصنع الفكر، تصنف في خانة العلوم ،لاتتحقق إلا بملكة التعلم .والعلم عنده علمان : علم نقلي وضعي، وعلم حكمي فلسفي ،نكتسبه على قاعدة الإنسان مفكر بالفطرة، ويوسع مداركه بالتعلم، فيلجأ إلى من هو أكثر منه علما. واستطاع ابن خلدون تحليل العملية التعلمية التعليمية، وربطها بالعلوم والأفكار، التي منشؤها الإنسان، لا التحقيب الزمني، انطلاقا من إيمانه الراسخ بصدقية نظرية الأدوار ،التي جسدها في نظرية العمران ،وحاول عكسها في نموذجه : » التعليم المفيد » فالتعليم  في نظره يمر عبر:

1-التعلم ،وحيازة المعرفة ،لإشباع حاجة فطرية ،في عقل الإنسان.

2-التعمق في العلوم، والتخصص فيها ،والانتقال من الهواية إلى الاحترافية، والصنعة.

3-تعليم المتعلمين، وتكوين الأجيال ونشر الإشعاع العلمي ،لنقل الحضارة ، لأن الفكر الإنساني يتطور بالتعلم ،ويطور المجتمع بالتعليم.

مرتكزات منهجه التربوي :

شخص ابن خلدون أوضاع التعليم السائدة في أربعة مذاهب كبرى، ثم انتقد ها نقدا بناء : وهي مذهب أهل المغرب ،وإفريقيا، والأندلس ،والمشرق العربي. كما انتقد تعدد مناهج التدريس، بسبب تعدد المشايخ ،واختلاف طرقهم، المتراوحة بين تقديم التلخيصات ،التي تشوش على الفهم والتواصل الديداكتيكي، بين الباث للرسالة التعليمية ومستقبلها ،من خلال إلقاء الغايات العلمية  النهائية على المتعلم، دون تدرج، ومن غير أن ينضج ليتلقاها ،واستعمال الشدة ،والعنف ،والعقاب البدني ،الذي ينفر من التعلم ،ويحد من ممارسة الأنشطة، ويؤثر على بناء شخصية المتعلم ،التي تجنح نحو الكذب ،والخبث، والتحايل، واصطناع السلوك الحيواني، وتركن إلى الخمول ،والكسل وفي هذا ضرب للقيم ،وللآليات الطبيعية لاكتساب الملكة، وكثرة المطولات، و التآليف الفقهية، واللغوية ،التي تستغرق من المتعلم عمره كاملا ،لحفظها واستيعاب متنها. واعتبر ذلك مضرا بالعملية التعلمية المفيدة، التي يختزلها في ستة مبادئ وهي :

1- تبني مبدأ التدرج ،وتنويع  العروض المعرفية ،والتربوية، وفق المستوى العقلي للمتعلم ، وقدرته على التلقي، واعتبار ميوله، ورغباته ،واستعداداته.

2-اعتماد مبدأ التكرار ، في ترسيخ وتثبيت المكتسبات ،أوفي  الانتقال من العرض الإجمالي، إلى العروض المفصلة المعمقة للمعرفة المدرسة، ثم الختم بحل الإشكالات الكبرى للقضايا المعرفية، عبر التدرج من الملكة الدنيا ، إلى الملكة العليا ،فالملكة النهائية.

3-عدم تبني آلية التلقي المتعدد في نفس الآن، نظرا لانطوائها على تأثيرات جانبية ، تحد من درجة التحصيل ،وبناء الملكة بشكل متدرج، بسبب تشتت الانتباه، وحصر الذهن ،وتضاعف المعيقات ،والصعوبات على العقل، مما يفضي إلى الركون إلى الخمول، والنفور،والخيبة المؤدية إلى الفشل الدراسي.

4-التربية على الاختيار العلمي  السديد المتخصص، حيث صنف ابن خلدون العلوم، إلى مقصودة لذاتها ،وهي علوم القرآن، وباقي الشرعيات… وعلوم أداتية ،كاللغة العربية ،من نحو ،ومعجم ،وبلاغة وعروض، وتاريخ… فلا يجب في نظره التوسع في علوم الآلة، وتحويلها إلى غاية، لأن الهدف هو حصول الملكة،  في أوجز وقت، وبأقل العلوم ،لا التعمق في علوم الوسائل، على حساب علوم المقاصد.

5-مراعاة المستوى العقلي،  وتنمية العمليات الذهنية، ليرتقي المتعلم في مستويات الفهم، والحذق عن طريق تعليمه الكتابة أو الخط ،لأنه يقوي النظر العقلي، ويمهر المتعلم على الانتقال ، من المكتوب إلى المنطوق ،فالدلالي ومن المحسوس إلى المجرد. يقول ابن خلدون  » الانتقال من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، فالمعاني التي في النفس. » ثم بواسطة تعليمه الحساب، فهو يقوي العقل و يساعد على » البرهنة، و الاستدلال ،عن طريق التحكم في التصرف، بضم الأعداد، وتفريقها ».

6-اعتماد مبدأ المصاحبة ، والاغتراف من المصدر، لأنه  يمكن من المرافقة العلمية عن قرب ،والتتلمذ على يد  المشايخ، لاستيعاب الاختلافات بينهم في مناهج التدريس، وتجريد العلوم بعد استيعابها من  الميدان، ثم تمييزها، والتعالي على الاصطلاحات العلمية، بين شيوخ العلم.

فهل ارتقى هذا المنهج الخلدوني في مجال التعلم والتعليم، المبثوت في ثنايا ثمانية فصول، من مقدمته  القيمة لكتاب العبر، إلى مستوى النظرية التعليمية ؟

ربما الإجابة عن هذا السؤال  ، تحتاج إلى دراسة معمقة ،ومقاربات مقارنة ، مع البيداغوجيات النشيطة، خاصة بيداغوجيا الكفايات ، من منظور النظرية البنائية، والبنائية الجديدة،  مع مراعاة الفاصل الزمني ،واستيعاب خصوصيات القرن 14 الميلادي (1332 -1406 )، الذي تميز بالموسوعية، والعقلانية. فهل آن الأوان لمنظومتنا أن تستلهم من هذا النموذج الناجع، كيف نهتم بالعلوم الأساسية : الشرعيات، الرياضيات ،الفيزياء، الإنسانيات؟بدل الإغراق في علوم الأداتية كالشعر، والنحو، والتاريخ؟ وكيف ندفع المتعلم إلى إتقان لغته الأم ،ولغة تفتح واحدة، بدل أن نشتت تركيزه بحزمة من اللغات؟ وكيف نستضمر قواعد التمهير على استعمال اللغة ،بدل الإغراق في تلقين قواعدها ،ومتون أحكامها المتعددة ،والمتشعبة، والخلافية ؟

المرجع :

*-المقدمة للعلامة عبد الرحمان بن خلدون نشر دار إحياء التراث العربي.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *