أثر الإتقان وعدمه على الفرد والمجتمع

بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
أثر الإتقان وعدمه على الفرد والمجتمع
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال » إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ ». لا أعلم سبب ورود هذا الحديث، لكني متيقن من كونه موجه لكل من ينتسب للدين الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من قاعدة » العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ». وإذا كان الأمر كذلك وجب على كل من يرغب في محبة الله له أن يُتقن عمله كيفما كان نوعه، انطلاقا من منطوق الحديث. إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو ما محل من لا يُتقن عمله من هذا الحديث؟
انطلاقا من فهمي البسيط لمفهوم المخالفة أزعم أن من لا يُتقن عمله لا يحبه الله، وإذا حصل أن خرج فردٌ أو جماعة من دائرة حب الله، فلا شك أن كل عمل يقوم به دون إتقان مآله البوار والخسران.
وأنا أفكر في هذا الموضوع، خطرت ببالي فكرة مفادها أنه بالإمكان محاربة مشروع ما، ليس بمنعه بشكل مباشر، وإنما بالسماح له دون توفير شروط إتقانه مع الرفع من مستوى الانتظارات منه إلى أكبر قدر ممكن، حتى إذا ظهرت النتائج وكانت دون هذه الانتظارات، لقي المشروع استهجانا من قِبل المستهدفين منه، وسَحْبِ الثقة من المتبنين له، مما يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع منسوب الثقة بالفرد الذي تبنى نفس المشروع وأتقنه إذا كان الأمر يتعلق بالأفراد، أو بالأمة التي يتسم إنجازها للمشروع بالإتقان إذا كان الأمر يتجاوز الأفراد إلى الأمم والمجتمعات، وهذا من أساليب القوة الناعمة التي تعمل على إفقاد أفراد المجتمع ثقتهم بكل عناصر القوة لديهم، من قيم وثقافة ومبادئ وطريقة عيش، ليبحثوا لهم على النموذج الذي يَتبنى الإتقان في إنجاز المشاريع، ومنها المشروع الذي فشل أو لنقل أُفشل في بيئتهم المحلية، مما يؤدي بالضرورة إلى فقدان الثقة بالنفس والانهزام والتبعية للآخر ومن ثم تمجيد كل ما يأتي من عنده، الصالح والطالح على السواء.
وفي هذا الصدد حضرتني أمثلة لمجموعة من المشاريع التي كان عدم الإتقان سببا في تحييدها وفتح المجال واسعا أمام المشاريع المنافسة لها إن لم أقل المحاربة لها، من بينها:
- مشروع التعريب الذي كان من بين المبادئ الأربعة في مشروع إصلاح التعليم الذي نادت به اللجنة العليا للتعليم منذ سنة 1957. ومما لا يخفى على كل متتبع للشأن التربوي في بلادنا ذلك التذبذب الذي وصم مختلف المراحل التي مرت بها عملية التعريب، والذي من تجلياته حصره في التعليم المدرسي دون التعليم الجامعي، تُضاف إليه الطريقة المعتمدة التي تَستند على المغالطات المنطقية، والتي لا تخلو من خُبث لتبرير الاستغناء الكلي عن اللغة العربية في تدريس المواد العلمية بجميع أسلاك التعليم المدرسي لفائدة لغة المستعمر، ذلك أنه تمت مقارنة نتائج الجذع المشرك خيار عربية والجذع المشترك خيار فرنسية التي كان التفوق فيها واضحا لدى تلاميذ الجذع خيار فرنسية، مما أعطى الانطباع أن التفوق كان مرده للغة التدريس وليس لكفاءة التلاميذ، إلا أن ما لا يعلمه العامة الذين أبدى بعضهم الرغبة في إعطاء الرشوة للمسؤولين لتسجيل أبنائهم ضمن هذا الخيار، هو أن المقارنة كانت فاسدة في أصلها بسبب أن المعايير التي اعتُمدت في توجيه التلاميذ إلى خيار الفرنسية استهدفت المتفوقين منهم كأن الأمر لا يتعلق فقط باختيار لغة التدريس، وإنما بخلق شعبة جديدة. وهكذا بعدما كان مبدأ التعريب مطلبا أساسيا لدى المجتمع برمته، أصبح يُنظر إليه على أنه هو السبب الرئيسي في تخلف المنظومة التعليمية ببلادنا، بعدما اقتنع عموم الناس بأن لا فائدة ترجى من ورائه.
- مشروع المؤسسة انطلاقا من نسخته الأولى سنة 1994 تحت عنوان دعم التجديد التربوي في المؤسسات التربوية مرورا بمشروع ألف (ALEF) الذي تم بشراكة مع الولايات المتحدة وانتهاء بمشروع (PAGESM) الذي تم بشراكة مع كندا. وبصفتي مشاركا في المشروعين الأخيرين يمكن من خلال المساهمة في التجسيد العملي لهما أن أجزم أنه كانت هناك بوادر جد إيجابية لنجاحهما لولا الاستعجال الذي صاحبهما وقطعِهما في نصف الطريق دون سبب وجيه.
- وفيما يتعلق بمشروع أو لِنقُل حلم الشعوب الإسلامية بالرجوع إلى حكم إسلامي يُحررها من قبضة الغرب، ويعيد لها عزتها واحتكامها للشريعة الإسلامية، لاحظنا بالنسبة للمغرب على سبيل المثال أنه تم استبعاد العنف لإقصاء الإسلاميين من الحكم، وإنما تم استقطابهم وسُمح لهم بممارسة الحكم ضمن لعبة الديموقراطية في إطار قيود جعلت جل منجزاتهم تتسم بعدم الإتقان، مما ألَّب عليهم المجتمع المغربي وكان ما كان.
- أما مشروع الدعوة إلى الإسلام بمقتضى الحال فقد تم تقويضه بتركيز الغرب ووسائل الإعلام التابعة له في الغرب وفي الدول الإسلامية على السواء، على عدم التزام عامة المسلمين، وبعض الحالات المحسوبة على خاصتهم بالإتقان في مختلف ممارساتهم الحياتية مما يؤدي بالضرورة إلى التنفير من كل من يحمل شعار الإسلام ومن الإسلام نفسه.
- يضاف إلى كل هذا ما يلاحظ يوميا في التعامل مع المنتوج المحلي أو الوطني مقارنة مع المنتوج المستورد بدءا من البرغي إلى السيارة، ومن السروال الداخلي إلى القميص إلى الحذاء مرورا بالفاكهة …حيث بمجرد أن يُخيَّر أحد بين المنتوج المحلي والمنتوج المستورد إلا ورجح الكفة للثاني. ومن الأمثلة التي تدل على وجود توجه لغرس هذا النوع من التصرف في لاوعي المغاربة هو سيارة رونو التي تُصنع في المغرب، بحيث تعطى الأولوية للتي تحمل شارة « رونو » على التي تحمل شارة « داسيا » مع العلم أن الفرق بينهما تكمن في الشارة وفقط، مع استثناء بعض الأكسسوارات الاختيارية، وفي نفس السياق أشير إلى وجود معامل للنسيج ذات منتوج عالي الجودة لكن لا يُسمح ببيعه محليا حتى نكتشف من حين لآخر وبالصدفة أن الحذاء الجيد أو المعطف الممتاز الذي جلبه له لنا أحد أقربائنا من الخارج كُتب عليه « صُنع بالمغرب ».
في الختام أتصور أن انتماءنا للإسلام يبقى ناقصا ما لم نتخذ من الإتقان أسلوبا في التعامل مع جميع أمورنا الدنيوية والأخروية، ليس لأنه ترفا أو لأنه يؤدي إلى النجاح في مشاريعنا الدنيوية، ولكن باعتباره وسيلة لإحراز محبة الله الذي يتصف بالإتقان المطلق حيث قال جل جلاله » وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ » (الآية 90 من سورة النمل) وذلك باتباع توجيه الرسول الكريم الذي تم التصدير به لهذا المقال مصداقا لقوله تعالى » قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (الآية 31 من سورة آل عمران). والذين اتبعوا الرسول وأحرزوا محبة الله ف »جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ » (الآية 8 سورة البينة) صدق الله العظيم.
الحسن جرودي





Aucun commentaire