« رؤية » الأعمى والبصير في منظومة التربية والتكوين

شبابنا جاوز الأربعين .. يبحث عن عمل بالتعاقد لسد رمق من جوع وبناء عش من قش .. هذا منتوج المدرسة العمومية ..
أذكر كيف أمسكت بيد والدي، ذات صباح خريفي، منذ نصف قرن من الزمن وهو يقتادني نحو المدرسة، مدرسة علال بن عبد الله للبنين بمدينة تاوريرت شرق المغرب، لأنه حينه كانت مدراس للبنين وأخرى للبنات، كنت أرتدي من الثياب سروالا قصيرا من نوع « سالوبيط » رمادي اللون ونعالا من جلد أسود وقصة شعر « ألمانية » كما هو حال أبنائنا اليوم .. أخذني والدي من يدي اليسرى وتأبط كناش الحالة المدنية بغلاف جلدي أحمر، وكأنه يحكم قبضته على خريطة كنز لن تضيع مع توالي الولادات وتسجيلها في مكتب الحالة المدنية عند « سي بوجمعة » رحمه الله وأحسن إليه .. أذكر كل التفاصيل، لأنني كنت أبلغ من العمر حينه 7 سنوات وبضعة أشهر، فلم يكن مسموحا بولج الصف الدراسي إلا وقد بلغ الناشئة السابعة بالتمام والكمال، ولكم أن تتمثلوا ذي السبع سنوات في بداية الستينيات .. يافع بكل ما تحمل الكلمة من معاني الفتوة والرجولة والمسؤولية، كان الفتى في هذه السن يقبل على عدد من الأشغال الشاقة والمعاملات التجارية البسيطة ورعي قطيع متوسط من الأغنام، بمعنى أنه كان بإمكانه الاعتماد على نفسه والمساعدة في إعالة أسرته ..
أستعرض هذا الوضع، ليس من باب التهويل وإضفاء صفة البطولة على طفل ذي 7 سنوات، وإنما لأخلص للحديث عما يمكن تسميته « عمر ضاع » من حياتنا المدرسية، هل كان من الضروري بلوغ سن 7 لولوج الصف الدراسي؟ طبعا كانت التنظيرات مثل موجة عارمة غطت ما حولنا وتبناها أولو الأمر منا بكل ما أوتوا من دهاء وقوة تخطيط، تنظيرات لفلاسفة التربية وعلم النفس التربوي تطول لائحة حصر أسمائهم، كنا نقرأ كتبهم عن التربية وأن الطفل في حاجة للعب، وكأن سلوك اللعب ينتهي مع مرحلة عمرية بذاتها .. لم تكن حينه رياض أطفال أو تعليم أولي غير الكتاتيب القرآنية التي بدأ نجمها في الأفول مع نهاية ستينيات القرن الماضي، علما أن « لمسيد » ظل متواجدا بكل أحياء المدن والقرى، فكنا نذهب للمدرسة مدججين بقاموس لغوي ثقيل، به مئات الكلمات ونحفظ العديد من السور والآيات، بل منا من كان يحفظ القرآن كاملا فيكون رصيده من المفردات العربية 50 ألف كلمة، وذاكرة قوية للحفظ، ولسانا فصيحا، يوازيها نهم الإقبال على كتب الأشعار والنصوص القديمة والسيرة والرواية الفرنسية و »كيوي » و »زومبلا » و »روديو » …، طبعا تراجع دور الكتاتيب القرآنية كان من الأولويات التي استهدفها النظام الاستعماري الفرنسي ضمن مخطط استراتيجي لضرب عقيدة الدول المستعمرة وعمق ثقافتها وفرض التعليم بمؤسسات رسمية وفق برنامج دراسي رديء، لأن المستعمر يراهن على ما بعد خروجه من الأرض التي يحتلها. ثم دخل المغرب غمارا آخر في مجال التعليم اتضح أن المسؤولين يضعون منظومة التربية في آخر خانات اهتماماتهم، فللنظر للبرامج التعليمية التي طبعها الارتجال والعشوائية وعدم التفكير في بناء مشروع لبناء نظام تعليمي يمتح من الخصوصية المغربية تاريخا وتراثا وثقافة وحضارة، مستثمرا العنصر البشري المبدع والخلاق، لكن الصراع كان محتدما من أجل البقاء لتبدأ رحلة العطش والعذاب والمعاناة بين فئة تحمي مصالحها كما نفخ الاستعمار فيها من جبروته وتبعيته، وفئة تسعى لإقرار استقلال حقيقي يزرع الأرض أملا فينبت الزرع ويمتلأ الضرع ونتوجه نحو مواقع الصدارة من الأمم .. أما وقد مر أزيد من نصف قرن من عمر الاستقلال فيبدو أن المدرسة العمومية لم تنل حظها من الاهتمام غير التجارب تلو التجارب .. لم تكن هناك مدارس خصوصية ولا اكتظاظ، فكانت الفرصة سانحة لبلورة رؤية استراتيجية لبناء المدرسة العمومية ورسم خارطة طريق لسياسة تعليمية مرتبطة بمجالي التكوين والشغل وبالتالي التنمية.
لقد سقت ما تقدم من حديث لأدلل على القول بأن 7 سنوات كانت إجحافا في حق أجيال من أبناء هذا البلد الأمين، ألم يكن من الأجدى فتح أبواب المدرسة العمومية أمام الطلاب مع سن 4 أو 5؟ فتبدو الملاحظة على بساطتها ذات أهمية بالغة، اعتبارا لما ضاع من عمرنا قبل ولوج المدرسة، الشيء الذي يؤكد عدم التعامل مع ملف التعليم بما يكفي من الجدية، وبذلك يكون من أوكل إليهم تدبير الشأن التعليمي قد أخلفوا الموعد مرات ومرات للنهوض بالقطاع، وبالتالي فأي حديث وأي « رؤية » لابد أن تقوم على أسس علمية وفق معطيات تدعو للنظر في مكونات البيت التعليمي من الداخل، بمعنى الانطواء على الذات، الوطن، لاستخراج ما بجوفه من مقومات ثقافية، بالمفهوم الواسع للثقافة، استشراف لغد أفضل، والرهان دوما على الموارد البشرية، فلنلاحظ مسالك الأمم نحو الركب الحضاري والتقدم، ولو أن لا مجال للمقارنة، سنقف عند اهتمام هذه الشعوب بالعنصر البشري لتكوينه تكوينا سليما معافى من جميع الأمراض، من جشع وطمع ورشوة وعنف ووو .. وتسليحه بزاد القيم والجمال والحب والمعرفة والفكر. أما وقد انقطع الوتر فالأمر أضحى صعب المنال إن لم نقل مستحيلا، لأنه في كل منعطف نطلب فيه مخرجا نجد بابا مؤصدة وهدرا للمال العام .. طيورا كاسرة تترصد كل بصيص أمل أو خيطا من نور شمس تمتد على مرمى البصر.
توارت العديد من الوسائل القرائية، لكن لابد من الإقرار بما أحرزه التقدم التكنولوجي من ثورة رقمية جعلت العالم قرية صغيرة وقربت المعرفة من الجيل الحالي ومن عموم الباحثين، ويبقى السؤال عن مدى استثمار هذا التقدم؟ وفي أي اتجاه يتم استثماره؟
الرئيس الفرنسي الحالي لا يتجاوز عمره 38 سنة .. في أوج الشباب والعطاء .. لم ينطلق من فراغ .. درس وتعلم وانخرط في مجال الفعل السياسي، بكل ما يحمله هذا الفعل من ملابسات قد لا نتفق معها، لكن الرجل شق طريقه وسط موكب شفاف لا دينصورات فيه .. فرنسا كغيرها من البلدان المتقدمة عمدت لاستثمار تراثها الحضاري وحضورها في بناء تاريخ أوروبا رغم ما تجتر خلفها من تاريخ استعماري أسود ملطخ بدماء شهداء بلدان كانت تحتلها بالأمس القريب .. فما بالكم ببلد كالمغرب حضارته ضاربة في ما قبل التاريخ .. لهذا أعود وأقول إن سر نجاح كل أمة يكمن في ثقافتها وعنصرها البشري .. هذا هو البعد الاستراتيجي الذي وجب تبنيه في « مشروع رؤية » لوزارة التربية الوطنية للنهوض لقطاع التعليم والمدرسة العمومية .. وللحديث بقية ..
د. محمد حماس





1 Comment
الاستاذ حماس مقالك الرائع هذا يحمس كل من يهتم بمجال التربية لانك وبكل بساطة وضعت الاصبع على الداء من خلال العنوان الرائع لهذا المقال المتميز= رؤية= لانك ترى اشياء لايراها غيرك من المهتمين بالمجال التربوي مع خالص التحيات