Home»Débats»بين عمارة فاس وكريملن بوسكورة ..جرافة انتقائية ومغرب بسرعتين.

بين عمارة فاس وكريملن بوسكورة ..جرافة انتقائية ومغرب بسرعتين.

0
Shares
PinterestGoogle+

مصطفى قشنني


وقف الرجل أمام جبل الخرسانة المسحوقة والرخام المتشقق، يحصي أنفاس حلم تحول بين عشية وضُحاها إلى غبار يلوث هواء بوسكورة. ستة عشر مليون دولار بلغة العم ترامب – أو ما يعادل جيشًا من الأصفار – ذهبت أدراج الرياح، أو بالأحرى، أدراج مجرفة “الجرافة الوطنية”. إنه “الكرملين المغربي”، ذلك القصر الذي تجرأ على أن يحلم بأن يكون تحفة، فكان مصيره أن يصبح درسًا. درسًا في فنون “الالتزام بالقانون”، أو بالأحرى، درسًا في فنون “الانتقاء القانوني” الذي يرقص على أنغام نايات السلطة.

في زاوية، هناك مالك يبكي استثمارًا ومائة وستين مليون درهم غرامات دُفعت “دون موجب”، كما يقول محاميه. وفي الزاوية المقابلة، تقف السلطات ببدلاتها القانونية المتقنة، تشير بأصابع الاتهام إلى “مخالفات جسيمة” و”تغيير طبيعة المشروع” من إسطبل خيول إلى قصر للاحتفالات. اللعبة واضحة: لقد لعب خارج الملعب المسمى “مخطط التهيئة”. المنطقة فلاحية، يا سادة! ماذا تظنون؟ أن نسمح ببناء كرملين بين الخس والبطاطس؟! إنه لخطأ جسيم، وخطير. فالأرض الفلاحية، كما نعلم، مقدسة، ويجب أن تبقى محافظة على نقائها من الخضار، ولا تدنسها قباب مستوحاة من موسكو.

لكن، مهلاً! دعونا نلتفت قليلًا، فقط مائتي كيلومتر شرقًا، إلى فاس. هناك، وبكل برود الأعصاب، تقف – أو بالأحرى كانت تقف – عمارة متوحّشة. بُنيت بترخيص لطابقين، فتشامخت وتطاولت في البنيان بأربعة. رأتها عيون “الشيخ والمقدم والباشا ووو” تنمو كالفطر السام، سنة بعد أخرى، حتى استدارت ذات يوم وانقضّت على من فيها، محولة أحلامهم إلى ركام من نوع آخر: ركام من الجثث والأحلام المقتولة. هنا، في أرض العمارات العشوائية، كانت القوانين تأخذ إجازة طويلة. كانت الرقابة نائمة، أو ربما كانت مشغولة بمراقبة “تجاوزات” قباب الكرملين المغربي الجميلة. في فاس، كان الهدم ذاتيًا، كارثيًا، وبثمن بشري فادح. في بوسكورة، كان الهدم إداريًا، “قانونيًا”، وبثمن مالي فادح. أليست هذه روعة “المغرب ذي السرعتين”سرعة فائقة في هدم أحلام الأثرياء (حتى لو كانت مرخصة جزئيًا)، وسعادة بطيئة قاتلة في مراقبة كوابيس الفقراء (حتى لو كانت مخالفة بشكل صارخ).

إنه منطق ساحر. منطق يقول: المخالفة التي تكلف ملايين، وتوفر فرص عمل، ويصاحبها دفع غرامات خيالية، لا تغتفر. يجب محوها من الوجود. بينما المخالفة التي تهدد الأرواح، وتنمو في العشوائية، وتتجذر وسط الفساد الصغير، يمكن أن تنتظر. يمكن أن تنتظر حتى ينفذ صبرها، وتسقط على رؤوس ساكنيها. ثم ننشغل بالتحقيق واللجان وتوجيه اللوم للطبيعة… أو للمقاول.

المالك المسكين يسأل: “لماذا صمتهم ست سنوات؟ ولماذا لم يسألوا من منح الرخصة أساسًا؟”. أسئلة بريئة جدًا! كأنه لا يعرف قواعد اللعبة. القاعدة الذهبية: “من اختار فلا يرجع”. لقد اختارت السلطات في البداية المسار القضائي، ثم قررت فجأة أن تلعب دور الجرافة والقاضي معًا. إنها فعالية إدارية نادرة! أليس من الأجدى، يا ترى، أن توجّه هذه الفعالية النادرة نحو آلاف المباني الآيلة للسقوط في كل حي عشوائي؟ لكن، ربما، الهدم الوقائي لأحلام الأثرياء أكثر إلحاحًا وأكثر وضوحًا للرأي العام من منع كوارث الفقراء الوشيكة. فالأول يظهر “حزم الدولة” و”سيادة القانون”، بينما الثاني يتطلب جهدًا تراكميًا وصبرًا طويلاً ولا يُرى.

إنها الكوميديا السوداء بامتياز. من جهة، “كرملين” يسقط بقرار إداري لأنه شوهد وهو “يحتفل” في أرض فلاحية. ومن جهة، عمارة تسقط بقوانين الفيزياء لأنها بُنيت بعقود من التغاضي و”عين ميكا”والإهمال. في الحالتين، الخاسر هو المواطن: إما مستثمر ذهب حلمه ومعه ماله، أو عائلة فقيرة ذهبت أحلامها مع أرواحها. أما المسؤول؟ فهو دائمًا في موقع المشير، الناقد، الآمر بالناهي. نادرًا ما يكون في موقع المحاسبة.

لذلك، عندما يهتز المشهد بهدم قصر فاخر، يبرز خطاب “عدم التسامح مع استغلال الملك العام”. خطاب قوي، مشروع، وضروري. لكن السخرية تكمن في أن هذا الخطاب نفسه يبدو كأنه يطير على متن طائرة كونكورد فوق مشاكل الوطن الحقيقية. ففي الوقت الذي ننشغل فيه بقباب مستوحاة من روسيا، فإننا نغرق في مستنقع من الفوضى العمرانية تقتل مواطنينا كل يوم. إنها ازدواجية مذهلة في الخطاب: حرب ضروس على جبهة “التحف المعمارية المخالفة”، وسلمية تامة على جبهة “القبور العمرانية المرخصة”.

لذلك، يبقى السؤال الأكبر: هل الهدم هو الحل؟ أم أن الحل يكمن في مراقبة ذكية ومنتظمة ومنسّقة تمنع المخالفة منذ البداية، سواء كانت مخالفة “غنية” أم “فقيرة”؟ هل المسؤولية تقع فقط على من يبني خارج الإطار، أم تمتد أيضًا إلى من يغضّ الطرف لسنوات ثم يستيقظ فجأة ليدمّر ويحاسب؟ بين الكرملين المدمّر والعمارة المنهارة، يرسم المغرب صورة كابوسية عن علاقته المعقدة مع القانون والعمران والمسؤولية. صورة يقول فيها الحطام، بكل لغاته: “مرحبا بكم في بلاد السرعتين. سرعة الهدم الانتقائي، وسرعة الانهيار العشوائي. اختاروا ما يناسبكم، فالنهاية، في كلا الحالين، ركام”.

====

المصدر
https://respress.ma

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *