الجشع والطب ،خطان متوازيان..

رمضان مصباح
لعارض صحي خفيف ؛وحتى لو لم يكن خفيفا، فان السبعين ،وزيادة، التي أرتديها ثوبا زمنيا، مرت مُفعمة بالصحة ،والحمد لله ؛وعليه فمهما كان الختم فمرحبا به.
قصدت طبيبة شابة لأعرض حالتي ،هذا من جهة؛ ولأقف على مستوى خريجينا في كليات الطب المغربية ؛خصوصا وهي بنت طبيب من القدماء، ترددت عليه سابقا ولم يخيب ظني.
قلت بيني وبين نفسي :فرصة للمقارنة ،اهتبلها حتى أعرف الى أين يسير بنا أطباؤنا الجدد؟
هل بدلوا؟ هل جددوا؟ هل أثروا الممارسة الطبية؟
هل هم عند قسم أبقراط؟ هل تجاوزوه الى الأفضل؟ هل نكصوا عنه؟
وأي صدى في عملهم لقسم المؤتمر العالمي الأول للطب الاسلامي ،ومنه :
« ..وأن أكون ،على الدوام، من وسائل رحمة الله ؛باذلا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو.. »
الأجر قبل العمل:
نعم سيدي ،الطبيبة تشترط هذا :الدفع قبل الفحص والتشخيص ؛وزدت من عندي متسائلا : حتى قبل « السلام عليكم ».؟
أمام هذا الرد من « السكرتيرة » ،اسيقظ في المفتش التربوي القديم الذي كنته ؛وعشقي للبحث في تفاصيل العمل الديداكتيكي الميداني ،الذي أعاينه ؛والذي غالبا ما ينتهي بالتوجيه البناء أوالثناء ؛وهلم راحة ضمير ؛في انتظار رحلة أخرى ،بكيس من الأسئلة، الى أستاذ آخر في جغرافية أخرى.
عقَّبتُ : الله الله ؛منذ تسعينيات القرن الماضي وأنا أتردد على الطبيب الأب ؛ولم أطالَب يوما بما تطالبني به الطبيبة البنت.
كانت السكرتيرة في غاية التهذيب وهي تُعقب على تعقيبي : » عافاك قولها لها ،مين تدخل »
طمأنتها أني فاعل ،وسأخبر حتى الوالد.
أما 300 د فقد دفعتها صاغرا.
عمي صباحا دكتورة:
ردتْ :أهلا وسهلا.
وبعد هذا كلُّ شيء بدا مسرعا جدا ؛بحيث « فحصتْ » أنفي ،أذني ،عنقي في دقيقة.
لا أكاد أبدأ الكلام ؛وهو فصيح دائما مع الأطباء –كما كتاباتي – حتى تُهمل الاستماع وتواصل « فحصها » السريع جدا ،وحتى العشوائي ،وكأن موج البحر صاعد الى العمارة ليُغرق من لم يهرب في الوقت المناسب.
رباه أكل هذا في الطب الجديد؟
ولما جمعت في الحديث ،المخطوف خطفا، بين العنق والأذنين ،ردت بسرعة:
الأذنان موضوع آخر ،لزيارة أخرى.
أما افتراض أن تكون هناك علاقة طبيبة بين العنق والأذنين ،فهذا شأن الأدباء وليس الأطباء.
أكل هذا في الطب الجديد؟ نعم وأكثر.
ايكوغرافيا،لكن في مختبر محدد:
حَددتْهُ بالاسم وألحتْ بحجة أنها تثق فيه .
صادف أن كان نفس المختبر الذي أتردد عليه ؛ولهذا لم أعترض على توجيهها ؛وان كنت أعلم أن التوجيه الى مختبر محدد فيه ما فيه .
ولما أنهت كل شيء في زمن قياسي ،استسمحتها في اثارة موضوع لا علاقة له بحالتي.
أثرت قضية الدفع المسبق ؛وكيف أن والدها لم يسبق له أبدا أن طالب به زواره .
ردت: الى اليوم لا يطالب أحد به.
ولترد على تعجبي صعقتني بقولها:
« هو راجل وأنا امرأة » هكذا بدارجتنا الحبيبة.
ثم همهمت مكملة: « واش كل مرة نعيط على البوليس » ..الدفع أولا.
نهضت مودعا ،وكلي بركان أسئلة:
هذه خريجة كلية الطب ،في مجتمع قطع أشواطا في احلال المرأة المكانة التي تستحقها ؛فكيف تعتبر أن رجولة والدها صمام أمان ليستخلص أجره ،وليس القانون؟
ماذا تركت لنسائنا الشعبيات الأميات من قول في هذا الجانب؟
ما الذي جعلها تعتبر الاستقواء بالرجولة ،وليس بالقانون، وهي الجامعية الدكتورة ،خريجة كلية الطب.
كيف تُغلب استثناءَ الامتناع عن الأداء ،على الأصل الشائع لدى زوار مكاتب الأطباء؟
في ما يخصني ، وعلى مدى عمري ،لم أصادف حالة واحدة من الامتناع.
كيف يمتنع أحدهم عن الأداء ،والكاميرات موجهة الى قلبه قبل سلوكه؟
ومن سيمتنع ،وقد أدلى قبلا ببطاقته الوطنية؟
وحتى لو حصل وكان عذر الممتنع هو العَوَز ،فالطبيبة تعلم جيدا أنها استفادت من المال العام ،وهي بعد تلميذة وطالبة بكلية الطب؛ فماذا سيحدث لثروتها اذا تنازلت وتسامحت ،في مرات نادرة الحصول. هناك طبيبات وأطباء يفعلون هذا أريحية ،حتى ومريضهم الفقير يهم بالدفع.
طبيبة من مستوى آخر:
كلامها بلسم يشفي ،وحركة يدها مُمرِّرة مِجَسَّ الفحص، تُشعرك بأنك ازاء العلم هذه المرة ؛بكل موضوعيته وصدقيته وحسمه.
بعد تؤدة في الفحص ،والتريث ازاء كل عضلة وشريان ،في العنق ؛ومن بين خشخشات المجس ورنين الإيكوغرافية ،وأنا أتابع على الشاشة بعض ما يوجد في هذا الجسد الرمضاني ،نطقت :
يا حاج :الحمد لله لابأس ،لا يوجد أي شيء غير عادي.
شكرا سيدتي ،والحمد لله .
والنتوء العظمي في مقدمة الحنجرة؟ ذاك العظم اللامي ،وذاك موضعه.
نهضت ،ومن شدة سروري ارتديت ثيابي ناسيا صدرية، استعدتها في ما بعد،مبتسما.
قلت بيني وبين نفسي ،وأنا عائد الى شقتي: هناك الطب ،وهناك الجشع ؛وما بينهما.
وكأني بصوت يقول : « كن اسبع وكولني »..أقبلُ أن أدفع ثمن الفحص مسبقا؛ لكن أن يكون الفاحص في المستويين الطبي والانساني المطلوبين.
لكن – ويا للمفارقة – من ارتقت انسانيته وكفاءته لا يمكن أن يشترط الأجر قبل العمل.
ايكوغرافية بكماء:
في الغد عدت الى طبيبتي،صاحبة الأجر قبل العمل ،متأبطا خيرا : ملف فحص كامل ،صورا وتقريرا.
طبعا يعرف الأطباء أنه يتطلب تأنيا في القراءة ؛وأكثر من هذا تبسيطا في الشرح للزائر ،خصوصا اذا لم يكن متعلما.
أشهد الله أنها ألقت نظرة خاطفة على خلاصته ،ولم تخاطبني بخصوص محتواه ؛وهو يتعلق بجسدي ،بحنجرتي وعنقي..
هذا ما كنت أتوقعه منها ؛ولهذا في ليلة زيارة العودة ،قرأته مليا ،مستفسرا « غوغل » عن كل تفاصيله ومصطلحاته؛ حتى صرت،ربما، أعلم به من طبيبتي.
بعد النظرة الخاطفة ،وأنا أنتظر منها طمأنة ،مبتسمة، كما يفعل بعض الأطباء، الذين يتقمصون حالة مريضهم ،حد الشعور بألمه وفرحه وشفاه؛ همت بتناول ورقة ،مهمهمة: «
دابا خصنا …
لم أتركها تكمل :ماذا ستفعلين ؟ تحليلات…
ما كان مني الا أن قلت بكامل الهدوء:
انتهى الأمر ،أوقفي هذا الملف ..هل وقعت ؟ نعم وقعت.
طاب يومك.
ثم انصرفت ،مقسما ألا أسكت عن هذا ؛وكل رجائي أن تشتمل الوحدات المدرسة بكلية الطب ،على وحدة:
شرف المهنة وأخلاق الطبيب.
واذا كان التدخل في قضية الدفع المسبق لأطباء القطاع الخاص،ممكنا،فبادروا .
انه مؤشر على مدى تكوين الطبيب ،وانسانيته: الجشع والطب الكفء خطان متوازيان
لا يلتقيان .





Aucun commentaire