Home»National»صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للمؤلف : قاسم رابح واعمر ـ الحلقة الأخيرة ـ

صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للمؤلف : قاسم رابح واعمر ـ الحلقة الأخيرة ـ

0
Shares
PinterestGoogle+

الفرار.. مرة أخرى
وفي ليلة شتوية باردة جمعنا بعض الكتب وبعض ما وقعت عليه أيدينا كسكين كبير، وعلبة كبريت، وبعض الملابس وضعنا كل ذلك في حقيبة، واتجهنا صوب جبال سيدي بلقاسم على أمل أن لا نعود أبدا…
كان الليل شديد الظلمة والبرودة، ذكرني بالفرار الأول وبليالي التحدي بقرية « أولاد اعمر »، وبعد وقت ليس بالقصير قطعنا مباشرة إلى قمة الجبل مرورا بالأودية الصعبة وبالصخور الضخمة… ولم نبلغ قمة الجبل إلا وقد جن الليل وعسعس… وكانت الأضواء العمومية لجرادة وحاسي بلال تبدو وكأنها أضواء شمعات متناثرة هناك وهناك تصارع أجنحة الظلام التي تلفها من كل جانب… كان المشهد مثيرا للغاية وكان الضباب يشتد تارة فيحجب الشمعات المتلألئة، ثم يضعف تارة أخرى ليسمح لها بالظهور من أعماق الديجور، الذي يبدو وكأنه ذلك العدم الأبدي العملاق الذي يفتح معاطفه ليظهر ما يخفيه من كنوز ذهبية وأحجار كريمة، تكاد تخطف الأبصار ثم سرعان ما يخفيها غيرة عليها من عيون النجوم والأقمار….
آوينا إلى شبه مغارة أسفل صخرة كبيرة فجمعنا الحطب وأوقدنا النار… وسرحنا بمخيلتنا في ملك الله الواحد القهار… وكانت لحظات ممتعة تبادلنا خلالها الأفكار وعمقنا المناقشات في كل ما يتعلق بالمجتمع والدين على ضوء قصة حي بن يقظان !
أشياء كثيرة كانت تغيب عنا لإدراك حقيقة مرامي القصة الفلسفية لابن طفيل، ورغم ذلك فإن الأفكار الدينية التي كانت تسيطر على عقولنا جعلتنا نرجع الأمور إلى مشيئة الله ولا نعلق كثير الأهمية على كنه الأسباب… لأن عمق الأسباب ما هي إلا لحظات متسلسلة لإدراك الحقيقة الكبرى… « ومن يهديه الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا » صدق الله العظيم.
إذا… فإن الإنسان حتى وإن عاش بعيدا عن كل الحقائق فلابد أن يصل في يوم من الأيام إلى الحقيقة الكبرى ألا وهي معرفة الله، سبحانه عز وجل، مدبر الكون، خالق كل شيء، وإليه المصير.
أما المسائل التي كانت تؤرق علماء المسلمين في وقت من الأوقات والتي أسالت حبرا كثيرا… ففي الواقع لم تكن تهمنا كثيرا، لأن زمن هذه الأفكار قد ولى وأن العالم قد أصبح يصدق بالمعقول والملموس أكثر من أي شيء آخر، إن علماء المسلمين عندما كانوا يناقشون هذه الأشياء، ربما كانوا في موقع قوة.. فأين نحن من هذه الأفكار الآن؟!
اختلط علينا الأمر لم نعد نفهم الكثير من الأشياء كما كنا نتصور.. لقد سرقتنا حلاوة التيارات العاطفية أكثر مما استقطبتنا الأفكار التقدمية… كانت برودة الليل قاسية جدا… وكانت شعلة النار التي توزع دفئها في المحيط الخارجي لا تفي بغرض التدفئة، وكان الجوع والإعياء قد أخذا منا مأخذا كبيرا… كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا… قررنا العودة إلى ديارنا قبل فوات الأوان…
أطلقنا سيقاننا للريح ولم تمض إلا ساعتان حتى كنا في دفئ بيت حميد… حيث انهالت علينا « بايا » باللوم الشديد… أما « للا » فقد استشاطت غيظا وأقسمت يمينا بأن تبلغ والدي عن هذا التصرف المجنون… إذ لا يعقل أن نبقى في الجبل إلى هذا الوقت المتأخر…! صحيح إنه تصرف أحمق!
لم نتمكن من الذهاب إلى المدرسة في ذلك اليوم، بل نمنا النهار كله… فشلنا إذا في رفع التحدي وتركنا مطالعة الكتب الفلسفية والصوفية لبعض الوقت ورجعنا إلى الروايات الأدبية التي حاولنا أن نجد فيها ضالتنا المنشودة…
***

نقطة ممتازة في الإمتحان
رغم غيابي
وقد صادف ذلك اليوم الذي غبت فيه عن المدرسة، إجراء امتحان كتابي في مادة التاريخ.. وقد احتار الأستاذ الفرنسي، مدرس هذه المادة، كيف سيتصرف معي.. فهل سيمتحنني بمفردي.. ويجري علي نفس الإمتحان الذي أجراه على زملائي؟؟.. إلا أنه في هذه الحالة ستكون العملية غير عادلة لأني سأكون قد عرفت الأسئلة التي سوف يطرحها علي مسبقا… وبعد تفكير عميق من طرف الأستاذ قرر أن يمنحني نفس النقطة التي حصلت عليها في مادة الجغرافية، وبطبيعة الحال فإن الأستاذ لم يكن ليتذكر النقطة التي حصلت عليها… وحتى يضفي على هذه الفكرة نوعا من الديموقراطية.. فقد طلب من التلاميذ الذين لا يرون مانعا في ذلك بأن يرفعوا أصابعهم،.. وحتى لا أِؤثر على أحد لكي يصوت لصالحي، فقد هرع إلي وغطى رأسي بـ »قب » جلبابي.. وقد صوت التلاميذ عن بكرة أبيهم لصالحي أي بأن تحسب لي نفس النقطة التي حصلت عليها في امتحان مادة الجغرافية…. باستثناء واحد منهم الذي كان يجلس بجانبي، والذي كنت أعده من أعز أصدقائي،… وقد ساعدته غير ما مرة في مادة الإنشاء.. والتي كان معاملها مرتفعا جدا.. ليضمن بذلك زيادة في معدله الفصلي… وقد صوت ضدي لأنه كان يعلم أني حصلت على أعلى نقطة في امتحان الجغرافية ونفس النقطة العالية ستحسب لي مرة أخرى.. صوت ضدي بدافع الحسد والغيرة.. وحتى لا أحصل على نقطة أو نقطتين إضافيتين…
أنظر كيف يصرف الله الآيات.. وكيف يدبر الأمور رغم حسد الحاسدين… لقد فررت إليه سبحانه فلم يخيب سعيي…
كوكبة العاطلين… وشيطان الشعر
بدأت أحس وكأن كل شيء بدأ يتغير بداخلي.. وكأن كل طاقات المقاومة التي كنت أتوفر عليها قد نفدت.. كنت أكره التسكع بدون هدف.. فأصبحت لا أتعب منه..كنت لا أحب الجلوس خارج المنزل.. ومراقبة الذاهبين إلى المدينة والعائدين منها وحشر أنفي في أمور لا تعنيني.. فأصبحت أتفنن في كل ذلك..
لقد تغيرت رأسا على عقب.. وأصبحت أجالس أصدقاء السوء من العاطلين، بل صرت أبحث عنهم وأناقشهم همومهم وأجلس وسطهم وأشاطرهم عالم الخزعبلات والنكت.. وابتليت مثلهم بتخزين مادة « الشمة ».. التي هي نبتة « الطابة » الممزوجة برماد العرعار والتي يخزن القليل منها تحت الشفة السفلى ليبدأ تأثيرها المباشر على الجهاز العصبي.. وتُغير بمجرد فقدانها لحرارة مفعولها.. ومعلوم أن لعنة البصق لا تفارق مستعملي هذه المادة بحيث تراهم يلقون ببصاقهم في كل مكان مما يزيد من تلويث البيئة وانتقال الأمراض…
وبما أن شيطان الشعر كان قد بدأ في تقمصي بالضبط في هذه المرحلة من حياتي، فقد كتبت عن « الشمة » قصيدة زجلية استحسنها الكثيرون آنذاك.. بل ومنهم من لحنها وغناها.. كما كتبت أشعارا أخرى منها النثرية ومنها التقليدية ولكن مع الأسف ولظروف خاصة لم ينجو من التلف منها إلا النزر القليل..
كانت المجموعة تلتئم هنا وهناك، لا شغل لها إلا استعمال « الشمة » والبصق في الطرقات، وخلق الأسباب من أجل الضحك.. كـ « صنع » النكت من تصرفات بعض الأفراد المعروفين أو التذكير بمستملحات بعض مشاهير القبيلة.. وكان هناك شبه تضامن بينهم، بحيث كانوا يقتسمون « الشمة » والسجائر و »الجوانات » ودأبوا في عرفهم على ألا يبخل أحد بهذه المواد على أفراد المجموعة ولو تعلق الأمر بسيجارة واحدة، فإنهم كانوا يدخنونها بالتناوب لتنتقل بين الشفاه حتى لا يبقى منها أي شيء.
وكانوا في بعض الأحيان ينفضون عنهم غبار التقوقع، لينظموا مباريات شيقة في كرة القدم.. التي لم أكن في السابق لأعيرها أي اهتمام.. فأصبحت بين عشية وضحاها من المهتمين بها.. فقط لأن حميد كان من المسكونين بحب هذه اللعبة آلتي كان يمارسها.. ولهذا فقد أصبحت أرافقه في كل نزالاته الكروية لأحتل بذلك مكان الصدارة في كوكبة المشجعين للفريق الذي يلعب معه حميد..
***
 » دوار أولاد أعمر » بجرادة
دوار « أولاد أعمر » بجرادة هو الحي الأكثر أقدمية من حيث الزمن.. والأكثر شساعة من حيث المكان ولكنه لم يشكل أي استثناء من الناحية الإجماعية عن باقي الأحياء الشعبية المهمشة التي تتناسل بسرعة تناسل الخلايا في الأجسام الحية.. بدأ التوافد عليه مع بداية الهجرة الكبيرة في الأربعينيات من القرن الماضي.. ويكون هذا المجمع السكني قد ضرب الرقم القياسي في استيعاب الوافدين عليه من قبائل « أولاد أعمر ».. فكل من التحق بمدينة الفحم من القرى العمراوية بنية طلب الشغل والاستقرار.. يصبح ملزما بالعيش في كنف معارفه القدماء الذين غالبا ما تكون تربطه بهم قرابة دموية.. ليصبح ذات يوم منفصلا عنهم وقد شيد بيته الخشبي أو خيمته بجوارهم على بعد بضعة أمتار.. وهكذا نجد الترابط العائلي والقبلي قد لعبا دورهما الرئيسيين في هندسة و تكوين وتنظيم موقع السكن الذي غالبا ما يأخذ شكله العشوائي،.. الذي لا يرضخ لأية سياسة تتعلق بتكوين المدن.. خاصة وأن السلطات المحلية كانت تفضل البقاء بعيدا عن مشاكل السكن.. وتكتفي بتسجيل واقعة وصول النزلاء الجدد بواسطة حضور « المقدم » الذي يأخذ علما بذلك.. ويكتفي بتقييد أسمائهم في سجلاته..
ومع مرور الزمن.. بدأ حصير الخيام وألواح المنازل الخشبية المغطاة بالورق المزفت، وكذا الدور المبنية بلبنات الطين والتبن.. بدءوا في الاختفاء شيئا فشيئا ليتركوا المكان لبنيان عصري في شكل منازل ذات طابق أو طابقين تتوفر على الإنارة والماء الصالح للشرب.. ويبدو أن هذه المنازل العصرية التي استمدت شرعيتها من رحم خيمة أو منزل خشبي كان قد نصب ذات يوم على رقعة ذلك المكان، ليشهد أفراحا كالقران والمواليد، وأتراحا كفقدان عزيز على العائلة.. يبدو أن هذه المنازل احتفظت بمواقعها الأصلية غير المتناسقة، ولم تغيرها،… ربما وفاء منها للحفاظ على بركة الآباء والأجداد.. وذلك رغم الفوضوية الظاهرة للعيان،.. يكفي للمرء أن يقف على رأس التل الذي يفصل دوار « أولاد أعمر » عن جرادة المدينة ليتأمل الصورة الصادمة لغياب أي تنسيق في موقع البنايات العصرية.. حيث تتكدس وتضيق في بعض المراكز لتخف في بعضها..
ولكن العارفين بالإثنلوجيا العمراوية وتفاصيلها سوف يلاحظون بدون كبير عناء، أن القرابة الدموية والعشائرية القبلية بكل مجموعاتها « بدواويرها وفخذاتها وأسرها »، كانت بمثابة المايسترو الذي صمم بعبقرية فذة، إخراج لوحات تموقع البنايات السكنية بـ « دوار أولاد أعمر » بـ »جرادة »… فرغم مرور الزمن ورغم ظروف العيش المتطورة في أكبر تجمع سكني في جرادة وما يفرضه من الأساليب العصرية الجديدة آلتي لا تقيم وزنا « لوثنية » القرابة العائلية فيبدو بأن « أولاد اعمر » من أكبر المحافظين على طقوس هذه القرابة… فالمساحة الضخمة التي يحدها السوق الأسبوعي أو « سوق الحد » جنوبا، وخط السكة الحديدية آلتي تربط « جرادة » « بحاسي بلال » شمالا، ومدينة جرادة شرقا، ومعمل الكهرباء غربا تعد منذ القدم مضارب لتمركز الساكنة النازحة من « أولاد أعمر » العاصمة، وكأني بهذه الساكنة حاولت الاحتفاظ في تجمعاتها، بنفس النمط الذي توجد عليه في القرية الأم في شبه مجموعات صغيرة… وهكذا نجد مجموعة « إقسوين » تحتل المقدمة في أعلى ضفة الوادي الجاف تليها « إضرضار » ثم « أولا أعمر بن علي » و »بني أورغ » عامة وباقي المجموعات… والأسر العمراوية، متلاحمة فيما بينها بالدرجة الأولى وفيما بينها وبين باقي المجموعات بالدرجة الثانية.. ولا شك أن هناك استثناآت من هذا التصنيف نظرا للعوامل التي ذكرت بعضها في بداية هذه الفقرة …
وكأي تجمع سكني يحافظ بفترته على تقاليده الموروثة وخاصة مناسكه الدينية فيجب على الإنسان الذي عاش بـ »دوار أولاد أعمر »أن يتريث في إصدار أحكامه.. حتى لا يلصق تهما مجانية بأبناء بلدتي وهم منها براء براءة الذئب من دم يوسف.. لأن كلما عاش الإنسان في عمق قبائل « أولاد أعمر » كلما اتضح له بالملموس وجود حقائق أخرى ستجعله يغير رأيه مرارا فقط لأن ما خفي من هذا « الدوار » كان أعظم…
فلا تغرنك إذا، قهقهات بعض المنحرفين، والعاطلين المتعاطين للمخدرات، ولا تعاليق السكارى الذين يخيل إليهم أن كل شيء أصبح مباحا.. لتحكم على التجمع السكاني بما لا يليق.. يكفيك أن تستيقظ فجرا لتغير رأيك، عندما ترى أشباح المؤمنين في ظلام الفجر، زرافات ووحدانا، وهم يهرعون إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر جماعة.. وستلاحظ من تلقاء نفسك بأن عدد المواظبين على أداء الصلاة في المسجد أكثر بكثير من ثلة المنحرفين.. بل وأنه طال الحال أم قصر، فإن نفحات التوبة لله لا بد لها أن تهز قلوبا كانت بالأمس القريب نُوَّماً.. ولقد شهدت بأم عيني حالات كثيرة من هذا النوع.. بل والأكثر من هذا كله،.. لا تستغرب إذا تناهى إلى سمعك صدى الأذكار والمديح الصوفي، فلا يجب أن يتبادر إلى ذهنك أن الأمر يتعلق بمذياع أو مديح مسجل.. بل إن الأمر يتعلق بأصوات مجموعات من الفقراء والفقيرات من « الزاوية القادرية » خاصة، وقد صدحت غير بعيد عن المسجد.. من بيت الفقيرة إلى الله « رقية زوهتان » بالقول الفصل في توحيد اسم الله الأعظم، وقراءة الأذكار وتكرار « اللطيف » والأمداح النبوية بأصوات دافئة شجية، سيجذبك إليها مغناطيسها السحري في يوم من الأيام لتلقي بنعالك أمام عتبات تلك المنازل\ الزوايا وتدخلها بدون ميعاد وبدون استئذان..لأن الإذن كان قد جاءك من حيث لا تشعر..فتدخلها ولسان حالك يردد « يا حسرة على ما فرطت في جنب الله »…
نعم إنهم « أولاد أعمر ».. قبائل أمازيغية مسلمة.. لم تلبث حتى بدأت مصابيح الهدى التي ارتوت من حب الله ورسوله تتلألأ في ظلامها واحدا تلو الآخر،.. وآلاء الله تصل بأهله أسبابه… وهكذا فقد أضاء ديجورها فقهاء « عمراويون » خرجوا من رحمها.. أناس ككل الناس ولكنهم عقدوا العزم على حفظ القرآن الكريم والتفقه في أمور الدين، حتى قربوا هذا الدين من نمط عيش الساكنة « العمراوية » المتعطشة بفطرتها إلى الارتواء بحب الله ومعرفة شرعه.. وقد سمعنا الكثير من الحكايات حول أسماء رددتها الألسن،. أسماء تليق كتابتها بمداد الفخر والاعتزاز، أمثال « السي موسى » و »السى محند » و »السي حمو » و »السي البشير » والآخرين..هذه الأسماء التي انتزعت كلمة « السي » من القبائل المحافظة، عن جدارة واستحقاق، بإرادتها القوية وبإيمانها وتقواها.. حتى أصبحت هذه اللفظة تسبق أسماءهم كوسام يميزهم عن غيرهم.. كميدالية تزين صدورهم وتدل على أن حاملها يحفظ القرآن وفقيه في الشريعة الإسلامية… إلا أنهم ليسوا من الشرفاء،.. فلو كانوا شرفاء من أهل البيت لنودي عليهم بـ »سيدي »..
وكما أن « أولاد أعمر » كانوا أمناء في استعمال كلمتي « السي » و »سيدي ».. فهم أمناء كذلك في الإحاطة بالاحترام الديني الخاص بالأشخاص الذين يستحقون ذلك حسب فهمهم.. فقد لاحظت أن أهلنا لم يقوموا بتكريم أي شخص من بني جلدتهم كتشييد ضريح خاص به لإضفاء نوع من الاحترام عليه، خاصة وقد شهدوا له بالصلاح وكانوا من شهداء الكرمات التي جرت على يديه، بخلاف أهل البيت من الأدارسة مثلا الذين عاشوا بين ظهرانيهم، فلم يدخروا أي جهد في إحاطتهم بهالة من القدسية سواء قيد حياتهم أو بعد مماتهم،..
بدوار أولاد أعمر بجرادة ورغم تعاطينا للتدخين، ورغم التطرق في كلامنا لفواحش يندى لها الجبين، فكنا عندما نسمع أصوات الفقيرات وهن يِؤدين « وظيفتهن » كنا نلتزم الصمت رغم أنفنا.. بل كنا نمضي مرددين بداخلنا ما تردده الأصوات المرتعشة للفقيرات،.. بل وأن الفقيرات كن يحظين من لدن الجميع بالاحترام الكبير..
كنت في يوم من الأيام ماضيا مع حميد إلى الإعدادية، وكنا قد تأخرنا عن موعد الدخول.. وغير بعيد عن ديارنا.. صادفنا الفقيرة « للا فاطنة » وهي تنوء تحت ثقل برميل من الماء جلبته من حنفية بعيدة، وبسرعة البرق، حملنا عنها البرميل وأوصلناه إلى بيتها وانطلقنا نعدو إلى الإعدادية لنندس خلف الصفوف أثناء تحية العالم.. دون أن تقع علينا عين الحارس العام الذي كان واقفا أمامنا، والذي كان صارما في معاقبة المتأخرين…
« وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. » صدق الله العظيم

أضرحة أولياء الله
وقد اصطلح على تسمية أولياء الله بـ « رجال لبلاد » وصار في المعتقد الشعبي أن « رجال البلاد » هم الصلحاء من أهلها: أحياء، كانوا أو ميتين وأنهم يقفون بالمرصاد لصد الأعداء ورد شرورهم، عن الوطن وعن السكان، وعن المناطق التي يتواجدون بها..
بالإضافة إلى خلوة « سيدي بالقاسم أزروال » بجبال جرادة وإقامته بها وبقبائل بني يعلى، هناك ضريح « سيدي محند أوصالح »، الذي يقع على مرمى الحجر من الطريق الذي يمر عبر قرية « لعوينات »، والذي يربط جرادة بوجدة.. وكان هذا الضريح المتواضع والموجود وسط المقابر والذي زرته مرارا رفقة الأهل، وإلى عهد قريب، كان، يعرف زيارات كثيرة وخاصة من طرف النساء ..
وأثناء تواجدي بجرادة فقد أتيحت لي فرصة زيارة أضرحة الأولياء المعروفين، لكوني كنت أدعى من طرف معارفي من الأهل والجيران لأرافقهم في هذه الزيارات، والتي كانوا يقومون خلالها بتقديم الصدقات للحاضرين بما فيهم القائمين على شؤون الأضرحة، في شكل إطعام، والذي لم يكن أكثر من وجبة من الكسكوس، مع اللحم بالزبيب والبصل،..
وغير بعيد خلف جبال سيدي بالقاسم بمنطقة « مطروح » هناك ضريح لولي آخر هو « سيدي الخضر »… وقد زرت « سيدي لخضر » رفقة ابن عمي حميد وعائلته، وعلى رأسها والدته.. وقد قرروا إمضاء الليلة بالضريح، الذي هو عبارة عن حجرة كبيرة مبنية بالطين والحجر..
وقد أمضيت رفقة حميد أوقاتا ممتعة في الهواء الطلق، بعيدا عن الوسط الملوث لـ »جرادة » و »حاسي بلال »… ومما زاد هذه الزيارة متعة وحيوية، فقد التقينا صدفة بزوج امرأة منحدرة من « أولاد أعمر »، وكانت له دراجة نارية ذات محرك كبير.. سمح لنا بامتطائها عبر طرق ترابية مستوية.. وكانت بالنسبة لي، المرة الأولى التي أقود فيها دراجة نارية من هذا الحجم..
كانت ساحة الضريح عبارة عن مقبرة كبيرة.. وكانت أغلب القبور قديمة، بل وكان بعضها ضاربا في القدم.. وقبل أن تنادينا أم حميد إلى تناول طعام العشاء الذي كان كسكوسا شهيا.. فقد لمحنا وسط القبور شخصا كان جالسا ثم وقف، ولم نتأكد من أنه كان يصلي إلا عندما ركع…
اتصلنا بالرجل الذي انتظرناه حتى أنهى صلاته.. فإذا بنا نتعرف عليه بمجرد الاقتراب منه.. إنه والد أحد التلاميذ الذي يدرس بالإعدادية والذي تعرفنا عليه من خلال تبادل الكتب.. كان الرجل يدعى « الحاج بوستة »، وكان يبيع الأثواب بدكان صغير بحي « الطوبية ».. وكان لا يُرى إلا ذاهبا إلى المسجد أو خارجا منه.. وكانت سبحته لا تفارق يده… واستطعنا أن نتجاذب معه أطراف الحديث.. وأخبرنا بالمناسبة أنه مواظب على زيارة الأضرحة التي يقضي بها الليالي وينام وسط القبور بمفرده.. وعندما دعوناه إلى تناول العشاء معنا.. طلب منا بأن نحظر له شيئا قليلا من الطعام وألا نهتم بأمره لأنه سيصلي طويلا وسينام حيث يصلي وسط القبور…
وبالجهة الشرقية لمدينة جرادة وغير بعيد عن الطريق الذي يربط بين « عين بني مطهر » و »وجدة » يوجد ضريح آخر لولي من أولياء الله هو « سيدي أحمد بن الشيخ »…
لم تتح لي فرصة زيارة الضريح ،.. ولكنني دعيت رفقة أبناء عمي لحضور « الوعدة » أو الموسم السنوي الذي كانت تقوم به القبائل المجاورة احتفاء بهذا الولي الصالح وتدعو القبائل الأخرى لمشاطرتها في هذا الموسم.. كانت مجموعة كبيرة من أبناء « دوار أولاد اعمر » حاضرة بالاحتفال.. وكنا قد وصلنا لتونا.. وجلسنا بإحدى الخيام المنصوبة.. إلا أن جلوسنا لم يدم طويلا بحيث جاءنا أحد أعيان « دوار أولاد أعمر »، وكأن على رأسه الطير، فبدأ يلوح بيديه و يشير علينا بمغادرة المكان فورا، لأن مناوشات كلامية اندلعت بين بعض أبناء جماعتنا ومجموعة من الشباب من « أولاد الشيخ » وتفاديا لانزلاق الناس في اتجاه هذه الحادثة وحصول مالا تحمد عقباه… فإن جماعتنا قررت الانسحاب من « الوعدة » احتجاجا على هذه التصرفات من جهة ومن جهة أخرى لتضع منظمي الاحتفالات أمام مسؤولياتهم،.. وهكذا غادرنا الأمكنة بهدوء حذر وبخيبة أمل كبيرة…

***

شرفاء « بني وال »
وقد تهزك ذبذبات لاسلكية وأنت تسمع أصواتا مبحوحة وكأنها تتناهى إليك من عمق الغيب من خلف غابة القصب الذي كان يغطي حافة الوادي الجاف الذي توجد به حديقة أو زريبة « قدور الماحي » ،.. تتناهى إليك من منزل « سيدي أمحمد » قيدوم شرفاء « بني وال »، أو أنشط نشطائهم في ذلك الوقت وهو يحيى ليلته مع مريديه، وكنت أسترق السمع إلى الأصوات وكأنها حَشْرَجات تودع فيها الروحُ الجسدَ، فيمد هذا الأخير يده ليعيدها إليه.. وتستمر المعركة بين الحياة والموت تقاطعها نقرات على دف يقوى ويضعف وكأنه يلعب دور الحكم بينهما.. وتعلو الأصوات مجلجلة.. مبهمة تارة، وتارة واضحة تلح في الطلب.. وتتغير الألحان شيئا فشيئا من أصوات مطمئنة دافئة، مصرة على الحياة إلى أصوات مسرعة، مرعبة، مجلجلة، منبئة بالاختناق،.. وتبلغ معركة الأصوات ذروتها، وذلك بدق طبل الإغاثة بسرعة خفيفة… وبين الدقة والدقة تعلو الحشرجات.. ويضيق الخناق.. ويصعب التنفس.. وكأني بها النهاية المحتومة.. إلا أن الصوت النشاز يبدأ في الأنين من خلال ترديده الاسم الأعظم.. وكأنها أحرف وداع نُطقت مبهمة قبل الوداع.. ويتشبث الصوت الغارق بغصن النشاز.. وتظهر البحة.. وتخفت دقات الطبل لتتلون بالأمل من جديد.. وتتغير الأصوات من الحشرجات إلى الوضوح شيئا فشيئا ويمتد الاسم الأعظم بوضوح وكأني به قد تجلى في المسافة الفاصلة بين الكاف والنون… وتنتصر الحياة من جديد لتلهج باسم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.. سبحانه عما يشركون…
شرفاء « بني وال » هم الشرفاء المنتسبون لـ « سيدي إسماعيل الوالي » دفين دوار « لعتامنة » بـ »أولاد أعمر »، والذي يعد من أقدم الشرفاء المنتسبين إلى ذرية سيد البريئة سيدنا محمد صل الله عليه وسلم، الذي استقر بمنطقتنا.. وحسب بعض المصادر فقد حاز »بني وال » « ظهائر » التوقير والاحترام لأجل النسب النبوي منذ عهد السلطان المريني أبو الحسن علي بن عثمان المعروف بالسلطان الأسود « لكحل » وذلك خلال السنوات من732 إلى751 هجرية…
ويحكى أن هذا القطب الرباني « سيدي إسماعيل » الذي أسس زاويته بين مدينة « الجديدة » و »سيدي بنور » سرعان ما ذاع صيته، مما جعله يخاف على نفسه وفضل أن يحيى حياة أخرى غير حياة التكريم فساح في الأرض حتى انتهي به المطاف إلى جبال « أولاد أعمر »..
وللولي الصالح كرامات كثيرة وأهمها تحديه لثعبان كان يسكن رأس الجبل وحرم على الناس قضاء مآربهم بذلك الجبل.. ولما تولى « سيدي إسماعيل » رعاية غنم الأهالي فقد قصد ذلك الجبل ـ رغم تحذيرات القوم له من الثعبان ـ.. دون أدنى إحساس بالخوف، مؤمنا إيمانا راسخا بأن الأمر بيد الله.. فلما رأوا أن الثعبان لا يصل إليه قالوا عنه: إن إسماعيل الراعي… ولي من أولياء الله..
وتذكر المصادر أن شرفاء « بني وال » كانوا يملكون أراضي شاسعة تمتد من « عين بن بانة » بـ »كافايت » حتى « سيدي علي أومسعود » بـ »بني كولال » و »أولاد الميدي »..

***

« دانيال »…يصور الخيام
كان « دنيال » أستاذي في اللغة الفرنسية خلال السنتين الأخيرتين بإعدادية جرادة… وقد ساعدني كثيرا على الإلمام باللغة الفرنسية.. وعلى النحو وتصريف الأفعال بهذه اللغة.. وفي يوم من الأيام وجد صدفة في آخر صفحة من دفتري للفرنسية، صفحة كاملة مكتوبة باللغة العربية.. فطلب مني أن أترجم له ذلك.. فتفاجأ عندما علم أن الأمر كان يتعلق بمحاولة شعرية.. فسألني طويلا عن الشعر العربي وعن الشعراء العرب.. ومنذ متى وأنا أكتب الشعر..
وقد لا حظ دنيال وحسب تعبيره بأني أمتلك الحاسة الشعرية.. وأن تعبيري وكتاباتي الإنشائية بالفرنسية جميلة.. غير أني لا زلت أرتكب أخطاء إملائية ولغوية.. ولتفادي هذا الأمر فإنه يجب علي أن أطالع كثيرا بلغة موليير.. وهكذا نشأت بيني وبين أستاذي علاقة صداقة خجولة.. إذ كان في بعض الأحيان يسألني عن بعض الأشياء التي تدخل ضمن نمط عيش المغاربة.. ولا يفهم منطقها..
وكان « دانيال » مولعا بأخذ الصور الفوتوغرافية.. وعندما علم أني أسكن في « دوار أولاد اعمر ».. فقد طلب مني إن كان بالإمكان أن يزور الدوار ليلتقط صورا لخيمة عمراوية تقليدية.. وفعلا فقد طلبت الإذن من « للا » التي وافقت في البداية ليصور الأستاذ خيمتها الصغيرة.. ولكنها سرعان ما تراجعت عندما علمت أنه يعتزم تصوير الخيمة من داخلها… وإذا كانت « للا » قد وضعتني في موقف لا أحسد عليه، لأني كنت قد أخبرت الأستاذ بالموافقة، فإن « بايا » عكس ذلك، قد وقفت موقفا مشرفا.. إذ سمحت لي رفقة حميد باستضافة الأستاذ بمنزلها.. ورحبت به ببعض الكلمات بالفرنسية.. وهيأت له الشاي بالحلويات مما جعل دنيال يكاد يطير فرحا..
أما عن تصوير الخيمة، فقد وجدنا حلا آخر لدى أبناء « إقسوين » الذين كانوا زملائي في الإعدادية وكانوا في أكثر من قسم من الأقسام التي يدرس بها دنيال.. وبمجرد ما فهموا سبب زيارته حتى هرعوا إلينا وقدموا لنا يد المساعدة، وذلك بتصوير مجموعة من الخيام أكبر وأجمل من خيمة « للا » بكثير من الداخل والخارج، ومع الكثير من الترحاب وكلام المجاملة في حق ضيفي…
***

محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه
كانت السنة الدراسية الثالثة هي السنة الحاسمة التي يتم فيها التوجيه إلى الشعبة الأدبية أو العلمية التي يرغب الطالب في متابعة دراسته بها… وقد بدأت أفكر كثيرا في مصيري… ماذا عساي أن أفعل وقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الفشل التام:
التوجيه إلى الشعبة العلمية أصبح مستحيلا، أما التوجيه إلى الشعبة الأدبية فقد يكون ممكنا إذا ضاعفت جهودي خلال المدة المتبقية.. ورغم إدراكي العميق بوضعيتي التي لا أحسد عليها، فإني لن أتمكن من جمع شتاتي الفكري ولن أستطيع الخروج من ظلام المتاهة التي كنت أتخبط فيها… بدأ اليأس يدب إلى أعماقي وبدأت استسلم للواقع المر وكأنه غول سيفتك بي لا محالة… أصبحت أتعاطى للتدخين بصفة شبه علانية.. كلما سنحت لي الفرصة بذلك. أصبحت لا أفارق سعيدا وحميدا إلا لماما… لقد تحولت مع حميد إلى الاتجاه المعاكس مائة بالمائة وبدأنا نقر بمبدأ « كن ذئبا لكي لا تأكلك الذئاب » كان السقوط عنيفا ومؤلما جدا على نفسي التي كانت بالأمس القريب لا ترضى بهذا الحضيض وبهذه القاذورات…. حاولت المقاومة ولكن سرعان ما انكسرتُ.
كل الظروف أصبحت تلعب فى غير صالحي… وليس من المؤكد أن يتم توجيهي حتى نحو الشعبة الأدبية كفرصة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وذلك رغم النقاط الجيدة التي أحصل عليها في المواد الأدبية.. إلا أن أساتذة المواد العلمية يمكن لهم أن يشهروا البطاقة الحمراء في وجهي ويقرروا بأن أكرر السنة بكل بساطة…
أما عن شهادة نهاية الدروس الثانوية، فبكل صراحة لم أكن لأعيرها أي اهتمام… لأنها سوف لن تفيدني في أي شيء، إذا ما نجحت إلى السنة المقبلة وتم توجيهي إلى الشعبة الأدبية…
لم أعد قادرا على فعل أي شيء من أجل تحسين وضعيتي الدراسية.. أو حتى محاولة الالتحاق بالركب.. لقد أصبح تذمري واضحا للعيان… وعزفت حتى عن الاغتسال وعن حلق شعري الكثيف الذي طال أكثر من اللازم…
***

وداويني بالتي هي الداء
ولأول مرة سأحضر مجلسا يدخن فيه القنب الهندي أو « الكيف » وذلك في بيت بعض أصدقاء سعيد… وإذا كان خوفي في البداية كبيرا من مشاهدة ومعايشة مثل هذه المناظر مباشرة وبالألوان الطبيعية لتعاطي هذا المخدر الخطير، فإن هذا الخوف سرعان ما سيترك مكانه لنوع من اللامبالاة … لقد غطست بنفسي كليا في هذا المستنقع… وكنت أنكمش على نفسي كلما شرعت في تدخين الكيف… وخلافا لسعيد ولحميد وللجماعة التي كنا ندخن معهم، الذين كانوا يسترسلون في الضحك الهستيري على مدى ساعات طوال فإني كنت أنزوي إلى ركن معين لأستسلم لقدري وأرضخ للأصوات الغريبة والمناظر الشيطانية اللعينة التي تفرضها علي الهلوسة… لا أقول بأن عالم الهلوسة كان يعجبني، ولكنه كان بالنسبة إلي عبارة عن سويعات يستقيل خلالها العقل رغم أنفه… إلا أنه مع تكرار التجربة لم تعد هذه الاستقالة بالأمر الهين… بل كان علي أن أدخن الكثير لكي أصل إلى حالة نشوة مؤقتة سرعان ما كانت تهوي بي إلى بئر سحيق مظلم لا أخرج منه إلا لأجد نفسي في مستنـقع يصعب التخلص منه.
لقد حاول الزملاء جرى إلى عالم الضحك والتداعي الحر والسخرية من أي شيء، حتى من أنفسهم… ولكن مزاجي هنا كان مختلفا، ولم يفلح حميد في إضحاكي وهو الذي كنت بالأمس القريب أتفاهم معه بأدنى إشارة.
كان الصراع الداخلي الذي أمر به قاسيا جدا… فرغم الاستسلام الواضح من تصرفاتي، فإن شعوري الداخلي كان عبارة عن بركان لا يهدأ… بركان لا يجد القوة اللازمة التي تجعله يقذف الحمم والنيران المتضاربة بأحشائه خارج الفوهة ولا يجد السكينة والهدوء ليستقر سالما مسالما مع مكوناته ومحيطه… كانت حالتي خطيرة، والأخطر منها هو هذا الشعور بالإحباط الكلي.. والاستسلام لأي شيء يبعدني لبعض الوقت عن هذا الواقع المر… وكم مرة حدثتني نفسي بالانتحار… فما أشبه اليوم بالبارحة… كانت التجربة التي مررت بها بـ »أولاد اعمر » تعيد نفسها مرات ومرات أمام عيني… وكنت أحاول تجاهلها!
ثم، أليست هذه الحالة التي أعيشها انتحارا بالتقسيط… انتحارا شيئا فشيئا… بل إنها أخطر من الانتحار!… الانتحار هو التعبير الشجاع والفوري عن حالة ميؤوس منها بينما الحالة التي أحياها هي تعبير جبان… هي سياسة النعامة التي تدس رأسها في الرمال… هي محاولة تغطية الشمس بالغربال.
ومع ذلك فلم يكن بوسعي أن أنتبه لنفسي وأتخذ أي قرار شجاع… كنت كأي شيء خفيف فقد وزنه فى مهب رياح عاتية تعبث به كما تشاء… لم يعد هدفي واضحا كما كان فى السابق.. ومن جديد أصبح السؤال الرئيسي يحيرني ويؤِرقني هل سأتمكن من متابعة دراستي أم لا؟… سؤال استحوذ علي ولم يعد يفارقني..
تغلغلت في الرذائل أكثر فأكثر رفقة سعيد الذي لم يعد يخفى عنى أي شيء.. لم يعد يتحفظ من اصطحابي معه إلى السهرات الأقل حشمة وحياء.. والواقع، لم يكن لدينا أي برنامج نتفق عليه مسبقا.. كنا نعيش حسب الظروف.. كم مرة كان سعيد يدعوني إلى حانة الخمر لاحتساء زجاجة أو زجاجتين من الجعة.. ولكن لا أحد يمكن أن يتكهن بما سيقع بعد ذلك.. فقد ننضم إلى زمرة من الزمر التي يعرفها سعيد، وقد نلتقي مع هؤلاء السكارى الذين لا يستطيعون السيطرة على أنفسهم.. فيدعوننا إلى مشاطرتهم شرابهم بل وهمومهم.. وبعدها ترفع الكلفة و تتوطد عرى المحبة والتضامن بين متعاطي الخمر ويسقط الخجل لتنفتح أبواب القلوب الصدئة المتهرئة من كثرة مشاكل الدنيا.. ويبدأ التداعي الحر بل والقيء الحار… ترى الثملين يتساران ويصبحان متحابين ومتضامنين و كريمين تجاه بعضهما البعض.. وكأنهما صديقين منذ فجر الوجود و يبدآن في تقديم « قسم الخمر ».. بل ويقسمان بها: « وحق هذا لحرام الذي جمعنا من غير ميعاد ».. وتبدأ العنتريات ويبدأ السرد الذي لا ينتهي وتستيقظ « الأنا النائمة » وتعلو على كل شيء ليكثر الجدل والصخب والضوضاء… وتظهر بوضوح معالم « الحاتميات » في الكرم الزائد عن اللازم… فيقوم أحدهم ليؤدي نخبا على الحاضرين.. فيقوم الآخر ليؤدى ضعفي ما قدم الأول… فيقوم الثالث فيؤدى أضعاف ما قدم الأولان… وهكذا تبدأ المزايدات في شبه بورصة مغلقة ويصبح هم عاقر الخمر الحفاظ على قيمة أسهمه مرتفعة ـ في نظر الحاضرين ـ في بنك الشيطان.. وخاصة الذين التحقوا بالحانة حديثا ولم يتناولوا بعد الكمية الكافية التي تجعلهم « يدخلون ويخرجون فى الهدرة » ليلتحقوا بالركب السكران… وخلال ذلك يكثر الإطناب من طرف الانتهازيين الذين يسكرون على « ظهر الشمايت » فى حق الكرماء الذين سخرهم الشيطان ليبذروا أموالهم فى الحرام…وغالبا ما تنتهي هذه الأمسيات بالخصام بين الذين يريدون أن يفرضوا وجودهم على الآخرين ،فتكثر التناقضات الفارغة والخيالية فيلجأ السكارى بعد ذلك إلى استعمال العنف،..ويصبح الشيطان في النهاية هو الرابح الأكبر بعد صاحب الحانة…
***
« الغزوات » الليلية
حضرت بعض الأمسيات من هذا النوع مع سعيد، وغالبا ما كانت تنتهي بالخصام العنيف بين شاربي الخمور.. وكان لسعيد حصة الأسد فى هذه المناوشات.. لأنه لم يكن يعرف سعته فى الشراب.. كان يشرب حتى يفقد صوابه.. وكنت فى كثير من الأحيان أبقى يقظا ولا أتمادى فى الشراب لكي أصل رفقة سعيد إلى شاطئ النجاة وأحاول فك الخلافات التي تنشب بينه وبين الآخرين..
الناس يشربون للترويح عن النفس.. أما سعيد فإنه كان يشرب ليدخل فى الصراعات حتى مع نفسه.. وكان الشراب يغذى فيه روح المغامرة.. ونزولا عند رغبته كنا نعرج على « حي الطوبية » الذي هو حي شعبي وتوجد به بعض المومسات.. اللواتي كنا نزورهن فى آخر الليل لنطرق أبوابهن دون خجل..
وخلال إحدى هذه الزيارات الليلية صادفنا باب إحداهن مفتوحا فدخلنا إلى الحوش لنجد جماعة من الزبناء بصدد إحياء سهرتهم مع صاحبات المحل فأبى سعيد إلا أن يشاركهم جلستهم… إلا أن إصرار أحدهم على طردنا خارج الحوش جعل سعيد يقسم « يمين السكران » حتى يشاركهم… ولولا تدخل الحاجة « الباترونة » التي آوتنا إلى بيت صغير « وشدت بخاطر » سعيد، كنا سنصل إلى مالا تحمد عقباه.. خاصة وأن خصمنا قد أخرج سكينا وأقسم بأن لا « نحط أرجلنا » معهم… وخلال جلستنا القصيرة مع الحاجة فى بيت صغير يكاد يكون مظلما.. استطاعت قيدومة المومسات بأن تقنع سعيدا « بفك هذه الجرة ».. وأقسمت له بدورها بأن تخصص لنا جلسة مريحة لاحقا.. شريطة أن نخبرها بوقت كاف حتى تتمكن من تدبير الأمور كما يجب.. وكانت الحاجة تتكلم مع سعيد وقد أخذت بيده بين كفيها تضغط عليها من حين لآخر.. وكأنها تريد بذلك كسب ثقته… أما أنا فقد راعني منظر أفراد الجماعة الساهرة بالحوش والتي كنت أنظر إليهم من داخل البيت شبه المظلم… وكان من بينهم بالخصوص شخص طويل القامة أكثر من اللازم، والذي كان يهز جسده يمنة ويسرة محاكيا ألحان الأغنية الشعبية المنبعثة من آلة التسجيل.. وأمامه، وقبالة مصباح الضوء، وجه صبية ربما كانت أصغرهم جميعا، وقد رفعت صوتها بالغناء، محاكية الأسطوانة.. إلا أن نطقها لحرف الراء كان بالطريقة الفاسية، أو كاد يكون كذلك، مما جعل شابا كان يجلس جنبها يتعرض لانتقادها ويقهقه عاليا من غنائها…
الخمر والحشيش والنساء: إنها مطايا الشيطان إلى عنوان اسمه جحيم الدنيا قبل الآخرة.. إنها تذاكر الذهاب بدون إياب إلى عالم الانحطاط والانغماس في القاذورات التي تلطخ الروح وتسودها وتقطع صلتها مع العوالم النورانية وتثقل الجسد بالهموم الشيطانية لتحوله إلى حطب جهنم…

***

العودة إلى منزل « قدور« …
كنت شبه هائم على وجهي متجها من الدوار إلى وسط المدينة، عندما استوقفني قدور الذي ترجل عن دراجته النارية وسار يمشي بجانبي.
لم ألتق به منذ زمن بعيد، وكنت أتحاشى لقاءه وربما كانت آخر فترة رأيته فيها هو عندما زرته رفقة أبناء عمي لحضور حفل العقيقة المقامة بمناسبة ازدياد ابنه البكر « محمد »..
كان قدور غاضبا جدا من تصرفاتي ومن الحالة التي آلت إليها ظروفي… لقد أنبني بقسوة وخلته في بعض الأحيان أنه سيصفعني… ـ ويا ليته فعل ـ.. كان كلامه كله على صواب.. كانت جملا حادة ومنطقية لا تدع للعقل مجالا للمراوغة… كان على علم بكل صغيرة وكبيرة تهمني… كان على علم بليلة تعاطينا فيها شرب الخمور بالغابة حيث أمضينا الليلة كاملة، ولم نعد إلا مع طلوع الفجر عندما كان العمال يلتحقون بمقر عملهم… وقد صادفتنا بعض الوجوه من معارفه ولاشك أن بعضهم أخبره، عن تلك الحالة المزرية من السكر والعربدة التي كنت عليها رفقة سعيد…
لقد حاولت أن أقول شيئا لكن لم أتمكن أمام الخطاب الجارف لـ »قدور » الذي كان متأثرا جدا… وأنه لم يكن ليتصور أبدا أني سأصبح على ما أنا عليه… لقد شاعت أخباري ولاشك أنها وصلت إلى « أولاد اعمر »… ولاشك أن والدي يكون قد اتصل بقدور وببعض أصدقائه لينظروا في أمري قبل فوات الأوان… وعلى الأقل هذا ما فهمته من كلام « قدور » الذي عقد العزم على أن أرجع إلى بيته… وأن شقيقتي مشتاقة لرؤيتي… وأنها تبكى طوال الوقت وتريد أن أكون بجوارها …
لم يقتصر « قدور » على هذا بل أمر شقيقتي بأن تزور بيت عمي وتجمع أغراضي وتأتي بها فورا…
وفعلا فقد رجعت إلى منزل شقيقتي رغم أنفي.. وبداخل نفسي كنت أعاتب على قدور لماذا لم يفعل هذا قبل اليوم…؟؟
كانت شقيقتي حزينة من جراء ما سمعته عنى… رغم أنها كانت تبدو مرتاحة من وضعها الجديد إذ لم تعد أشغال البيت تهمها أكثر من انشغالها بتربية الولد محمد، وكانت ضرتها تبدو طيبة ومتسامحة وكانت لا تفتأ ترحب بي وتشجعني على متابعة دراستي… وأنها مثل أختي تماما وسوف لن تدخرا جهدا هما الاثنتان، من جعل مقامي معهم مريحا وسوف توفران لي كل ظروف الدراسة وما علي إلا الاجتهاد…
نفس الكلام رددته شقيقتي التي لم تتمكن من إخفاء دموعها فانهارت على خذيها وضمتني إليها ثم أخذت وجهي بين يديها وركزت بعينيها الدامعتين في عيني وقالت:
-أهذا الذي كنت أنتظره منك؟! أهذا الذي كانت العائلة تنتظر منك؟! حرام عليك… لماذا تقتل نفسك بنفسك !؟ … استيقظ من غفلتك عد إلى رشدك!
لم أتمالك.. فبكيت أنا أيضا بين يدي شقيقتي… التي أقسمت لها بأني سأقوم بكل ما في وسعي لكي أتدارك الموقف…
ناولتني أختي بعض الدارهم وأعطتني حقيبة بها ثيابي وأمرتني بأن أذهب إلى الحمام العمومي وألا أعود إلى البيت إلا بمظهر جديد وخاصة حلق شعر رأسي…
خصصت لي عائلة « قدور » بيتا كبيرا ليكون مقرا لي بمفردي… كما وضعوا رهن إشارتي مكتبي السابق أي الطاولة الخشبية الخشنة آلتي أغطيها بالورق المقوى لتصبح صالحة للكتابة عليها، وكذا دولابا قديما ليضم أمتعتي القليلة…
أما « قدور » فقد ظهرت فرحة غير معهودة على محياه وهو يقابلني ربما أراد بذلك أن ينسيني الغلظة التي استعملها معي والكلام القاسي الذي جعلني فعلا أعود إلى الواقع…
ازدان فراش قدور بولد سماه محمدا.. كان الصبي لا يتجاوز شهره الثامن، وكان من الواضح أنه أصبح يشكل مصدر السعادة الكاملة للعائلة كلها بما في ذلك شقيقتي التي تحبه كثيرا وتتفانى في خدمته، أما أمه فإنها كانت لا تهتم به كثيرا إلا عندما تناديها أختي وتلح عليها لإرضاعه…
وكان هذا الصبي الشغل الشاغل لقدور، وذلك بمجرد دخوله البيت فتارة يداعبه في فراشه وتارة يحمله كدمية بين يديه… فلاشك أن سعادته كانت قد بلغت قمتها …
***

تقييم موضوعي لحالتي..
كان من الصعب علي في الأيام الأولى أن أعيد ترتيب أفكاري… وأطرد كابوس النحس من ذاكرتي… أصبحت لا أغادر المنزل إلا إلى المدرسة ولا أغادر المدرسة إلا إلى المنزل…
قمت بتقييم موضوعي لحالتي الدراسية بعد أن راجعت كل دروسي.. فوجدت أن وضعيتي مقلقة جـدا ولكن ليست كارثية.. إذ أن المواد العلمية وعلى رأسها الرياضيات، أصبحت تـشكل بالنسبة إلي عالما غريبا لا أعرف عنها إلا الشيء القليل… ومع ذلك فقد بدأت بمراجعة العلوم الطبيعية والرياضيات شيئا فشيئا حتى تمكنت من استرجاع ثقتي بنفسي ثم بدأت بحفظ دروس التاريخ والجغرافية… وكان ضميري يؤنبني كثيرا، لماذا ضيعت كل هذا الوقت الثمين؟…
***
مائدة الجبال
توقفنا عن الدراسة بحوالي أسبوع أو عشرة أيام قبل الامتحانات، وذلك كمهلة لنستعد فيها لخوض امتحان شهادة نهاية الدروس الإعدادية.. وقد حاولت استغلال هذه المدة في مراجعة دروسي مرات ومرات.. كنت استيقظ باكرا وأحمل كتبي ودفاتري وأقصد الجبال حيث كنت أمضي اليوم كاملا… ولا أعود إلى منزل شقيقتي إلا مع ظلام الليل..
وخلال ظهيرة يوم من هذه الأيام وبينما كنت مستلقيا على صخرة في ظل شجرة، وكنت أقاوم لسعات الجوع الذي استبد بي، وقد لمت نفسي كثيرا إذ لم أسمع كلام شقيقتي التي اقترحت علي بأن أخذ معي قطعة خبز أقمع بها الجوع فرفضت،… تناهت إلى سمعي جلبة خلتها قريبة منى… ولما رفعت رأسي في اتجاه مصدر الصوت فوجئت بكوكبة من الناس تتكون من خمسة أفراد، غير بعيد عني، في التل المقابل لقمة التل حيث كنت مستلقيا… ولم أشعر بوجودهم إلا عندما كثر لغطهم، وخاصة بين اثنين منهما اللذين كانا يتبادلان الشتائم ويهدد بعضهما البعض بينما شخصان آخران يقفان بينهما ويحاولان تهدئتهما..
ويبدو أنهم كانوا غير طبيعيين، كانوا ثملين وذلك نظرا لتمايل بعضهم، وللكلام البذيء واللامنطقي للمناوشين المتشاجرين… كانت الشجرة آلتي كنت مستلقياً في ظلها وارفة وكانت أغصانها العملاقة تحجبني من جميع الجهات.. وفضلت عدم الظهور لهم..
اشتد خصام أفراد المجموعة.. وقرروا الانصراف إلى حال سبيلهم. بقي اثنان منهم لبعض الوقت ولكن سرعان ما قاما وغادرا المكان… وبقيت بمفردي من جديد.. كان الجو رائعا.. لكن هجمات الجوع تواصلت وجعلتني أقرر في النهاية العودة إلى المنزل..
وفي طريقي، عرجت على مكان السكارى وكانت مفاجأتي كبيرة.. لقد وجدت في انتظاري شبه مائدة تضم خيرات كثيرة يتوسطها الخبز ويحفها الزيتون والجبن، إلا أن النمل كان قد سبقني إلى المائدة وربما بعض الطيور كذلك لان قطع الخبز كانت مبعثرة…
وهكذا لبيت دعوة الجبال إلى مائدة شهية لم تكن بالحسبان.. لا شك أنها أقيمت على شرفي وعلى شرف النمل والحشرات والطيور… سبحان مبدل الأحوال.. سبحان الرزاق الكريم.. كم كنت جائعا قبل قليل.. إلى درجة أني قررت الرجوع إلى المنزل إذ لا فائدة من مراجعة الدروس ببطن خاوية.. وها أنا ذا قد شبعت.. وقمت بتفتيت كمية من الخبز للطيور والنمل حتى تأكل وتشبع هي الأخرى وتسبح لخالقها..
جلست غير بعيد عن المكان الذي كان يجلس فيه السكارى، الذين أجرى الله على يدهم مهمة إطعامي، فحمدت الله كثيرا، ودعوت لي و لهم بالتوبة، واستأنفت مراجعة دروسي بكثير من التركيز…
***

وتستمر علاقتي بسعيد وحميد
لم أقطع صلتي بسعيد وحميد، بل استمرت علاقتي بهما كما كانت فى السابق، بحيث كنت أزور عائلتيهما خلال يومي السبت والأحد.. إلا أنى كنت أحاول التملص منهما لكي لا انجرف مع أمواج سعيد.. خاصة عندما كان يتأهب للقيام بمناوراته الليلية. وشيئا فشيئا تكونت لدي مناعة أكسبتني الجرأة على مخالفة رأي سعيد بل ورفض الاقتراحات التي لا أراها فى صالحي…
وكنت أقبل دعوتهما بالخصوص عندما يتعلق الأمر بمرافقتهما إلى الجبال مع مجموعة من نساء وفتيات الدوار من أجل جلب حطب التدفئة… إذ كنت في الواقع أجدها فرصة سانحة لمراجعة أو حفظ بعض الدروس بحيث كنت أصطحب معي كتبي ودفاتري…
كان سعيد يلعب دور الزعيم الذي عليه أن يؤطر المجموعة، ويحافظ عليها بكل يقظة كما يحافظ الراعي على أغنامه من افتراس الذئاب، وبالأحرى فقد نال بذلك رضى الجميع، وازدادت الفتيات إعجابا به… أما حميد فلم يكن ليتورع فى الانفراد بداخل أدغال الغابة بفتاة من بنات الدوار التي استسلمت أخيرا لمغازلته، فلم تعد تقوى على نهره من تقبيلها، إذ كان يحمل عليها ببعض القوة بينما تتظاهر هي بالدفاع عن نفسها ولكن بمجرد أن تلمس شفاهه وجهها، حتى تستسلم لأصابع حميد التي تبدأ بالعبث بجسدها…

***

مستعد لحمل الحطب.. وصاحبته.
ومن بين الأحداث التي أذكرها أن فتاة من بنات الجيران التي ذهبت مع الجماعة لجلب الحطب قد أصيبت في طريق عودتها بوعكة صحية مما جعلها لا تقوى على حمل حزمة الحطب الجاف التي جمعتها… فتقدمت بكل عفوية وتلقائية فحملت الحزمة حتى أوصلتها إلى الدوار… وطبعا فلم أسلم من لسان سعيد بالخصوص، الذي بدأ يلمزني طوال الطريق. وخلال فترة استراحة… عاود سعيد حديثه بتهكم واضح… فلم أجد بدا بأن أوضح أمام الجميع وبصوت مرتفع بأني مستعد لحمل الفتاة على ظهري إذا كانت لا تقوى على المشي، فما بالك بحزمة حطب خفيفة…!! وكان رد الفعل أن انفجر الحاضرون في قهقهات استمرت مدة طويلة لم يجد سعيد بدا من الانضمام إليها.. أما الفتاة المعنية فقد تورد وجهها من الخجل وكانت تبتسم لي وتشكرني كلما صادفتها…
***
سعيد.. أممرضة أم ملك…؟
ومن الصدف الجميلة كذلك أن فتاة من بنات الدوار التي سوف تشتغل كممرضة في مستشفى شركة الفحم، بعد أن غادرت الدراسة، سوف تقدم لي خدمة جليلة في يوم من الأيام وذلك عندما عدت إلى جرادة في زيارة عائلية وكنت حينئذ أتابع دراستي بالرباط… وقد سهرت الليل مع سعيد في الحانة المعهودة بحاسي بلال، كما أمضينا النهار بحانة أخرى بجرادة وقد تعاهدنا على أن نبقى سكرانين طوال الوقت الذي سأمضيه بجرادة، إلا أن سعيدا الذي كان في حالة سكر كبيرة لم يتمكن من ضبط توازن دراجته النارية التي كان يردفني عليها، فوقعنا على قارعة الطريق في منعرج غير بعيد عن المستشفى المذكور…
ارتطم رأس سعيد بالأرض الصلبة ففقد وعيه… بينما الدراجة استدارت حول نفسها ووقعت بوسط الطريق، لتوقف أول سيارة تمر… كانت السيارة تابعة لشركة الفحم وكان أحد ركابها يعرف سعيدا… الذي هرول إليه وبدأ يناديه باسمه… بينما حاولت لم أشتاتي وقد أصبت بجروح طفيفة في ركبتي ويدي. حملنا سعيدا إلى السيارة وهو لا يعي شيئا… وأوقفت الدراجة خارج الطريق في مكان آمن… لم نكد نصل المستشفى حتى كانت إحدى الممرضات تستقبلنا بالسرير المتنقل، وكانت مفاجأتي كبيرة عندما نادتني باسمي… وحينها فقط عرفتها.. إذ بدت جميلة في لباسها الأبيض وقد تورد وجهها.
فسرت لها ما جرى لنا… وطلبت منها أن تجري لسعيد فحصا على الرأس وبأسرع ما يمكن قبل فوات الأوان وإلا فسوف أستأجر سيارة طاكسي لأنقله إلى وجدة ولم تمر إلا بعض الدقائق حتى عادت بسعيد وهو منبهر وضاحك ووجهه مشرق وكأن شيئا لم يكن… وبمجرد أن رآني حتى استرسل في ضحكاته التي لفـتت انتباه الجميع… ويبدو أنه كان يسأل الممرضة إن كانت فعلا ممرضة أم هي ملاك؟؟.. لأنه ظن نفسه قد توفي… أما وقد رآني فلم يعد يهمه إن كنا قد بعثنا في الجحيم أو في النعيم المهم أنه سيجد مع من « يقرقب الناب »… حتى يحسم عزرائيل في أمرنا…
ضحك الجميع من أفكار سعيد… وودعنا ممرضتنا التي أكدت لي بأن سعيد في صحة وعافية وأن السكر والسهر قد أخذا منه مأخذا كبيرا ويجب أن لا يسوق دراجته النارية وهو في هذه الحالة…
***
الإمتحان
اقترب الوعد الحق… وتم تسجيلنا لاجتياز امتحان نهاية الدروس الإعدادية… وقامت جمعية آباء التلاميذ في تنسيق مع الإدارة بحجز إقامة التلاميذ بداخلية ثانوية عبد المؤمن بوجدة، بينما الامتحانات ستجرى بثانوية عمر بن عبد العزيز…
أديت ثمنا رمزيا عن هذه الإقامة التي دامت ثلاثة أيام كان من الصعب علي الانسجام مع ظروف الداخلية حيث نتناول الطعام جماعة في قاعة كبيرة كما ننام كذلك في غرفة نوم كبيرة جدا… ولم يكن هناك أي وقت للراحة بالمفهوم الذي ألفناه حيث يكون الصمت الكامل، كانت مداعبة التلاميذ لبعضهم البعض ومزاحهم الذي لا ينتهي، بل وضحكاتهم لأتفه الأشياء، لا تدع مجالا للاسترخاء فما بالك بأخذ قسط من النوم…
كنت أعاني على جميع الجبهات… إلى درجة أني ومنذ أن غادرت منزل ابن عمي « امعمر »، لم أجد ما ألبسه… كنت ألبس بناطيل وأقمصة سعيد… بعد موافقته.. ولكن منذ أن تقرر بأن أعود إلى منزل شقيقتي، أحسست بنقص كبير فيما يتعلق بهندامي… ولم أجرأ على مفاتحة سعيد في الموضوع.. كنت أجمع أغراضي للسفر إلى وجدة عندما لاحظت ولاحظت معي شقيقتي وزوجها أن السروال الذي كنت ألبسه كان قد تهرأ.. وأن عيوبه أصبحت واضحة للعيان، وخاصة بمنطقة الركبتين.. مما حذا بقدور بأن جاءني بسروال من سراويله الذي كان قياسه أكبر مني بكثير.. ومع ذلك فقد لبسته رغم أنفي.. وغطيت حزامه بقميص استأجرته هو الآخر في آخر لحظة من ابن عمي حميد الذي رافقني إلى الحافلة آلتي ستقلنا إلى وجدة..
وكانت توقعاتي في محلها… لم أتمكن من النجاح في امتحان شهادة الدروس الإعدادية، وذلك نظرا لمعدلاتي المتواضعة في المواد العلمية، في الوقت الذي ذهبت فيه علاماتي الجيدة في المواد الأخرى هباء منثورا…
وقبل أن نخبر بنتائج الامتحان رسميا فإن أستاذ الرياضيات الذي التقيت به صدفة كان قد أخبرني بنجاحي في التوجيه إلى السنة الرابعة: الشعبة الأدبية.. كما كنت أتمنى، وقد هنأني وأوصاني ببذل المزيد من المجهودات، وأن الحياة لا معنى لها بدون مشاكل..! وقد طمأنني بأن أساتذة المواد العلمية لم يعاكسوا رغبتي ولم يفكروا أبدا في إصدار قرارهم بأن أعيد السنة …
لم أعر كبير اهتمام لفشلي في الشهادة والذي كنت أتوقعه… في حين كانت فرحتي كبيرة بنجاحي في الانتقال إلى السنة الأولى من الثانوي.. كانت سعادتي آنذاك لا تضاهيها إلا السعادة التي غمرتني عندما نجحت في الشهادة الابتدائية بالقرية…
وبتوجيهي إلى الشعبة الأدبية وبالأحرى الانتقال إلى وجدة والعيش بالداخلية ومعانقة آفاق جديدة… ومن ثم التفكير في امتحان شهادة البكالوريا… هذه الشهادة التي سوف تسمح لي بالانطلاق نحو آفاق أرحب وأوسع… بكل هذه المكتسبات الجديدة، سأتمكن بحول الله من خوض غمار الحياة.. وأصبح الهدف المرحلي الموالي الآن هو الحصول على شهادة البكالوريا..
الحمد لله… ما أكرمك يا الله.. لقد قابلتني بالحلم في الوقت الذي عصيتك.. ألقيت إلي بحبل النجاة لتنقذني من الظلام إلى النور في الوقت الذي استولى علي اليأس وغرني الغرور.. كنت أشعر من جديد بأني أسعد مخلوق..
***

زوابع الشك… وخالي الطالب
عدت إلى منزل شقيقتي لأجدها تكاد تنفجر حنقا.. وعاتبتني بكلمات تذوب رقة وحنانا… حاولت أن أفهم منها سبب ما يقلقها… إلا أن أختي استمرت في التعمق في خطابها التشاؤمي، لتكشف لي عن أوراقها وتخبرني في النهاية أن أحد الموظفين بالإعدادية قد أكد للجميع بأنني سقطت في الإمتحان وسوف أكرر السنة… وأن ما قيل عن نجاحي ما هو في واقع الأمر إلا كذبة كبيرة أعانني عليها بعض الأساتذة… والأدهى والأمر في كل هذا… أن خالي « الطالب » الذي زار « جرادة »… كان قد زار منزل خالتي « يمينة » وأنه على علم بتصريحات الموظف الإداري الذي أكد له رسوبي في الامتحان..
وقد بعث خالي « الطالب » برقية شفوية إلى أختي مفادها أني كذاب كبير… فيجب أن لا تثق بي وأن لا تصدق ما أقول..
أية مصيبة هذه؟؟ إن دخول خالي « الطالب » على الخط وتوقيعه على شهادة فشلي،واتهامه لي بالكذب، سيخلط كل الأوراق… خاصة وأن أهلي لا يفرقون بين الشهادة وبين التوجيه أو الانتقال إلى السنة الموالية… وأن « الطالب » يحظى عندهم بمصداقية القاضي الذي لا يلقي الكلام على عواهنه… وأن كلامه لا يرد أبدا..
حاولت أن أهدأ من روع أختي… وحاولت أن أشرح لها بأن هناك فرق بين امتحان الشهادة الإعدادية وبين التوجيه لمتابعة الدراسة بالثانوي… وحاولت بأن أفهمها أن هذه الشهادة سوف لن تفيدني في أي شيء مادمت مصرا على متابعة دراستي… سكتت شقيقتي على مضض.. وكان واضحا أنها لم تقتنع.. وكان معها كامل الحق.. إذ كيف تصدقني وتكذب خالي « الطالب »، وتكذب موظفا بإدارة الإعدادية له مصداقيته هو الآخر.. اقترحت علي أختي بأن أمضي فورا إلى منزل خالتي فقد أدرك هناك خالي « الطالب ».. لكي أصحح معلوماته قبل أن يسافر..
كان خالي الطالب قد سافر إلى « تازة ».. وطلبت عنوانه من خالتي.. وقررت أن أراسله في الموضوع حتى لا يستمر في المساهمة في زرع الشكوك بين أهلي.. لقد وضعني خالي « الطالب » في وضع لا أحسد عليه.. « الطالب » شخص واعي ومثقف، فكيف يغيب عن فكره الفرق بين الشهادة والتوجيه لمتابعة الدراسة..
وقد ألحق بي العون الإداري أذى كبيرا.. إذ كاد يقتل فرحة نجاحي في قلوب أفراد أسرتي ومعارفي.. ورغم فوات الزمن على ذلك فإني لا أجد له عذرا مقبولا… سامحه الله:
وظلم ذوي القربى أشـد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وبعد أسبوع توصلت بجواب من خالي « الطالب »، الذي هنأني تهنئة رقيقة على نجاحي.. وتمنى لي بدوره أن أتابع دراستي على الأقل حتى أحصل على شهادة البكالوريا.. وقد أنحى باللائمة على ذلك الشخص الذي لم يفسر له ما فيه الكفاية موضوع انتقالي إلى الطور الثانوي…
وقد ختم الرسالة بملاحظته حول انتقالي من الإعدادي إلى الثانوي بأن الدخول المدرسي المقبل سيوضح كل الأمور وقال حرفيا: « فلننتظر.. وإن غدا لناظره لقريب.. » ومعنى هذا أن خالي كان لا يزال يشك في نجاحي…
***

الفصل الخامس
***
لعلي أفهمها أحـــــــــــــزانا محرقة
كانت تضطرم فـي الأرض نيــــــــــــــــرانا
فلم تجد نفسا فذابت في الحجر
فحما تحولــــــه فــــــــــــي العمق قطرانا
فكأن ما بي من هم كان بالحجر
فَاسْوَدَّ فَحْمًا، وذاب قلبي أشجانا

عطلة ليست ككل العطل..
لم يكن خافيا عني بأن المرحلة المقبلة ستتطلب مني ميزانية كبيرة لمجابهة المصاريف الكثيرة وعلى رأسها لائحة الملابس والمعدات التي سوف تكون كشرط أساسي للتسجيل بالداخلية… ولم يكن خافيا عني كذلك أن والدي سوف لن يتمكن من مساعدتي بأي شيء … ولهذا فقد طرقت كل الأبواب الممكنة بجرادة لعلني أحصل على أي شغل يساعدني على توفير بعض المال لتغطية المصاريف المقبلة… لكن مع الأسف… فقد باءت كل محاولاتي بالفشل.. وكل الأبواب سدت في وجهي.. حتى الأشغال الصعبة كالبناء ـ مثلا ـ فلم أفلح في إقناع المسؤولين عن ورش بناء معمل حاسي بلال لتوليد الطاقة الكهربائية الذي كان في طور البناء، ليقبلوني كمساعد بناء أو يمنحوني أي شغل كان… ولهذا لم أجد بدا من الرحيل إلى القرية للاعتناء بشجيرات الزيتون أو مساعدة أهلي في جمع المحصول الزراعي الذي كان بين ضعيف ومتوسط… ثم الاستسلام لمتعة القراءة تحت ظلال الأشجار على الضفةالرطبة لوادي المعدن..
لم يعط أفراد عائلتي اهتماما كبيرا لما تلوكه الألسن حول نجاحي.. بل إن إصراري على متابعة دراستي جعلتهم يقتنعون بصدق ما أقول، وبالأحرى فقد شاركوني الفرحة، واطمأنوا على أني لن أعود إلى المعاناة التي عانيتها في جرادة …
أما بالنسبة لي، فإن عطلة هذه السنة ليست كسابقاتها، فمنذ أن تأكدت من نجاحي في الانتقال لمتابعة دراستي بالمرحلة الثانوية،.. حتى بدأت أشعر بإحساس غريب، إحساس من يتطلع بشغف كبير إلى معرفة المستقبل المظلم، ومحاولة استشفاف معالمه… وكنت أتصور نفسي وأنا أمد عنقي إلى الأمام تارة وإلى الأعلى تارة أخرى، لعلي أسترق لمحة مما تخبأه الأقدار وراء حجب الغيب… إلا أن صوت الشاعر زهير بن أبي سلمى كان يجيبني بإصرار وبحكمة لا تقبل النقاش:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
لكنني عن علم ما في غد عم.
سبحان الله… لقد شاءت حكمته تعالى ألا يتسرب أي شيء من علم الغيب الذي انفرد به جلت قدرته، إلى إدراك الإنسان رحمة ورأفة به، لأنه خلق ضعيفا جهولا…: كان هناك إحساس داخلي يدعوني إلى الثبات ويكاد يردد على مسمعي وبصوت مرتفع.. بان الله الذي لم يتخل عني في الماضي، سوف لن يتخلى عني في الحاضر والمستقبل،.. لكن شريطة ألا أنساه فأصبح من « الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم »… والعياذ بالله… إن الانزلاق الخطير الذي تعرضت له في جرادة… ولد لدي انطباعا فظيعا عن ضعف الإنسان الذي لا يجب أن يستسلم للأمر الواقع مهما كانت الظروف… بل يجب أن يقاوم إلى آخر نفس… ويجب أن يلتقط الفرص التي تتاح له كهدايا من الله… لأن فيها تكمن الحلول لمشاكله… رغم كونها تبدو ضعيفة وربما تافهة ولا تجدي نفعا… بمعنى آخر ليس من حق الإنسان المضطر الحكم على هذه الفرص… لأن الله هو الذي أوجدها، ولهذا فهو يشحنها بالخير الكثير ويهبها لنا مملوءة بالبركات… وأن الشيطان يحاول الانتقاص من أهميتها وقيمتها لينغص حياتنا… سبحان الله… كيف يمكن للشخص المشرف على الغرق أن ينتقد الأسباب أو الوسائل التي هيئت لإنقاذه…
في بلدتنا « أولاد أعمر »… ورغم أن السواد الأعظم من المواطنين ضعفاء إلا أن هناك تقاليد سائدة تجعل المضطر الذي يشتغل ببعض الحرف، كنسج المصنوعات التقليدية من الحلفاء ينظر إليه نظرة يشوبها الانتقاص من القدر ومن الاحترام، وذلك بالرغم من أن لا أحد يستطيع الاستغناء عن هذه المصنوعات الضرورية كالحصير والقفة والخرج ومختلف الأوعية لنقل الحبوب والتبن والخضر والأعشاب والتراب والحطب… الخ… ولكن الذي يقوم بصنعها قصد بيعها يعرض نفسه للانتقاص في أعين الناس… ولقد تعرضت لامتحان من هذا النوع عندما كررت السنة للمرة الثالثة في الشهادة الابتدائية… ومحاولة مني عدم إثقال كاهل أسرتي… وحتى أتفادي طلب أي سنتيم من والدي الذي لم يعد يستسيغ شراء الأدوات المدرسية… فقد ارتأيت بأن أقوم بصنع بعض المصنوعات التقليدية من الحلفاء لأبيعها وأشتري ما يلزمني لمتابعة دراستي… وفعلا فقد كانت مفاجئتي كبيرة عندما وقع إقبال كبير على اقتناء منتوجاتي من قفف وبرادع وأخراج وأوعية مختلفة نافست بها الصناع التقليديين المعروفين، الذين لم يفتهم الإطراء على جودة ما صنعت… ومع ذلك فإن الكثير من معارفي بدؤوا يرمقونني بنظرات لم افهمها بسرعة لولا الانتقاد الصارخ من طرف « لمقدم الحاج حمادة » الذي كان صديقا لوالدي والذي انهال علي بأسلوب لاذع بحيث صب علي جام غضبه وسط السوق وقال لي:
ـ أبمصنوعات الذل هذه تريد أن تنافس أقرانك… أم تريد أن تدخل بها الفرحة على قلبي والديك…؟؟..
وإن كنت صبرت وتحملت التعنيف المعنوي لعمي « الحاج حمادة » ووضعت كلامه موضع من أراد لي الخير والعزة وتظاهرت أمامه بأني ندمان على فعلتي هذه… فإني سرعان ما استأنفت عملي لأجمع ما أشتري به الدفاتر والكتب… وفعلا تمكنت من ذلك بل وتمكنت من أكثر من ذلك… لأني وبالإضافة إلى اللوازم المدرسية فقد اشتريت بعض الملابس… أو ليست هذه الخطوة ورغم بساطتها إلهام من الله، جعل فيها الخير والبركة… فهل يحق لمن يصارع الغرق وسط أمواج عاتية أن يستصغر شكل قطعة خشب كانت بجانبه ولا يتعلق بها من أجل إنقاذ حياته…
وللعلم، فإن مثل المصنوعات تخاط من الشريط الذي يسمى محليا بـ »الوضفة » يكون طوله حسب الحاجة،… ينسجه الصانع بين أصابعه واقفا أو جالسا أو ماشيا، من أغصان الحلفاء الطرية… أما عرضه فقد يختلف من صانع إلى آخر… وقد يكون حوالي عشرين سنتمترا بحيث يخاط بطريقة حلزونية انطلاقا من قاعدة تكبر مع كل دورة ليعطيها الصانع شكل الوعاء الذي يريد صنعه…
***
الهندية أو « طريق الشوك »
وبعد تفكير عميق في حالتي المادية، وكيف سأواجه المصاريف المرتقبة، لم أجد بدا من استعمال الفرصة المتاحة لي، وإن كانت في ظاهرها تبدو متعبة للغاية، وأن أهل القرية يتأففون منها هي كذلك وينظرون إليها بكثير من الازدراء والامتعاض… بل ويصنفونها بمثابة مخرج لمن لا مخرج له… وعلى غرار بعض السنوات الماضية فقد قررت بيع فاكهة الصبار أو الهندية…
لم تكن فكرة بيع الهندية بدواوير « أولاد سيدي علي بوشنفة » من بنات أفكاري، بل كان هناك رواد سبقوني إليها… إلا أن التعب المضني والأخطار التي تحفها، والربح الزهيد الذي يُحَصَّلُ عليه من بيعها، كل ذلك جعل الفكرة لا تجد الانتشار الواسع، ولا يلجأ إليها إلا المضطرون مثلي… وكنت أسمي هذه التجارة مازحا بـ »طريق الشوك » على غرار « طريق الحرير » أو « طريق الذهب »… أما « طريق الحرير » فقد عرفت منذ حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، وكان طولها يفوق العشرة آلاف كلم والتي كان التجار يسلكونها إلى الصين وإلى دول آسيوية أخرى لجلب الحرير والتوابل والعطور، وبيعها في مناطق أخرى من العالم وخاصة أوروبا.. وكانت من أكثر التجارات المربحة التي فتحت أبواب التبادل والتفاهم والتعارف بين الشرق والغرب.. وأما « طريق الذهب » فقد عبدها أجدادنا المغاربة في عهود سابقة ،كعهد المرابطين والموحدين بالخصوص، بين المغرب وإفريقيا، وانطلاقا من « فاس وسجلماسة ووارغلة وغدامس وواحات التوات في اتجاه تامبوكتو وجاو » ثم نحو أدغال إفريقيا، في تبادلهم التجاري مع العواصم الإفريقية آنذاك وعلى رأسها « غانا » عاصمة الذهب.. وكانت القوافل المغربية تذهب محملة بالحرير والتوابل والحناء والملح والفخار والكتب والمخطوطات لتبيع هذه السلع وغيرها بالذهب الخالص…
كنت أسمي تجارتي بالهندية بـ »طريق الشوك » لأنها كانت عبارة عن خوض معركة ضارية ضد الشوك… أشواك الهندية التي لا تكاد ترى… والتي تتحصن الفاكهة خلفها.. وبأشواك شجرة الهندية نفسها وقد لا أخطأ إذا قلت أن عملية قطف فاكهة الصبار تعد من أصعب العمليات.. إذ مهما كانت الطريقة آلتي تلمس بها هذه الفاكهة، لا بد وأن تصيبك بأشواكها الرقيقة ويبقى من المستحيل لمسها بالأصابع العارية، هذه الأشواك التي تنفث بسهولة في صفحة جلد الإنسان وتبدأ بإرسال سموم الألم المزعج، التي سرعان ما يحمر من جرائها المكان المصاب وسرعان ما يتقيح، إذا لم يبادر المرء بإزالة السبب المباشر الذي هو الأشواك الرقيقة المغروسة في الجلد والتي تستحيل رؤيتها في بعض الأحيان…
وهكذا يجد المرء نفسه مضطرا لاستعمال كل الوسائل بما في ذلك تلمس المكان المؤلم باللسان.. ومحاولة استئصال الشوكة بالأسنان… إلا أن فم الإنسان لا يستطيع الوصول إلى كل أطراف جسمه.. ناهيك عن أن الجلد الداخلي للفم بما في ذلك اللسان، يمكن أن يصبح عرضة لهذه الأشواك هو الآخر… كما أن اتخاذ الحيطة والحذر من هذه الأشواك حتى لا تصيب العين، يعد من الحكم البليغة ومن الأولويات الهامة لكل من يتعامل مع هذه الفاكهة.. إذ أن إصابة العين بأشواك الهندية قد يعرض المصاب لخطر إتلاف البصر إذا لم يبادر إلي استئصال الشوك …
ومن المستملحات في هذا الميدان أو ربما من الأشياء الغريبة، أننا كنا نستعين بذبابة تكثر عادة في منطقتنا خلال فصلي الصيف والخريف، وتختفي بسرعة أمام برودة الشتاء،..هذه الذبابة ذات الأرجل الكثيرة المنتهية بأظافر على شكل كماشات قوية، شديدة الالتصاق بالأماكن الحساسة بجسم الحيوانات كالضروع والمخارج… حتى أن أغلب الحيوانات تصاب بنوبات عصبية من تصرفاتها المستفزة، التي لا يجدي معها الذود بذيولها… ولا تستطيع التخلص منها إلا بتمريغ جسدها في التراب اللين وخاصة في بقايا الرماد عدة مرات، حتى يتغلغل دقيق التراب والرماد إلى كل نواحي جسمها فيفسد على الذباب العيش ملتصقا بجلدها.. وكنا نحاول الإمساك بذبابة أو أكثر من هذا النوع من أجنحتها ونمرر أرجلها بالخصوص، على الأماكن التي أصابتها الأشواك من أجسامنا… وبما أنها كانت شديدة الالتصاق بكل ما تمر به كالشعيرات آلتي تغطي جلودنا… فإنه كان يخيل لنا أنها كانت تتشبث حتى بالأشواك فتزيلها وتقتلعها من جلودنا وتريحنا من ألمها… ولا تقف مصيبة هذه الأشواك عند هذا الحد بل إن الناس كانوا يحتاطون حتى من الأشياء آلتي تحمل فيها الهندية لأن الأشواك تتسرب من الفاكهة إلى الخرج أو إلي القفة أو إلي الأشياء التي توضع فيها بعد قطفها وذلك رغم محاولة تنظيفها… فإن استعمال هذه الأشياء في مآرب أخرى لا تكون إلا بعد غسلها بالماء بطريقة جيدة…
نعم إنها الأشواك التي جعلها الله سلاحا تتحصن به فاكهة الهندية.. وكل شيء جميل لا يمكن الوصول إليه بسهولة، إلا بالصبر وخرق القتاد… ولهذا السبب كنا نحاول أثناء قطفها، التسلح بالوسائل المتاحة كتغطية الرأس واليدين واستعمال « اللقاطة ».. وهي الوسائل التي بواسطتها يمكن قطف هذه الفاكهة اللذيذة والمستعصية… فإذا كانت في متناول اليد،كنا نمسحها مرارا بباقة من أغصان العرعار الرقيقة التي نمررها عليها مباشرة من كل الجهات حتى نتيقن بأن أغلب الأشواك قد أزيلت وغادرت أمكنتها من النقط السوداء التي تغطي جلد حبة الهندية… وإذا كانت بعيدة في أعالي شجرتها فقد كنا نصنع « لقاطة » من نوع آخر من الأعمدة اليابسة لنبتة الكلخة الطويلة أو من القصب الغليظ.. التي نقتحم بواسطتها صفوف حبات الهندية التي يوحي اصفرارها بنضجها، فندخل الحبة التي تكاد تسيل عسلا في الشق المفتوح في أعلى القضيب، على شكل منقار الطير، ثم نغلق عليها الشق بواسطة سحب الحبل الرابط بين الشقين أسفل مكان الفاكهة… وبحركة خفيفة نضغط عليها ونسحب « اللقاطة » إلى أعلى وبمنقارها حبة الهندية التي نضعها في مكان معين ،حتى إذا أنهينا عملية القطف نبدأ في عملية التنظيف من الشوك وذلك بمسحها مرارا بباقة من الأغصان التي يستحسن ألا تكون خشنة… ثم تأتي مرحلة التعبئة في الخرج حبة تلو أخرى… والخرج هو عبارة عن قفتين كبيرتين متساويتين مصنوعتين من الحلفاء مقرونتين بواسطة المكان الذي يصل بينهما على ظهر الدابة بحيث تأخذ القفتان مكانيهما على يمين وشمال الدابة… وعندما يمتلئ الخرج تغطى الهندية بأغصان الشجر لتحميه من أشعة الشمس المحرقة. وبالمناسبة فإن كلمة الخرج كلمة عربية قحة.. وهناك مثل عربي يطلق على من يريد التخلص من الأشياء التي ليست لها قيمة كبيرة.. فيقال عنها « حطها بالخرج.. »
وقبيل صلاة الفجر بساعة أو أكثر.. وبمساعدة والدي أو إحدى أخواتي، كنت أحمل البضاعة على ظهر حمارين أو ثلاثة.. وأبدأ المرحلة الحاسمة في رحلتي الشوكية الطويلة عبر « طريق الشوك »… وإذا كانت بداية « طريق الشوك » الذي كنت أسوق قافلتي المحملة بالهندية عبره، تنطلق بالضبط من حقل الهندية الذي زرعه جدي موسى بـ »إير نتفويث » بـ »المعدن » بـ »أولاد اعمر » فإن هذه الطريق لم تكن لها نهاية أبدا.. وكانت نقطة النهاية تبقى هكذا مبهمة ب »أولاد سيدي علي بوشنافة بالظهرة ».. وربما كانت أبعد نقطة وصلتها هي بعض الدواوير الكبيرة بنواحي « حسيان الذياب » بحيث كنت أجوب بقافلتي الهضاب العليا وأتوغل في سهول « الظهرة » الشاسعة ولا أعرف بالضبط أسماء الأماكن التي زرتها…
وكانت تتخلل المحطات الرئيسية المعروفة على طول طريق الشوك عدة مقابر وعدة وديان و غابة كثيفة وهي التي تفصل ما بين « بزوز و »الكريمة »..

***

« أولاد سيدي علي بوشنافة »
ويرجع نسب هذه القبائل ـ حسب المصادر التي أوردها السيد بوجمعة الحسني أزروال في كتابه القيم: شذرات من الشرف المنيف… ـ إلى جدهم الأعلى، سيدي علي بوشنافة، » الولي الصالح والنور الواضح والعنبر الفائح، القطب الرباني الشريف الحسني كامل النسب من أمه وأبيه المرحوم بكرم الحي القيوم « الذي هو من كبار العارفين بالله عز وجل وشريف إدريسي كريم الأصل والنسب من أبناء سيدي أحمد بن مولانا إدريس الأزهر رضي الله عنهم أجمعين.. أما عن كنيته ببوشنافة تحكي نفس المصادر أن أحد الأقطاب من أحفاد أبي بكر الصديق، قد أشار عليه وهو لا يزال في بطن أمه وسماه: علي بوشنافة… ويحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طبع على شفته العليا التي كانت مقلوبة إلى أعلى بخاتم النبوة وبداخله: « لا إله إلا الله علي بوشنافة ولي الله ».. وعلى غرار جده فقد رزق سيدي علي المدفون بـ »ابريدع » بالصحراء إزاء جبل « أكسان » قرب « واد العوان »، باثني عشر ولدا انتشروا في ربوع المغرب وفي الدول المجاورة …
كنت أنطلق من دوار إلى دوار لأقايض الهندية بالشعير… كطريقة مربحة نوعا ما، بخلاف بيع الفاكهة بالنقود الذي كان ربحه لا يسمن ولا يغني من جوع،.. والله وحده أعلم كم كان قطع هذه المسافات متعبا؟، وكم كانت المعاناة التي كنت أقاسيها شاقة ومضنية… وأنا أمشى وراء قافلة الحمير في ظلام الليل وحرارة النهار.. أبحث عن الدواوير البعيدة بل والمندسة هنا وهنك في « الظهرة » العميقة لكي أبيع سكانها فاكهة الهندية… مناديا بأعلى صوتي: « آلهنديا… آلهنديا… » أضف إلى ذلك الخوف من الكلاب و الذعر من الأفاعي والعقارب…
وكانت الكلاب أول من يستقبلني من هذه الدواوير: وشرفاء أولاد سيدي علي بوشنافة كان أغلبهم قبائل من البدو الرحل، يعيشون على تربية المواشي خاصة منها الأغنام والإبل، ولذلك فإن تربية الكلاب كان شيئا ضروريا بالنسبة لهم، إذ يستعينون بها على صد هجمات الذئاب وربما الضباع كذلك… فلا عجب إذا استقبلتني مجموعات كبيرة من الكلاب التي كان عددها يفوق في بعض الأحيان عشرة كلاب… من الأنواع المختلفة… تراها تتسابق في اتجاهي بمجرد سماعها صوتي… لتبدأ في نباحها الهستيري ثم تحيط بقافلتي من كل جانب… ورغم الثقل الذي تنوء تحته الحمير، فإني كنت أقفز على صهوة أي منها لأصبح في منأى عن أنياب الكلاب آلتي تقطر سما، متسلحا بقضيب خشبي طويل، كنت أجلبه معي خصيصا لهذا الغرض… فأشرع بالتلويح به في كل الاتجاهات، ولأبعدها عنى لبعض الوقت… ريثما يخرج أحد السكان ليصدها عنى بكلمة واحدة….
وبعد الكلاب يأتي دور الأطفال، الذين كانوا وقحين في بعض الدواوير بحيث كانوا يشكلون علي خطرا واضحا… وهكذا فقد هوجمت قافلتي في يوم من الأيام من طرف مجموعة من الأطفال اليافعين الذين أخذوا في أكل فاكهة الصبار بقشرتها وأشواكها… والغالب أنهم يتعرفون عليها لأول مرة… وبما أن منظرهم وهم يتناولون الفاكهة، كان يبعث على الضحك فقد صدرت منى قهقهات عالية وكأني غير آبه بما يعملون، فإذا بكبيرهم يقترب منى ليسألني عن سبب ضحكي وربما كانوا ينتظرون منى رد فعل آخر… فلما شرحت له بأن الهندية مغطاة بأشواك رقيقة وأنها سوف تؤذى الأطفال الذين أكلوها بهذه الطريقة والذين حملوها بأيديهم أو لمست جلودهم… وأنا مستعد بأن أبين لهم كيف تؤكل ولكن شريطة الأداء ومن الأحسن مقايضة: مقابل القمح والشعير..كما أنى سأعتبر ما أكلوه هدية منى إذا التزموا ببعض اللياقة …
تهلل وجه الفتى لما فهم مسألة المقايضة هذه ،وقام ضد أصدقائه يؤنبهم بل ويتوعدهم بالعقاب إذا لم يكفوا عن خطف الفاكهة… وأمرهم بإحضار أوعية تكون مملوءة بالقمح أو الشعير الجيد… وكذلك كان… فقد تحولت العملية إلى مربحة مائة في المائة بعد أن كانت خاسرة.. غير أنى أمضيت وقتا طويلا في إطعام الأطفال وتعليمهم كيفية إزاحة قشور الهندية… كان من الواضح أن الجهل يسيطر على مساحات كبيرة من عقولهم إلى درجة أن أحدهم سألني عن كيفية صناعة هذه الأشياء اللذيذة…؟ ربما اعتقد أنها من الحلويات…
كنت أناولهم الهندية وأنا أتأمل وجوههم الصغيرة والبريئة، والمفعمة بالنشاط والحيوية إلا أن أجسامهم كانت مغبرة متسخة تعلوها قشرة من الأوساخ السوداء التي تؤكد بأنها لم تستحم قط في حياتها… أما ملابسهم فكانت عبارة عن أسمال رثة لا تغير ولا تصبن… أطفال كبراعم ناعمة، نبتت في هضاب « الظهرة  » تحت أشعة الشمس المحرقة التي تنزل عموديا على رؤوسهم بين إبر نباتات الحلفاء والأشواك المسنة والأحجار الخشنة، فاخشوشنت منها أرجلهم الحافية وأقدامهم العارية بل وحتى تصرفاتهم…
وجوه صغيرة لا تختلف في شيء عن وجوه أطفال العالم ولا تقل عنهم براءة وجمالا وذكاء… إلا أن هؤلاء سرقت منهم طفولتهم كما سرقت طفولة آبائهم وأجدادهم من قبل فقط لأنهم ولدوا وهم يحملون صفة البدو الرحل.. والأطفال عند البدو الرحل يولدون شيوخا.. ولا يتلقون من العناية إلا قليلا… الرحل يعتنون بالإبل والغنم والماعز… يرعونها ويسيرون وراءها… وينتقلون بها حيث الكلأ والماء.. الحيوانات مصدر عيشهم ومحور حياتهم… وكل شيء يدور حولها… لا وقت لهم للاعتناء بأنفسهم وأطفالهم… البدو الرحل لهم فضاء أوسع من فضاءنا… لا يألفون الأمكنة… الأمكنة في عرفهم المعيشي تتبع الزمن… ففي الصيف يجب أن يقتربوا أكثر من الأماكن الرطبة، التي يوجد بها الماء الكافي أما في بقية أيام الله، فإن أرض الله واسعة… يتبعون الكلأ حيثما وجد… وإذا نفذ الكلأ في مكان فإنهم يرحلون إلى مكان آخر…
الأطفال مثلهم مثل الكبار يجب أن يكونوا منتجين.. لذلك تراهم ينخرطون منذ نعومة أظافرهم في العناية بالحيوانات التي لا يفارقونها حتى يقعدهم الهرم أرضا أو حتى يعجزون عن المشي وراءها…
منظر آخر حفره زمن الشوك والتجوال بـ »أولا سيدي علي » في ذاكرتي إلى الأبد، إنه منظر امرأة أكل جسمها مرض خبيث ربما هو الجذري:
في إحدى هذه الدواوير المنسية، خرج إلي في يوم من الأيام شبح آدمي بخطى متثاقلة… كلما اقترب منى إلا وازددت هلعا… الشبح يحاول لف جسمه بأسمال قديمة كانت الأطراف آلتي ظهرت لي من جسمه كلها متآكلة… كأن الجسم تعرض للافتراس من قبل حيوانات ضارية أو يكون قد تعرض لحريق جهنمي لم يبق منه إلا هذا الهيكل العظمى الذي يبدو وكأنه سيسقط في كل لحظة… الشبح لم يكلمني… وربما لا يتكلم بالمرة لأن النصف الأكبر من وجهه وجزأ من فكه الأسفل يكاد يكون عظما عارية… مد إلي يدا وكأنها قطعة من خشب فوقها قطعة نقود خلتها من ذوات العشرين سنتيما… لم تكن لدي الشجاعة الكاملة لأخذ النقود… بل بادرت بوضع بعض حبات الهندية على الأرض وابتعدت على عجل… وفقط عندما طأطأ بهيكله لأخذ الهندية بدا لي منه صدر امرأة لم تصله الآفة التي نخرت جسمه…. ولما حكيت الحكاية لأهلي قالوا ربما كانت المرأة مصابة بالجذري الذي كان يصيب الناس حتى عهد قريب..
لم تكن رحلاتي التي كنت أقوم بها عبر « طريق الشوك » دائما آمنة ومحصنة من المشاكل… فقد تم استفزازي مرتين أو ثلاث مرات من طرف رعاة كانوا يعترضون طريقي ليأكلوا بعض حبات الفاكهة بدون مقابل… وفي المرة الثالثة وعندما تيقنت من طمعهم، فقد هددتهم بأن أقدم بهم شكوى لدى شيخهم، الشيخ رمضان.. الذي أعرفه شخصيا من خلال الصداقة التي تربطه بخالي « حمو عاشور »… ولم أكد الفظ هذين الاسمين، حتى بادروا إلى تأدية ما اشتروا زاعمين بأنهم كانوا يمزحون معي..
وكانت أجمل مفاجأة إطلاقا على « طريق الشوك » هو التعرف على شاب من أولاد سيدي علي، يتابع دراسته بثانوية عبد المؤمن بوجدة..:
وكعادتي لم أكد أقترب من أحد الدواوير المكون من الخيام ومن دور مبنية بالحجارات والطين.. مما يدل على أن ساكنته كانوا قد استوطنوا هذه الربوع ولم يعودوا رحلا مائة في المائة.. حتى هرعت إلي بعض الكلاب ربما فقط لتخبرني هذه المرة بأن التمدن لا يزال بعيدا وإن كانت بوادره قد لاحت بالأفق.. إلا أن شابا أنيقا خرج في أعقاب الكلاب التي لم يكد ينهرها حتى ابتعدت لتوها.. وبعدها اقترب مني وحياني وسألني من أين أتيت.. بل وأبدى اهتماما كبيرا بتجارتي.. وقد اخبرني من جهته أنه طالب بالثانوي وأنه يتابع دراسته بثانوية عبد المؤمن.. وعندما أخبرته بأني على أبواب الالتحاق بمؤسسته بدأ يمعن النظر في وكأنه يتفرس صحة ما أقول.. وبعدها أبى إلا أن يضيفني.. ورغم تذرعي بضيق الوقت والمسافة الطويلة إلا أن الشاب بادر في الهش على الحمارين باتجاه منزله… كان اسم الشاب عبد القادر.. وكان لطيفا ودودا.. أزحنا الخرجين من فوق صهوتي الدابتين… وكان الخرج الأول خاليا أما الثاني فكان يحتوي على أقل من ربع سعته… تأكدت من ربط الحمارين ودخلت خلف عبد القادر إلى بيت مبني بالحجارة والطين،.. كان البيت نظيفا وكان جوه باردا ورطبا مقارنة مع الحرارة خارج الظل.. وكان مفروشا بزربية حمراء اللون تزينها خطوط سوداء رقيقة ومنسجمة.. ولا شك أن عبد القادر كان يقيم بهذا البيت وينام فيه لأن فراشا بسيطا مع وسادته كان لا يزال ملقى قرب نافذة بدون باب ويغطيها حجاب خفيف.. وقرب الوسادة كانت هناك جريدة ملقاة بغير نظام.. وقبالة الفراش كانت هناك حقيبة سفر متوسطة الحجم وكان غطاءها مفتوحا لكن دون أن يظهر محتواها وبجوارها مجموعة من الكتب بعضها فوق بعض وكان الكتاب الذي يعلو المجموعة هو « أهل الكهف » لتوفيق الحكيم… لم أخف عن مضيفي بأن التعب قد بلغ مني مبلغا كبيرا وأني مستعد بأن أنام في أي مكان كان.. فما بالك ببيت رطب بارد بفراشه النظيف… وبمجرد ما أذن لي مضيفي بالجلوس حتى قال..:
ـ أنا أعيش بمفردي منذ أسبوع.. منذ أن ذهب أخي الأكبر رفقة والدتي، بالأغنام ليلتحق بوالدي وزوجته وبقية إخوتي الذين يوجدون في مكان بعيد من هنا.. وكنت على أهبة السفر إلى عين بني مطهر، لأن غدا السوق.. وسوف ألتقي هناك بوالدي لأساعده على بيع وشراء الأغنام ..
ـ كيف ذلك على بيع وشراء.. إما أن يبيع وإما أن يشتري..
لا.. دعني أفسر لك.. هو يبيع الخرفان.. ولكنه في نفس الوقت يشتري رؤوس الأغنام المتوسطة العمر، المقبلة على الولادة… وذلك من أجل تشبيب القطيع..
ناولني عبد القادر وعاء به ماء ودعاني بأن أغسل يدي.. وبعد برهة من الزمن جاءني بـ »صينية » بها كؤوس وإبريق وطلب مني أن أعد الشاي…
كان عبد القادر شخصا متفتحا وكثير الكلام ولكن ليس بثرثار..، فقط لا يكاد ينهي موضوعا حتى يدخل في موضوع آخر وكأنه يريد أن يطلع المستمع على أكبر قدر من التفاصيل حتى يحصل التفاهم.. لقد حدثني عن ثانوية عبد المؤمن التي أمضى بها سنته الثانوية الأولى، وعن الحياة بالداخلية التي كانت صعبة في بداية الأمر.. ولكن سرعان ما ألفها.. ومع ذلك فهو لا يفكر بمتابعة دراسته ويتمنى أن يحصل على وظيفة في سلك الشرطة أو الدرك… وحسب رأيه فإن الحصول على شهادات عالية من طرف أبناء الشعب لا تفيد في شيء.. لأن أبناء الشعب وجدوا أنفسهم على الهامش فيجب أن يكتفوا بالحياة على الهامش وألا يطمحوا في الحصول على شهادات كبيرة تخولهم وظائف كبيرة… لأن في ذلك تعب وإرهاق كبيران بلا فائدة… ثم قال: ألا تلاحظ معي أن الشهادة التي نحصل عليها ما هي في الواقع إلا اعتراف بالمستوى العلمي وليس بالمستوى الثقافي الحضاري.. لأن ثقافتنا كان يجب أن نأخذها من المجتمع.. ولكن مجتمعنا جاهل إلا من رحم ربك.. فأية ثقافة ستمنحها لنا « أولاد أعمر » أو « أولاد سيدي علي » ثقافة الرعاة أو البدو الرحل..؟..لا يا أخي..لا شك أنك لاحظت بأننا نحن أبناء « العروبية » لا نساوي شيئا أمام شباب المدن.. وخاصة المدن الكبيرة.. لأنهم ولدوا في وسط متحضر غير وسطنا المهمش.. إن أطفالهم يدخلون المدرسة وهم متعلمين.. علمهم آباءهم وأمهاتهم واجتازوا دور الحضانة ما قبل المدرسة… وفي أسوء الظروف تعلموا في الكتاب أو نوادي الجمعيات.. بخلافنا نحن.. أغلبنا كان يرعى الأغنام قبل أن يلتحق بالمدرسة.. حتى وإن حاولنا ربح الوقت وحرق المراحل.. فإننا في قرارة أنفسنا نبقى دائما نحس بأننا متخلفين.. وكأننا لم نخلق لنعيش في هذا العالم.. أو كأننا جئنا من كوكب آخر.. حتى لهجتنا تختلف كثيرا عن لهجتهم.. فلماذا نقبل القيام بهذه الأدوار السخيفة ونشارك في الحياة العامة وكأننا فعلا موجودون ولنا دور في المجتمع… نحن.. نحن لا دور لنا إطلاقا.. « رحم الله من عرف قدره وجلس دونه ».. فدعونا نعيش على الهامش، كما كتب لنا أن نرى النور على الهامش ،ونحصل على وظائف هامشية كمعلم أو دركي أو شرطي أو جندي أو ممرض.. هذه الوظائف التي توفر لقمة العيش بالكاد ولكنها وظائف محدودة التأثير قد تغني من بعض الجوع ولكنها لا تسمن أبدا ولا ترقى بصاحبها طبقيا..
كان عبد القادر مقتنعا بما يقول ويتكلم بجدية كبيرة، كان يتكلم كذلك الممثل الذي أعاد دوره عدة مرات حتى أصبح متمكنا منه… لم أعلن عن موافقتي على أطروحته… كما أنه لم يسألني عن رأيي حول ما قاله.. شربنا الشاي وأكلنا خبزا غير طازج ولكنه كان لذيذا مع السمن المذاب..
ربما كان مضيفي قد قرأ على ملامحي تأهبي لمتابعة رحلتي ولذلك سألني بدون تحفظ سؤالا لم أكن أنتظره..
ـ كم تربح من هذه التجارة.. أليست صعبة.. ألم تجد غيرها؟؟
ـ لو وجدت غيرها لما التجأت إليها.. تتكلم عن الربح.. أتعابها أكثر من ربحها.. ولكن ما المعمول.. إذا بعت الهندية مقايضة بالشعير، تدر علي بعض الربح أما إذا بعتها نقدا فاجري على الله..
ـ وكيف مقايضة؟؟
ـ الوعاء بالوعاء.. وعاء من الهندية مقابل وعاء من الشعير..
ـ فهمت..
ـ هناك بقية من الهندية في الخرج خذها من فضلك.. هدية مني.. وشكرا جزيلا على اسضافتك لي وعلى متعة حديثك الذي استفدت منه كثيرا..
ـ كيف هدية ..؟ هل قطعت كل هذه المسافة لتفرق الهدايا..؟
ـ الأناس الطيبون يستحقون كل الخير.. لقد كنت في حاجة إلى الأكل والشرب والاستراحة.. وخاصة المعلومات القيمة عن ثانوية عبد المؤمن التي زودتني بها فشكرا جزيلا.. آه.. لقد نسيت.. كنت سأطلب منك أن تقرضني كتب مقرر السنة الأولى لقد رأيت عندك كتاب توفيق الحكيم
ـ طبعا.. طبعا خذها كاملة… خذ الكتب والدفاتر كذلك.. فلم أعد أتحمل رأيتها.. أنا بدوري كنت سأقترحها عليك..
ـ كيف كاملة وأنت.. أليس…
ـ ألم أقل لك بأني لم أعد أرغب في متابعة الدراسة.. لقد قمت بالاتصالات اللازمة لكي أجتاز مبارة الدرك الملكي.. لا أخفيك لقد دفعت مبلغا محترما مقابل الحصول على هذه الوظيفة..
ـ دفعت الرشوة إذا..؟
ـ نعم رشوة.. أو سميها ما شئت.. ولكن سوف أسترجع كل ما صرفت وبأضعاف مضاعفة..
ـ مقابل الإعفاء من الأداء على المخالفات..
ـ نعم.. البعض ينتقد هذه الطريقة وفي الواقع لا ينتقدها إلا الأغبياء.. تصور أنك ارتكبت مخالفة ووقعت في يد دركي.. فما الأحسن أن تؤدي المخالفة كاملة لتذهب إلى جيب الدولة، أم تؤدي أقل من ذلك بكثير للدركي الذي يعفيك من كل شيء..؟؟
ومرة أخرى لم أناقش مخاطبي… ولم أدل برأيي الذي لم يطلب مني..
قام عبد القادر بجر الحقيبة إلى باب البيت وفتحها وبدأ في إفراغها من الكتب والدفاتر التي كانت بداخلها وكان أغلبها يدخل ضمن المقرر الدراسي للسنة الأولى من الثانوي… وبعدها دخل بيتا آخر ليخرج منه بعد وقت قصير وهو يجر كيسا وقال لي :
ـ خذ هذا الشعير إنه لك.. وإذا قبلت اقتراحي.. وابتداء من الغد سوف تزودني بخرج من الهندية مقابل مثل هذه الكمية أو أكثر منها بقليل.. وذلك بصفة يومية..
ـ أليس بكثير.. ماذا ستفعل بخرج من الهندية..؟
ـ عندنا عيال كثير.. قد يحصل كل فرد على خمس حبات..
ـ ووالدك هل سيوافق على…
ـ أنا الذي أقرر والدي لا دخل له في الموضوع.. وسأقايض الفاكهة بالشعير القديم أي شعير السنة الفارطة ولكنه جيد ..
أخذت الكتب وأخذت الشعير وأفرغت ما بقي من الهندية أرضا.. وانصرفت بعد أن اتفقت مع عبد القادر بأني سأزوره مرة كل يومين..
وفيت بوعدي، وصرت أسهر على جودة سلعتي أنا بنفسي.. كنت أختار لعبد القادر أجمل وأطيب وأكبر حبات الهندية.. وصرت كلما وصلت إلى دواره أقف غير بعيد ولكن لا أنادي: آلهنديا…!! كما كنت أفعل سابقا.. كنت أجد عبد القادر في انتظاري.. فأناوله الهندية ويناولني الشعير ثم انصرف بعد استراحة قصيرة أتجاذب معه خلالها أطراف الحديث وغالبا ما كنت أسأله عن الثانوية وعن كل ما يتعلق بالدراسة بوجدة…
***
العين…
لاحظ أهل القرية أني لم أعد أستعمل أكثر من حمار واحد.. وأن عودتي من رحلة الشوك لم تعد تستغرق وقتا طويلا كما كانت.. وذات مساء وبينما كنت عائدا من رحلتي نادني أحد الجيران من الضفة الأخرى لوادي المعدن.. وسألني هكذا بدون مقدمة كم أربح يوميا من رحلاتي المكوكية هذه.. وعندما حاولت التملص من إعطاء الجواب ألح علي قائلا:ـ بالله عليك كم تربح تقريبا…؟؟ فلما أجبته بأني أحصل على ما بين ثلاثين وأربعين درهم.. سكت برهة ورد علي:
ـ هاه… كأنك تقضي يومك بهولندا أو بلجيكا…
لم أكن في الماضي لأعير مسألة « العين « اهتماما كبيرا رغم الحديث النبوي الشريف المشهور في هذا الميدان… إلا أنه وفي صباح اليوم الموالي.. وكعادتي، كنت أقطع الغابة الفاصلة بين « بزوز » و »الكريمة  » وأوائل أشعة الشمس تقبل رؤوس الجبال.. وأنا أسير خلف حماري الوحيد منذ أن تعرفت على عبد القادر.. فأحسست أن رجلي اليسرى قد وطأت على شيء صلب.. وعندما وقفت لأتأكد مما في الأمر.. وجدت أن رجلي قد وقعت أسيرة وسط أغصان يابسة لشجرة « الطاكة ».. هذه الأغصان التي لا أدري كيف اعترضت سبيلي وكيف سيقت إلى وسط الطريق وعندما حاولت فك رجلي من الأسر كانت مفاجأتي كبيرة بحيث أن غصنا كسهم حديدي قد اخترق نعالي المطاطية واخترق لحم قدمي ليتوغل فيه لأكثر من أربع سنتمترات.. حاولت أن أستل الغصن إلى الوراء بالليونة ولكن لم أتمكن.. وعندها أغمضت عيني من شدة الألم وسحبت الخشب بقوة.. وبدأت الدماء القانية في سيلانها المخيف.. شددت على الجرح بخرقة ثوب قديم واستأنفت رحلتي.. ولم أصل إلى منزل عبد القادر إلا بمشقة النفس… استبدلت قطعة القماش المتسخة بقطعة أخرى أكثر نظافة.. ولاحظت أن الجرح لا يزال ينزف.. وكأن هناك شيئاً غريباً عن جسمي في عمق الجرح الذي لا يندمل…
وكانت هذه آخر رحلة على « طريق الشوك » والتعب والجراح والدماء والألم.. إذ أصبحت مضطرا لملازمة فراش الراحة لمدة تفوق أسبوعين ذقت خلالها الأمرين من الجرح الذي أصبت به.. ألا إن « العين حق، ولو أن شيئا سبق القضاء لسبقته العين. » صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وإذا أضفت هذا الحدث إلى أحداث مماثلة حدثني عنها أشخاص ثقاة من قريتنا، فيمكن القول بأن جماعة « العائنين » عندنا أمر صحيح وليس بلغو ولا مزاح.. فـ »أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.. » صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم…
بعت الشعير الذي حصلت عليه من تجارة الهندية.. وكانت النتيجة مرضية للغاية.. ساعدتني على سد الكثير من الثغرات بل وشجعت والدي كذلك ليتبرع علي بمصارف زيارة قصيرة إلى مدينة تازة لم أكن أحلم بها…
وكان الخير فيما اختاره الله.. لقد قمت باستغلال وقت النقاهة في الاطلاع الجيد على برنامج السنة الأولى من الثانوي.. وقرأت الكتب المقررة التي تبرع بها علي عبد القادر وتصفحت دفاتره.. وقد استغربت كثيرا من المستوى الدراسي المتواضع لعبد القادر الذي لم أره منذ ذلك الوقت… وربما كان هذا التواضع في الدراسة هو الدافع الحقيقي الذي جعله يبحث عن وظيفة…
***
جرادة..لا تودع أحدا..
عدت إلى جرادة بعد ثلاثة أشهر تقريبا.. أمضيت معظمها في رحلاتي المكوكية على « طريق الشوك ».. وفي زيارة قصيرة لمدينة تازة.. عدت إلى جرادة لأغادرها إلى وجدة… بدأت في جمع أمتعتي كاملة هذه المرة،.. وكان علي أن أقدم اسم شخص يحضر معي إلى إدارة الثانوية ليكفلني وليشهد على نفسه أمامها بأنه سيكون بمثابة ولي أمري خلال تواجدي بالثانوية… وبما أنني لا أعرف أحدا بوجدة، فقد سافر معي « قدور » ليعرفني على شخص من أهله لعله يقبل القيام بهذه المهمة.. وكانت المسألة بسيطة للغاية، وشكلية من الشكليات الإدارية، ولكن الناس يتخوفون من تحمل المسؤولية…
سأغادر جرادة،.. سأغادرها ليس كالمرات السابقة بنية العودة إليها لمتابعة دراستي، بل هناك شعور آخر هذه المرة… شعور يشبه إلى حد بعيد شعور جندي خاض معركة ضارية وحاسمة وبقي على قيد الحياة بأعجوبة كبيرة.. فسوف لن أعود إلى جرادة إلا كما يعود هذا الجندي إلى الأماكن التي دارت فيها المعارك التي شارك فيها، ولأعيد شريط الأحداث في ذاكرتي، وقد بدا لي أني كنت أنا كذلك فارسا من فرسان الأنفاق..: هنا أصبت بشظايا انفجار… وهنا مرت شظية جهنمية بأضلعي فأخطأت قلبي ببعض مليمترات… وهنا مرت عربة محملة بكل سواد الدنيا وآثامها على عظامي فلم تتمكن من تفجير قفص صدري… وهنا نبت قلبي من جديد في أوحال الفحم ليقول للعربة الملعونة آه… كم كنت قاسية يا عربة الحرمان يا دبَّابَة الفقر والجراح والألم والمعاناة.. يا كاسحة الجثث الآدمية في الأنفاق الضيقة…
سأغادر « جرادة » بسجل حافل بالذكريات المؤلمة والحزينة لأحملها فى سواد قلبي حبا متفحما وإلى الأبد.. لأن جرادة لا تودع أحدا..
وودعت « جرادة »… هذه المدينة التي حفرت اسمها في قلبي بالدم والبارود ووشمت حياتي بسواد الفحم الحجري وبكثير من الحب لكثير من الوجوه الطيبة التي رافقتني عبر الأنفاق الضيقة في هذه الحياة ولا تزال ترافقني… جرادة في واقع الأمر لا تودع أحدا..
هذه المدينة النفق الأسود، الذي لا يروق له من الأكل إلا ابتلاع أكباد الرجال، ولا يستسيغ من الموسيقى إلا مواويل البكاء وعويل الثكالى وصراخ الأيتام وحشرجات طوابير المختنقين… ولا يحلو له من المناظر إلا مرض السليكوز والفقر والتشرد والتهميش.. جرادة ثقب أسود يبتلع كل شيء ولا يَدَعُ أحدا..
جرادة لحظة اختناق بين تنفس صعب وبصاق دم أسود ومناشير صدرية يعقبها الإغماء… جرادة زغرودة لا تكتمل فرحتها أبدا… كلما ابتدأت… اختنق رجع صداها في ظلام الأعماق وضيق الأنفاق لترقد مضطرة قبل الأوان بفضاء مقبرة « جبيلو »..
« جرادة » مشروع ملحمة عذاب أبدي، تم إجهاضه عندما ضاع في الأوحال السوداء، في أزقة وشوارع لم يكتب لها أن تحمل أسماء فحملت أرقاما كتوابيت جيش هزمه الوباء قبل أن يهزمه العدو…
« جرادة » لا تودع الراحل عنها بل تتشبث به كما تشبثت في يوم من الأيام حشرة الجراد على ظهر خروف فقطع بها مسافة طويلة… طويلة جدا.. ولم تغادر ظهره حتى أصبح المكان يحمل اسم: « جرادة » ويقذف من جراحه شيئا أسود يشبه ذلك الذي علق بأرجل الأرانب التي اصطادها الطبيب البلجيكي.. ووقف الزمان حائرا… وبدأ يحكي حكاية « جرادة »…

خاتمة مفتوحة
كنت بصدد القيام بالإجراءات الأخيرة لطبع هذا الكتاب ،الذي تأجل عدة مرات لأسباب مختلفة وكأنه كان ينتظر حدثا هاما لم يشهد تاريخ جرادة مثله أبدا..
بتاريخ 22 دجنبر 2017 توفي الشقيقان حسن وجدوان الدعيوي غرقا بإحدى « سندريات » الفحم الحجري بجبال حاسي بلال، المستغلة بطريقة عشوائية، على بعد حوالي مائة متر تحت سطح الأرض …وقد كان هذا الحدث المؤلم بمثابة النقطة التي جعلت الكأس تفيض، وكان كافيا لإشعال فتيل حراك شعبي سلمي قاده أبناء جرادة وحاسي بلال بكل وعي ومسؤولية، شاركت فيه جماهير غفيرة من ساكنة المدينتين…
وهكذا هبت مدينة جرادة من وكرها، ونفضت عنها غبار سنوات الموت والنسيان والتهميش والغبن و »الحكرة » ورفعت شعار التحدي الصارخ في وجه الظلم والطغيان، لتعلن للعالم بأنها لا تزال حية ترزق، ولن تستسلم للموت أبدا كما أريد لها…وأن شهادة الوفاة التي سجلت خطأ في حقها قد ألغيت رسميا وألغي الاعتداد بها…
وكنت قد ختمت كتابي بعنوان : »جرادة… إلياذة لم تكتمل فصولها  » وكتبت حرفيا ما يلى:
« وهكذا،فإذا كانت أبواب المنجم قد أغلقت ..فيجب أن تبقى فصول إلياذة جرادة الملحمية مفتوحة،لتنمو وتتطور في الذاكرة الجماعية لأبنائها بدلا من إغلاقها قبل الأوان…فمن يدري؟..فقد تتمخض شوارع جرادة عن ميلاد « هوميروس » من زمان آخر ليرسم لجرادة « إلياذتها » ولتستمر الحكاية ..فتفتح أبواب المناجم من جديد وليعود فرسان الأنفاق إلى منازلة العمالقة في الأعماق المظلمة أو ليدشن فصولا أخرى أكثر نجاعة وتفاؤلا وأجمل منظرا من مناظر الموت خنقا من أجل رغيف أسود…
لا أكاد أصدق ما أرى.. لا شك أن جزأ من أمنيتي قد تحقق.. ولا شك أن بعض تنبئي قد صدق…؟؟ والأكيد هو أن « هوميروس » قد حل بشوارع جرادة ،وزار كل ربوع المنطقة ،لا للسياحة و الاستجمام …ولكن لكتابة الفصل الموالي للملحة…
كان هذا الفصل في شكل حراك شعبي وكان يقطر ألما ويفيض حبا وحنانا وكان فصلا ملحميا بامتياز، سارت في مظاهراته أمواج بشرية « تسونامية »..آلاف الجوعى والأيتام والأرامل والشيوخ و مرضى السليكوز والنساء والرجال والأطفال وحاملو الشهادات والعاطلون والمهمشون والمثقفون الواعون…كان فصلا من أروع الفصول إطلاقا، شارك في تصميمه أبناء و بنات جرادة عن بكرة أبيهم، الذين تكلموا أخيرا..تكلموا بصوت مرتفع سمع في كل أرجاء المعمور، وسمع حتى من طرف سكان مقبرة « جبيلو  » الذين انبهروا من هدير أصوات أبناءهم و حفدتهم وهي تهد قلاع الصمت الذي خيم طويلا..
ستبقى خاتمة هذا الكتاب مفتوحة لتشهد على ما سيتمخض عليه الحراك المبارك العظيم من نتائج، التي لا أتصورها إلا إيجابية، وأتمنى من كل قلبي أن تكون أحسن وأجمل بديل عرفه تاريخ جرادة وإنسان جرادة…
***

* انتهى*

***
ملحقات شعرية

لم تودعني..

أغنية.

على مائدة الحبال..

أو شام شعرية..

فأهلا بالموت…

***
(1)
لم تودعني

ودعت جرادة… ولم تودعني…
سكنتها لوقت ولم يبق مكانا لم تسكنه مني…؟
كسبتني الجحود يافعا، فاستعبدتني…
طال بي الزمن بالنفق حتى ازرق لونى…
اسود دمي وشبابي وحبي… عذبتني…
ولعدة مرات أماتتني..وقلما أحيتني…
ودعت جرادة … ولم تودعني.
لازلت أحمل أوشامها الزرقاء
في خبايا لحنى …
أحملها وثنا كأشياء منى…
لا.. لا..جرادة لم تودعني..

***

(2)
أغنية
وتهدهد الأم طفلها أمام مدفأة الفحم و تغنى…:
نم حبيبي لا تخف من سواد الليل،
إنه فحم ذاب من شدة الحب…
و الفحم كان كاللواء الأخضر..
يسافر مع الريح كنورس البحر…
فاسود من هموم الأرض فتحجر..
وعندما تكبر سأروى لك قصصا…
عن الحب كيف ينمو..
ويعلو…
ويزهر..
نم حبيبي إن في قلب الفحم بصمات الزهر الأخضر…
نم حبيبي إن في الحب دفئ عندما ينمو ويزهر.
***
(3)
مائدة الجبال…
عــــيد بأية حال عـــــدت يا عيد*)
إن ضــــنك الزمــان أضـــنانا
العيد ينــــتظر للحـــفل والمــرح
وعيـــدي كان شقاوة وهـــوانا
آويــت إلى حـــضن الطود متخذا
من الخلاء والجـــوع خـــلانا
فكان أن حطت بالقـــرب جـماعة
تنشد الـــــــــــراحة و السـلوان
غــــــير أن جلســـــة القوم لم تدم
فانفــــضوا جماعات ووحـدانا
متـى كان الخـــمر يديم عشرتهم
لتــــــطول في الــدهــر أزمانا
ركــاب الشـــــر دوما يوصـــلهم
إلـى المعـاصي صـما وعميانا
شارب الخمـر عدو النفس والبدن
قبل أن يصــبح في الناس شيــطانا
لا تـــــرم في الــــسكران مكرمة
منه ترجـــوها منذ كان سكرانا
يـــــقول أشـــياء ويـــأتي بعكسها
وإن تجادله فهــــو شــرما كان
الخمـــــر مفـــــسدة للعقل تحجبه
وتلغى الحب و المـروءة والحنان
ذهبـت إلى مكان الـقوم أفــحصه
لعلى ألقى ما يســعف الجــوعان
وجدت الخبز ملقى على الحـــجر
ووجـــــدت بقــايا زيتون و أجبانا
ووجـــدت طوابير النمــل زاحفة
من كل صـوب، تمـلأ الأركــانا
على كل فـــــتات جيش منــشغل
شيـــوخا تــرى منهم وصــبيانا
فقلت انسحب؛ فــــوا عجـــــــبا؛
أما سمعت يا نمـــــــل إعــــلانا
إن طلائع الجــــيش قد وصلت
تســــبق موكب سليــــــــمان
جمعت مائدة من كل ما فضل
فأكلــــت وفاض الخــير وديانا
سبحان من بعث بالــرزق للجبل
فأكــرم الإنــس بـه والحـــــيوان
مصائب قـــــوم عند قــوم فوائد
وجـــــــند الله تعــــــمر الأمـكان

جرادة ــ جبال سيدي بالقاسم ــ 1968

***
(4)
أوشام شعرية
بالفـــحم الـــحجري

تذكر صداع الــهم والألـــم
وماض قد نقش في القلب أوثانا
كم قصيد كالوشم بت ترســـمه
وعند الفـــجر تلقى به خجلانا
نسجت بالشعــر للفقر ملحـــمة
ورسمت بالوشـــم للجوع جنانا
بنيت بالدمع قصـــيدا تردده
فما صــدقت ما رصعت جـمانا
كدر تخرجه في الآهات تسـكبه
بالأنـــات تـبدعه للعيـــن ألـوانا
بجرادة وحـرائق الفحم تلهبك
ومــداخن البــرد تلفــظك دخانا
إذا نام القــــــــوم فعلت مثلهم
وفكـــرك سارح يجوب الأكوانا
تجـــوب دروبا كنــت تجـهلها
لتعــانق فقرا في الدرب عريانا
تكدس الألم أكواما تركــــــمها
لغـــــــــد يأتي بالحــــزن ملآنا
فاضت سريرتك بالشعر تلتمس
رســــم الحب به والخـبز أحيانا
ينام الجــفن حين الدفء يلــمسه
فإن جاع فالفنـــاء والمـوت حانا
مهموما يقذفك الدهر في طرب
لا الروح تبتهج ولا القـلب جذلانا
لَعَلِّى أفهـــــمها أحزانا محرقة
كانت تضطرم في الأرض نيرانا
فلم تجد نفسا فذابت في الحجر
فـحمــا تحـــوله في العـمـق قطرانا
فكأن ما بي من هم كان بالحجر
فاســـود فحما، وذاب قلبي أشجانا
فلا الهمـــــــوم يوما تغادرني
كما يغــادر الأرض الفــحم أطنانا
أم أن الفحم حكر علــى الحجر
كما أن حــظي وهـما في الدنـيا كان
أجـــــــرادة فحم؟ فلماذا نكتئب؟
أم جــرادة هــم؟ فإن الفـــحم أفنانا
تنمو بأضلعنا أصوات نعـرفها
أشـباح المـــوت بدت تعـد موتانا
يا فحـــــم الموت دع تنفسنا
لنشــم هــــــــــواء حـولته أكـفانا
كل يشــــــــم قدر ما يموت به
فكنـت كريما حــين الـغبار غطانا
جئناك نشـــــكو فقرا أحـوجنا
فوقَّــعْنا عهـــــــــــدا بحبر دمانا
عددنا وقتا عشناه في كـرم
وعاش بشــرف، من العهد صانا
أحياء أمواتا عشنا في النـــفق
وظـــــلام الفحــــم الــعمر أنسانا
فلماذا يا فحم صــرت تخــنقنا
لحـى الله يا فـحم من العــهد خانا…

جرادة ـــ دجنبرــ1968

***

(5)
فأهلا بالموت..
إن كـــــــان لابــد مـــــــــن الغـرق
فأهـــــــلا بالمــوت والغــرق
أحـــتار فــي أي طـــريق أسلـــكها
وقـد وقــف الزمان بالمفـترق
كل طــــريق تمــــضي لوجـــهتها
فيا ليتني أعـــلم أحسن الطرق
أســـير فيها سعـــيدا غـــير ملتفت
ولا شاعر بمآسي حــزن أو قلق
عالما أن المــــوت يـوما سيدركني
في وضـح نهار أو ظلمة الغسق
فلماذا أشــــــقى لحــــياة أتـــركها
ولمـــاذا يشــقى للـــفراق شــقي
فهنيئا لمـــن ســــر الوجود بــــدا
له نــبــــــراسا مشـــعا بالأفـــق
يهديه للـــــــخير وإن زاغ رد به
فهـدايا الله كـــنز علــى طـــــبق
إن يردك بخـــير يأتي على عجل
بــــلا مشــــقة ولا كــــد أو أرق
جرادة ــ1968

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *