Home»National»صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للمؤلف : قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 11 ـ

صدى السنين ـ فرسان الأنفاق 2 ـ للمؤلف : قاسم رابح واعمر ـ الحلقة 11 ـ

0
Shares
PinterestGoogle+

الفصل الرابع
***
..أصبحت تنتابني لحظات ارتعاش عميقة… وقشعريرات كانت تهزني من رأسي إلى أخمص قدمي… وبعدها يدخل جسمي فيما يشبه حالة التخذير الكامل وكأني كنت أفقد وزني… وكان العالم من حولي يصبح قريبا وبعيدا عني…

البلاء الصاعقة
كانت الأمور تسير في الاتجاه الإيجابي بالنسبة لي… وكانت السعادة تغمرني رغم حرماني من الكثير من الأشياء التي كنت أتمنى الحصول عليها وعلى رأسها الكتب والملابس… ولكن هذا لا يهم كثيرا مادام هناك بيت يؤويني، وما دمت أتوفر على الحد الأدنى من وسائل العيش وما أسد به رمقي…
إلا أن دوام الحال من المحال. لقد كان للتغيرات التي طرأت على علاقة شقيقتي بزوجها أثرا سلبيا كاد يغير مجرى حياتي أنا بدوري…
شقيقتي لم ترزق بأولاد رغم مضي ما يزيد عن عشر سنوات عن زواجها بـ « قدور » الذي تغير كثيرا… وكان يخيل إلي في بعض الأحيان أنه فقد القدرة على الابتسامة… أو ربما تعرض لحادث نفسي خطير أفقده الضحك والمرح.. وأسكنه دهاليز الكآبة إلى الأبد…
والحقيقة أن المسألة كانت قديمة وأن الخلاف قد نشب بين الزوجين منذ أمد بعيد، إلا أن تحمل أختي لتقلبات مزاج زوجها ومحاولتها لتلطيف الجو كلما أوشك على الانفجار… كل ذلك كان يجعل الغرباء عن الأسرة يعتقدون أن الزوجين في سعادة تامة… إلا أن الواقع كان عكس ذلك…
كان « قدور » قد غادر المنجم في أعقاب تزايد نسبة السيليكوز في رئتيه حيث أصبح حارسا في إحدى الورشات التابعة للمنجم والمتخصصة في النجارة… ثم أحيل بعدها على المعاش مما اضطره إلى احتراف التجارة في دكان صغير وسط المدينة يبيع فيه المواد الغذائية.
لاشك أنه كان يعاني من قضية عدم الإنجاب في صمت رهيب… أكثر من عشر سنوات لم يرزق خلالها بالخلف… في حين كل أصدقائه وأشقائه قد رزقوا بذرية كثيرة…
معاناة أختي من هذا المشكل لم تكن لتضاهيها أية معاناة أخرى… كانت المسكينة تذرف الدموع وتكتوي بجمرات الصبر… وكما قالت لي يوما:
– هي الحاجة الوحيدة التي لا أستطيع أن أفعل معها أي شيء.. هي بيد الله وحده… لا أحد يمكن أن ينفعني إلا هو سبحانه!
كانت شقيقتي تتعذب وكان شبابها يذبل يوما بعد آخر… بينما بدأ اليأس يتسرب إلى روح « قدور » لتنهار معنوياته كلية…
بدأ يتأخر عن العودة إلى البيت.. وبدأت الأقاويل تكثر، وبدأت ألسنة السوء في تداول روايات حول تصرفاته، وحول علاقته بامرأة مطلقة، وتبدأ النار التي كانت جذوة صغيرة طوال سنوات خلت في الاشتعال… وتطفو التناقضات على السطح… وتبدأ شقيقتي في الصراخ كلما تأخر زوجها عن العودة إلى المنزل… بينما هو لم يعد يستطيع الصبر أكثر فبدأ في تعنيفها علانية…
وتكررت هذه العملية لعدة مرات في ظرف بضعة أشهر…
وقد شاءت الظروف هذه المرة أن أكون من الشاهدين على أحد فصول هذه المأساة…

***
خصام الزوجين
في إحدى الليالي الخريفية الباردة… عدت إلى البيت الخشبي الصغير حوالي الساعة السابعة مساء لأجد أختي واقفة خارج البيت، في حالة من القلق قل نظيرها. فلما وقعت عينها علي، بادرتني بالسؤال:
– لماذا عدت متأخرا أنت كذلك… و »قدور » ألم تَرَهْ ؟ !
رأيته قبل نصف ساعة… هو لا يزال بالدكان.
هل كان لوحده… أجبني !
لا! بل كان معه بعض الزبناء وكان يناولهم أغراضهم.. وأنت مالك؟ تعالي إلى داخل البيت..
يبدو أن شقيقتي لم تكن تسمعني وكانت عيناها لا تستقران على أي شيء، وصوتها الذي بدأت تعلوه غنة الخيبة يكاد يتحول إلى صاعقة جارفة…
لاشك أن نار الغيرة قد فعلت فعلتها وأن الشكوك السوداء باتت سيدة الموقف.. وفي هذه اللحظة سمعت صوت دراجة نارية تقترب من المنزل تأكدت أنه قدور الذي أدخل الدراجة إلى داخل الحوش، وأسكت محركها وبحركة آلية رفع الدراجة وداس برجله اليمنى لينزلها على القاعدة التي تستوي واقفة عليها…
بادرته شقيقتي بالسؤال الذي بات يحيرها!.. ويبدو أنه لم يتمالك.. ويبدو أنه فقد صوابه هذه المرة ! وبدأ بضربها… لم يحترم وجودي كما كان يفعل في الماضي… كنت أسمعهما من حين لآخر يتشاجران.. ولكن قدور لم يجرأ أبدا على تعنيف أختي بحضوري!! لاشك أن صبره قد نفد ولم يعد يتحكم في تصرفاته! كلاهما على حق! شقيقتي على حق لأنها تريد أن تحمي بيتها وزوجها… و »قدور » كذلك على حق ربما لأن شكوك أختي قد فاقت كل الحدود… كانت تصيح بأعلى صوتها:
حرام عليك ! حرام عليك!..
لم أشعر حتى وجدت نفسي أقف رغم أنفي في وجه « قدور » الذي تحول إلى حيوان مفترس… وقد حاولت أن أهدأ من روعه وأن أسحب من يده الأشياء التي يمسك بها ليوجهها بقوة في اتجاه أختي الملقية على الأرض… كانت أنفاسه تسمع من بعيد… وكان الصوت الذي يحدثه يشبه صوت كير متهرئ… ربما كان يحاول أن يقول شيئا… ولكن يبدو أن لسانه قد فقد الحركة… وعندما منعته من توجيه الضربات إلى أختي وذلك بالوقوف بينهما.. فقد تحول إلى حائط الحوش الخشبي لينهال عليه بالركل ثم بضربات من رأسه! لقد جن فعلا… لم أر في حياتي حالة مثل حالته! أدركنا الجيران وكلهم من عائلته. النساء تجمهرن حول شقيقتي لإسعافها… أما بعض الرجال فقد حاولوا تطويق قدور لكي يكف عن حماقته! بينما اجتمع باقي الجيران حول الحوش الصغير… وبدأوا في توجيه كلمات العتاب تارة إليه… وتارة إلى شقيقتي! هدأ الوضع… وعادت الأمور إلى مجاريها وانصرف الجيران والجارات إلى حال سبيلهم ومنهم من يحوقل ومنهم يشتم عين الحسود ويستعيذ من الشيطان الرجيم!
بقيت خالتي فاطنة رفقة أختي التي أدخلتها إلى غرفة نومها وأغلقت الباب وراءها، بينما انفرد عمي « بالخير » « بقدور » وبدأ يهدأ من روعه، ثم أخذ بيده بهدوء وانصرفا إلى خارج الحوش، ليمضي به إلى بيته لمحاولة تهدئة الخواطر وتناول وجبة العشاء.
دخلت إلى بيتي الصغير واستلقيت على الكرسي وأوصالي كلها ترتعش… صعب علي كثيرا أن أرى شقيقتي تهان وتداس كالبهيمة… ثم تذكرت وصايا والدتي يوم التحقت بجرادة: « إذا نشب خصام بين فاطنة وزوجها يجب ألا تتدخل لصالح أي منهما … لأنه طال الحال أم قصر سوف يتصالحان… أما أنت سوف تكون قد كسبت عداوة أحدهما… »
صحيح ! إنها حكمة بالغة ! لم أتدخل أبدا في مشاداتهما الكلامية إلا بالتي هي أحسن، وكان كلام والدتي على صواب… لأنهما سرعان ما كانا يتصالحان.
لم أنم تلك الليلة… ولم أراجع دروسي كالعادة… كان العشاء الذي تناولته في بيت عمي « بالخير » بدون طعم ولا مذاق… ولكن صبرت على مضض.
رجعت أختي وزوجها إلى بيتهما وأغلقا الباب وراءهما… وكأن شيئا لم يكن… ولم أعد أسمع شيئا…

***
 » صخرة سيزيف.. « 
كان الليل طويلا … وكان البرد القارس يفرض نفسه شيئا فشيئا…، والناس في جرادة لا ينامون. قد تستيقظ في أية لحظة من الليل لتسمع مرور الدراجات النارية أو السيارات بل وحتى بعض الأغاني البدوية التي يطلقها العمال من أعلى جبل نفايات الفحم الحجري الذي كدتسه إدارة المنجم قرب مقر السوق الأسبوعي غير بعيد عن « دوار أولاد اعمر »… وكان يتحول رويدا، رويدا إلى جبل شاهق… وكانت حبال القاطرة الكهربائية التي تحمل النفايات من الغبار والحجر المفحم من قاعدة الجبل لتلقي بها في قمته، تحدث أصواتا غريبة تارة تشبه صوت خرير المياه المتدفقة وتارة أصواتا مزعجة لا تتحملها الآذان البشرية..
وكان العمال الذين يطلقون عقيرتهم بالأغاني من أعلى الجبل يخففون من صرير الأصوات المزعجة التي تحدثها القاطرة في صراعها الدائم من أجل تسلق الجبل على سكة حديدية يغطي أجزاءها غبار الفحم، والتي بمجرد ما تصل إلى القمة، تتلقفها سواعد العمال التي لا تنام ولا تتعب لتساعدها على إفراغ حمولتها ثم تعود متدحرجة متهادية وكأنها قصة « سيزيف » أو « سيسيفوس » في الميثولوجيا الإغريقية، الذي أغضب كبير الآلهة « زيوس »، فعاقبه بحمل صخرة ضخمة على ظهره إلى قمة الجبل، ولكنه بمجرد ما يقترب من القمة، حتى تنفلت منه الصخرة لتندفع متدحرجة إلى الأسفل،… إلا أن صاحبنا يعود إليها ليحملها مرة ثانية وثالثة… وهكذا إلى أبد الآبدين… بدون توقف ولا عناء ولا كلل.. إنها القصة التي ترمز للعذاب الأبدي…
فيا عجبا.. إنها قصتي أنا كذلك.. أنا الذي لم أكد أهنأ نفسي بنجاحي الباهر في دراستي.. ولم أكد أحس بالسعادة تغمرني من كل جانب وتنسيني عذاب سنوات الجمر والمحن بالقرية.. لم أكد أنسى أو أتناسى تصرفات المعلم الجلاد، حتى وجدت نفسي وجها لوجه أمام الصخرة الثقيلة المنهكة للقوى والمقضة للمضجع والتي تدكني في التراب بكلكلها دكا.. « صخرة سيزيف ».. إنه قدري..
لم أنم تلك الليلة فكرت في جبل الفحم… في أغاني « إزلان » التي كان العمال يخرجونها من حناجرهم كقذائف محرقة تشعل البارود في قلب المستمع، وكانت فيما مضى تفعل في قلبي فعلتها، إلا أنها الليلة لم يعد لها معنى في نظري، وكأنها مقذوفات خمد فتيلها.. وذلك بالرغم مما أودعها أصحابها من لهيب وحرائق همومهم المحمومة… فكرت في خرير القاطرة الحديدية… في لولبها الأزلي الذي يبتلع الحبل الحديدي المشدود في قمة الجبل، فكرت في التحدي السيزيفي وفي المهمة السيزيفية لقاطرة الفحم المحكوم عليها بحمل النفايات والغبار الأسود… فكرت في شقيقتي المعنفة.. في مصيرها مع زوجها… ومع بزوغ الفجر قررت مغادرة منزل « قدور »… قررت مغادرة بيت شقيقتي… قررت مغادرة الفردوس: البيت الخشبي الصغير وكان القرار صعبا… لم يكن من السهل على آدم مغادرة الجنة… مغادرة البيت الخشبي الصغير الذي لا تتعدى مساحته مترين على ثلاثة أمتار… لكنه كان فردوسي العجيب. كان يجمعني بكتبي وبفراشي البسيط.. الفرق شاسع بيني وبين أبينا آدم الذي أغره الشيطان بمساعدة حواء، فأكل من الشجرة المحرمة التي نهاه الله عنها.. فطرد من الجنة… أما أنا فأعاقب عن ذنب لم أرتكبه ولست أدري ما هو حتى أعاقب عنه.. ربما أنا أعاقب على ذنب ارتكبه جدنا آدم…
مع بزوغ الفجر كانت أمتعتي جاهزة… وهي عبارة عن علبة من الورق المقوى بها كتبي ودفاتري وحقيبة صغيرة بها بعض الملابس…
مع بزوغ الفجر كان « سيزيف » يتأهب لحمل الصخرة من جديد من عمق الوادي إلى قمة الجبل.. ويبدو أن قمة الجبل أصبحت بعيدة هذه المرة أكثر من اللازم…
مع بزوغ الفجر، اختلطت المفاهيم فأصبح السؤال الرئيسي في فلسفتي الآن، إلى أين سأمضي؟ وليس من أين جئت… يا لسخافة سؤال من أين جئت؟! هل هذا يهم؟! المهم أني وجدت في هذه الدنيا، ولابد أن أمضي إلى بعد معين.. لابد أن يكون لدي اتجاه.. أم أن البحار فقد البوصلة.؟.. البحار الصغير يدخل البحر بعلبة من الورق المقوى… البحار يعيش الهدوء الذي يسبق العاصفة.. يبدو أن البحار سيغرق لا محالة… البحار يفقد الشراع والاتجاه… البحار يذوب شعرا.. يبدو أن دموع البحار بدأت تسيل في صمت رهيب لترسم أبياتا مأثرة من الشعر الفصيح
إن كان لا بد من الغرق * فيا مرحبا بالموت والغرق..
تمنيت لو يأتي والدي أو والدتي من القرية لعلهما يجدان لي حلا… ولكن أي حل؟ إن لم تكن مغادرة الدراسة والرجوع إلى القرية…
إن القضية أصبحت أخطر من أي وقت مضى.. وبالأحرى فإن مستقبلي أصبح على كف عفريت.. ولم يبق أمامي إلا المحاولة الأخيرة.
ليس هناك في جرادة بيت يقبلني ويؤويني… كم أحب دراستي… كم أحب كتبي ودفاتري.. كم أحب أن أتفلسف في محاولاتي الأدبية، كم أحب أساتذتي والأساتذة كذلك كلهم يحبونني..
لم يبق أمامي إلا أبناء عماي …! والحمد لله على ذلك..
لكن والدي… لا يرتاح لهذا الحل مخافة من أن أثقل على العائلتين ومخافة أن أنجرف خلف سعيد الذي أصبح يدخن علانية… سبحان الله… إن السيجارة التي لم أكن أتصور في يوم من الأيام أني سأرفعها إلى شفتي، قد أصبحت الآن في نظري لا تشكل أي مصدر للقلق.. أنا مستعد للكشف عن أسرار هذه الطابوهات وسوف لن أفقد صوابي وسوف أتابع دراستي مهما كانت الظروف..
وسعيد وحميد وامحمد أليسوا أبناء عمومتي ألم أكن في صغرى أعتبرهم أشقائي… ولم أعلم أنهم أبناء عمومتي حتى كبرنا… ثم لماذا سيؤثر علي سعيد بالضبط … فقد أؤثر عليه من يدري!
مع بزوغ الفجر كان القرار قد أتخذ، وجفت الأقلام ورفعت الصحف.. بل وجفت حتى الدموع آلتي سالت قبل قليل.. سأرحل لأنضم إلى أهلي، وبالضبط إلى أسرتي عماي. قد لا أجد جنة منزل « قدور » بفردوسه الكبير ـ البيت الخشبي الصغيرـ الذي كنت أعيش فيه بمفردي تحت الرعاية الفائقة لشقيقتي! ولكن لا يهم.. لم أعد أتحمل… سأترك أختي لمصيرها… سأتركها لقدرها… وسأمضي أنا كذلك لقدري، لم أشاورها في الموضوع سوف تغضب وسوف تبكي.. كما أني لم أستأذن  » قدور »… أحسست بتأنيب الضمير تجاهه.. قد يغضب عني طوال حياته ـ هو الآخرـ.. لازلت أحب هذا الرجل رغم زلته أمس… لم أر منه إلا الخير… فعندما وقفت بينه وبين أختي استدار المسكين إلى السياج الخشبي وانهال عليه ضربا برأسه وركلا برجله.. « قدور »: إنسان شهم، نبيل، كريم، لكن ظروفه النفسية ورد فعله إزاء الغيرة العمياء من طرف أختي وأسئلتها المستفزة جعلته يفقد صوابه…
سامحك الله يا « قدور »..ألم تقل لي في يوم من الأيام بأنك بمثابة والدي؟.. قد سامحتك من كل قلبي.. ولكن هناك شيء بداخلي يقول لي: ارحل..، ارحل.. ربما كان كبرياء الرجولة المترعرع بين جنبي، قد بدأ في إصدار أوامره إلى النفس الحيرى… فسامحني يا قدور…
***
الخروج من الجنة أو القرار الصعب
لا مجال للتراجع… لا مجال للانهزام… حملت ممتلكاتي الغالية وانصرفت إلى منزل أبن عمي « امعمر » وهو الشقيق الأكبر لسعيد وامحمد… لأصبح البطن السابع الذي عليه أن يعوله ويطعمه من جوع ويؤمنه من خوف، ابتداء من هذا اليوم… لا يهمني كيف سيقوم بذلك.. ليجد لي لقمة عيش إضافية… ولا يهمني كذلك أين سأضع كتبي ودفاتري في زحمة البيت الوحيد الذي سيؤويني مع عائلتي الجديدة…
كانوا أربعة ينامون في بيت واحد وقد أصبحت خامسهم!… أما ابن عمي الأكبر فكان يأوي إلى بيت آخر رفقة زوجته…
كانت زوجة عمي أو » للا » كما اعتدنا أن نسميها منذ صغرنا… هي الآمرة الناهية في الدار التي تتكون من بيتين وخيمة صغيرة تلعب دور المطبخ، وقد تم الاحتفاظ بالخيمة كتذكار جلبوه من « أولاد اعمر ».. وبما أنها فقدت من قيمتها أمام المنازل المبنية بالطوب والحجر، فقد استعين بها على أداء أغراض الطبخ ومخزن لخشب التدفئة ولأكياس الفحم الحجري.
وبما أن « للا » تصر على نسج الجلابيب الصوفية لأبنائها.. ولبيع الفائض منها للاستعانة بذلك على مصروف الدار.. فقد وجدت في الخيمة المنصوبة ضالتها المنشودة في نسج مئات الأمتار من نسيج الصوف الطبيعي.. بمساعدة ابنتها وزوجة ابنها…
وكم كنت أتمنى أن يسمح لي في أن أسكن في أي ركن من أركان هذه الخيمة الصغيرة.. وقد تكلمت مع سعيد في الموضوع ثم مع والدته ولكنهما أصرا على أن يكون مبيتي معهم كأي فرد من العائلة…
أما منزل ابن عمي محمد وشقيقه حميد وأمهما وشقيقتيهما فكان ملتصقا مع دار « للا » بحيث أن أفراد الأسرتين يمضون يومهم مجتمعين ولا يفرقهم إلا الليل… كما أن الغرباء عن الأسرتين لا يعلمون بالضبط أي من المنزلين يؤوي من ؟!

***
ابن عمي سعيد
ومنذ الأيام الأولى بدأت في مرافقة سعيد في بعض جلساته مع أصدقائه… لم تكن دائما جلسات غير مرغوب فيها… بل بالعكس فإن سعيد كان يقضي معظم أوقاته عند صديقه الحلاق حيث كانت تجتمع ثلة من هؤلاء الشباب الذين تراهم صباح مساء في المقاهي لا يقومون بأي شيء ذي معنى… يقضون أوقاتهم في التهكم من بعضهم البعض أو في سرد النكات المضحكة « العارية » والمحتشمة على السواء.
والواقع فإن البطالة شيء فضيع… تفقد الشخص قيمته وتجعل حياة المرء غير مستقرة… وتجعله كثير التفكير فيما ستؤول إليه شؤونه… وماذا سيكون مستقبله… بالإضافة إلى ضيق ذات اليد وما يتولد عنها من شعور بالأسى والإحباط والتذمر وما قد ينجم عن هذا كله من رد فعل لا يعلمه إلا الله…
وكان سعيد يتعذب في داخله رغم أن مظهره لا يوحي بذلك… كان فتى طيبا مهذبا مع الناس وصعب المراس مع ذويه خاصة مع والدته وشقيقيه، وشقيقته إذ كان يثور في وجوههم لأدنى سبب، وكثيرا ما كان أفراد الأسرة يقعون فريسة لانتقاداته التي لا تنتهي ولعدم رضاه على أي عمل يقومون به… وكان أعضاء الأسرة يعملون ما في وسعهم لإرضاء نزواته… كتصبين سراويله وأقمصته جيدا ثم نشرها بطريقة لا يتقنها إلا هو بحيث أن الملابس عندما تجف تكون وكأنها قد تم كيها عند أحسن مصبنة خاصة بالتصبين الجاف.
وسوف لن أنجو أنا كذلك من انتقاداته آلتي لا تنتهي.. وكنت أحاول ألا أخدش شعوره… إذ كنت أمسك العصا من الوسط في التعامل معه.. ويبدو أن هذه الطريقة قد أتت أكلها.. فلم تمر إلا بضعة أيام حتى كسبت ثقته..
رغم الحاجة التي كان سعيد عرضة لها فإنه كان يتدبر أموره ليحصل على الملابس الرفيعة.. وربما كان ثمن سروال يلبسه سعيد يفوق ميزانية ملابسي في سنة كاملة…
كانت أناقته لا تخفى على أحد…، بل وكانت في بعض الأحيان موضوع الريبة والشك عند بعض الجيران… إذ من أين كان يحصل على الدراهم لشراء الملابس ؟!
كانت خزانة سعيد السحرية التي لا تنضب، هو صديقه التاجر الذي يأتي من وجدة إلى جرادة كل يوم أحد أي خلال يوم السوق الأسبوعي بسيارته الكبيرة التي كان يحملها أكثر مما تستطيع حمله من الألبسة والأحذية، وكان دور سعيد هو مساعدة هذا التاجر في الحصول على المكان الذي يليق به وسط السوق ليبني خيمته الكبيرة ويعرض بضاعته المختلفة بطريقة تجذب أنظار المتسوقين .
وكان لسعيد دور كبير، ليس فقط في اختيار المكان المناسب وبناء الخيمة وعرض البضائع، بل وفي جلب الزبناء من أبناء المدينة والتعامل معهم بطريقة عجيبة تجعل الزبون يشتري رغم أنفه نظرا للطريقة التي كان سعيد ينهجها معهم، وكلها ترحاب وكلها كلمات طيبة، ثم الثناء على الزبناء ومناداتهم بأسمائهم مسبوقة بـ: « سي » أو « للا » لكون اللباس أو الحذاء يلائم شكلهم ومظهرهم… وأنهم محظوظين لأن هذا الصنف من السلعة قد وقع فيه تخفيض، ثم أن سعيد سيضغط على صاحب المحل ليخفض الثمن أكثر… أو ليقوم بتخفيض خاص نظرا لأن الزبون « مرضي الوالدين » كما يظهر ذلك على وجهه.. وعلى وجوههم يستبشرون..
أصبح سعيد ضالعا في علم الإشهار وإغراء المتسوق… وقد أعجب صاحب المحل بحلاوة لسانه ولبشاشته في التصرف مع الزبناء وحنكته في السيطرة على مشاعرهم وبالمقابل فإنه كان يتسامح معه إذا رغب في اقتناء أي شيء ليبيعه له بالثمن الذي يريد سعيد وبالتقسيط المريح.
وهكذا فقد تمكن في ظرف وجيز من الحصول على أجمل الملابس والأحذية.. مما جعله يغدق علي من ملابسه القديمة من سراويل وقمصان… وشفرات الحلاقة ومعجون الأسنان وجوارب.
وإذا كنت قد عشت حياة « البذخ والرفاهية » في حمى سعيد، من هذه الناحية، فإن الحياة وسط أسرة عمي كانت تتخللها متاعب كثيرة وخاصة ضيق مساحة البيت الوحيد الذي كان يؤوينا وخاصة في فصل الشتاء…
إذ كان دخان الفحم الحجري المحترق في الفرن الذي يحتل أحد أركان البيت، لا يمضي بكامله عبر الأنبوب المخصص لذلك بل كان بعضه يتسلل إلى داخل الغرفة من خلال الفوهات الصغيرة التي تشكلها نقط التقاء القطع آلتي يتكون منها الأنبوب، وكان تسرب الدخان المسموم، سرعان ما يأتي على الأكسيجين والهواء النقي بالغرفة ليتحول جو العش الصغير إلى علبة مغلقة، تحتاج إلى التهوية الفورية… وكان لابد من استيقاظ أحدنا من نومه في جوف الليل، ليقوم بفتح النافذة الصغيرة لبعض الوقت، لتتنفس الغرفة قليلا، ثم يغلقها في وجه البرد القارس…

***

استحالة القيام بالفروض المدرسية
أصبح من الصعب علي مراجعة دروسي في هذه الظروف، إذ كان لابد من السهر لبعض الوقت… إلا أن « للا » كانت لا تطيق ضوء مصباح الأحجار الغازية، أو « الكانكي » ولهذا فإني كنت مضطرا من مراجعة دروسي قبل أن تخلد إلى النوم… وبما أنها كانت تأوي إلى فراشها باكرا، فإني كنت أفضل عدم إزعاجها وذلك على حساب مراجعة دروسي، وقد حاولت في بعض الأحيان القيام بمراجعة خفيفة بعد أن أتأكد من أنها نامت… ولكنها سرعان ما كانت تستفيق من نومها لتنهرني بشدة وتأمرني بإطفاء المصباح… وقد تعودت مع مرور الأيام من المراجعة الفورية أي مباشرة بعد تلقي الدروس، بحيث كنت أراجعها وأحاول أن تستقر بذهني… وإذا كانت هذه الطريقة قد أثبتت نجاعتها في بعض المواد، فإن المواد الأخرى كالرياضيات التي تتطلب إنجاز التمرينات العديدة… فإن هذه الطريقة تبقى عديمة الجدوى… وهكذا أصبحت أتكاسل رغم أنفي… وبدأت أفهم فشل الكثيرين من أصدقائي المنحدرين من « أولاد اعمر » ومن القرى المجاورة… وبدأت أعيش أزمة كبيرة على كل المستويات… وبدأ ضميري يؤنبني ليلا ونهارا لعدم المواظبة على دروسي كما أن ظروفي المعيشية أصبحت تتدهور هي الأخرى، خاصة عندما أحس بالجوع واستحيي من طلب قطعة خبز أسد بها رمقي… ومع ذلك فقد تأقلمت بسرعة مع ظروف الجو الجديد، خاصة وأنها كانت تذكرني بطفولتي في القرية، حيث كنا ننام تحت غطاء واحد ونقتسم ما تيسر من الطعام… كان علي نسيان حياة البذخ التي أمضيتها في بيت شقيقتي وزوجها…
***

زواج قدور
مرت شهور طويلة بعد مغادرتي لبيت شقيقتي.. طرأت أحداث كثيرة على حياة أختي فاطنة، وذلك بعد أن قرر زوجها الزواج من امرأة أخرى… حاولت المسكينة مقاومة رغبة زوجها إلا أنها سرعان ما رضخت للأمر الواقع… وقبلت الفكرة على مضض… وذلك بعد تدخلات أفراد العائلة – وعلى رأسهم والدي ووالدتي – اللذان أقنعاها « بعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم »… ويبدو أن زوجها قد تعهد أمام الجميع بأن لا ينقص من حقوق أختي شيئا.. بل والعكس هو الصحيح… فسيرعاها كما فى السابق، ولكن أن يبقى بدون خلفة فهذا يتنافى مع طبيعة الأشياء…
قام قدور بحفل زفاف متواضع.. دعا له أهله وأهل العروس.. وقد أصر على دعوة أهلي كذلك سواء من القرية أو من جرادة… وأكرمهم ورحب بهم كثيرا.. وقد أتيحت لي الفرصة لزيارة دار شقيقتي التي تغيرت رأسا على عقب.. بعد بناء قدور لسكن عصري يتكون من أربعة بيوت وحوش كبير.. وبالأحرى فإن البيوت الخشبية بما فى ذلك البيت الصغير الذي آواني قد أصبحت فى خبر كان…وقد حز ذلك كثيرا فى نفسي…
***
والديَّ
لم يكن والدي ووالدتي اللذان قدما إلى جرادة لحضور زفاف « قدور » راضيين عنى وعن تصرفاتي.. فقد علما بالانحرافات التي طرأت علي.. ولا شك أنهما قد قرءا على وجهي وعلى حالتي مرارة المعاناة التي أكابدها.. ولقد أفهماني أنهما على وعي تام بصعوبة الوضع… وأنهما أصبحا لا يملكان لي ضرا ولا نفعا، وأنهما يدعوان لي بالتوفيق في صلواتهما في كل وقت وحين، وأوصياني بالصبر والمثابرة.. وباختصار فإن مستقبلي بين يدي وأنا حر في تصرفاتي…
قد لا أغالي إذا قلت بأن الوالدين بالنسبة لي كانا من أكبر النعم التي أنعمها الله علي.. وكان كافيا أن أبتعد عنهما هذه المدة، لكي أفهم بشكل واضح بأن لا أحد في هذه الدنيا يمكن أن يعوضهما أو يعوض حبهما.. أنا لا أريد أن أدخل هنا القناعة الدينية منفردة، فمجتمعنا مجتمع متدين مائة بالمائة والحمد لله على ذلك.. ولا يخفى على أحد الدور الأساسي والمحوري الذي أناط به الله سبحانه وتعالى الوالدين وما ألقى على عاتقهما من واجبات تنوء لها الجبال… وبالمقابل فقد فرض لهما حقوقا لا يجهلها إلا الجاحد بفضلهما على حياة المرء والعياذ بالله…
ولكن أريد من القارئ الكريم أن يترك المجال حرا لفكره ليلامس كل الأسباب الفلسفية ويزنها بمنطق العقل الجاف البعيد عن كل عاطفة.. فأنا متيقن بأن البصر سيرتد إليه « خاسئا وهو حسير ».. بل وناطقا بالحكمة الإلهية التي قضت بعبادته وحده ومباشرة بعد الأمر بعبادته أمر سبحانه بالوالدين إحسانا… ويكفي أن أشير بهذا الصدد إلى أن لا أحد في الوجود يرضى بأن تكون أحسن منه إلا والداك… إنها سنة الله في خلقه… هبة من الله إلى كل من الوالدين والأولاد.. ورحمة منه تعالى زرعها في قلوب بني آدم..
ومن الأشياء التي تحز في نفسي وستبقى كذلك مادمت حيا.. ذلك الحزن الذي ظهرت ملامحه على وجهي والدي.. وهما ينظران إلي ولسان حالهما يقول: « العين بصيرة واليد قصيرة « ..
ومع ذلك فإنهما لم يقدما إلى جرادة خاويي الوفاض، بل جلبا معهما كمية من الشعير والقمح والزيت وقدماها إلى منزل « للا « … مع اعتذار والدتي الذي كررته غير ما مرة أمام  » للا  » لكوني أقحمت نفسي في وسط عائلتها بدون سابق إنذار.. والتمست منها أن تصبر على هفواتي الصبيانية… أما « للا » فقد كررت على مسامع الحاضرين بأنها تعتبرني واحدا من أبنائها..
خالتي » يمينة« ..
خالتي « يمينة »: شقيقة والدتي وأصغر شقيقاتها السبع.. التحقت مع زوجها بجرادة إبان الهجرة الكبيرة لغالبية سكان قبيلة « أولاد اعمر » أثناء تدهور الأوضاع التي تعرضت لها الناحية في الأربعينيات من القرن الماضي.. ومعلوم أن الكثير من هؤلاء قد عادوا على أعقابهم إلى القرية بمجرد تحسن الأوضاع الاقتصادية عامة..أما أسرة خالتي فقد فضلت الإقامة بجرادة.. خاصة وأن الشركة كانت قد منحتها منزلا للسكن العائلي وسط المدينة.. كأغلب عمال المنجم.. إلا أن زوج خالتي وقبل وفاته، كان قد بنى منزلا جديدا بـ »دوار أولاد اعمر »… ولا زلت أذكره عندما شرع مع عمال البناء في حفر أساس المنزل جنب الطريق التي كنت أسلكها إلي الإعدادية غير بعيد عن منزل أختي وكان الناس، وخاصة من الرعيل الأول من « أولاد أعمر ».. يقفون بقربه ليحيوه ويباركون له المنزل الجديد..
كان والدي ووالدتي سيسافران إلى القرية.. وكانا سيتناولان عشاءهما بمنزل خالتي « يمينة » التي تركت سكنى الشركة واستقرت حديثا بمنزلها بـ »دوار أولاد اعمر ».. بعد وفاة زوجها… وكان والدي قد اتفق مع صاحب الشاحنة بأن يمر بعد صلاة المغرب.. بجوار منزل خالتي، حيث سيكون بانتظاره…
أصرت والدتي على أن أرافقهما إلى منزل خالتي.. وكانت في السابق قد أوصتني بأن أقوم بزيارتها من حين لأخر.. إلا أني لم أفعل ذلك، إيمانا مني بأن لدى خالتي ما يكفيها من المشاكل… فيكفيها هَمُّ تربية الأيتام ذكرانا وإناثا وأغلبهم يتابعون دراستهم… فقد ارتأيت أنه ليس من المنطقي في شيء بأن أزيدها مشاكلي… وقد عاتبتني خالتي طويلا على هذا التصرف، بأسلوبها الجميل والبديع.. وكنت أضحك كثيرا من تعبيرها البلاغي الرائع.. بل كنت أقسم لها وبدون مبالغة بأنها لو تعلمت القراءة والكتابة لكانت محامية عظيمة أو شخصية أدبية فذة…

***
أمحمد يحصل على الشهادة الابتدائية..
تطورت علاقتي مع امحمد الصغير… الذي كان يرعاني بكل براءته الصبيانية. وقد وجدت لديه الحل لكثير من المشاكل خاصة الحصول على المزيد من الأكل… وجعل  » للا » لا تغضب إذا سهرت مع مصباح « الكانكي » لبعض الوقت!
كان امحمد قد التحق بالمدرسة بعد وصوله إلى جرادة وكان لا يهتم بدراسته بالمرة… وبمجرد أن اكتشفت ضعفه في جميع المواد حتى خصصت له حيزا من الوقت جعلته يراجع دروسه ويهتم بدراسته بصفة عامة وكانت البداية صعبة للغاية. وربما يكون حبه لي قد انقلب في بعض الأحيان إلى جفاء.. ولكن مع مرور الأيام، ومع تشجيعي المتواصل له، بدأت النتيجة تظهر ساطعة وأكبر دليل أنه حصل على الشهادة الابتدائية منذ الدورة الأولى وقامت « للا » بإحياء حفلة عائلية، استدعت لها فتيات الدوار اللواتي رقصن وغنين، وفرحت كثيرا لنجاح فلذة كبدها… وشاطرها الجميع هذه الفرحة.. وقد كبرت حسناتي في عين « للا » وبدأت تعاملني بكثير من الرقة والحنان. وبلغ بها الأمر إلى أن نسجت لي جلبابا صوفيا مثل « الجلاليب » التي نسجت لأبنائها… وأصبحت أحس بأني فعلا واحد من أبنائها…
فشلي الذريع في الرياضيات.
وإذا كانت ظروفي المعيشية قد تغيرت نوعا ما وأصبحت علاقتي بـ « للا » تشبه إلى حد كبير علاقة الطفل بوالدته، فإن دراستي لم يطرأ عليها تغيير يذكر… لقد فاتني الركب في المواد العلمية، وبالخصوص في الرياضيات بحيث لم أعد أفهم جيدا جوهر المواضيع، بل أصبحت أكتفي بالشذرات، وأحاول الحصول على المعدل فقط.
إلا أن المشكل استفحل فعلا في أعقاب اختبار فصلي… وكانت نتيجة الإمتحان كارثية… وكنت أعلم ذلك مسبقا… كاد أستاذ الرياضيات أن يفقد صوابه وهو يمد إلي الورقة، كانت النقطة التي حصلت عليها، الأخيرة في القسم.. وربما في الثانوية وكانت أقبح علامة إطلاقا في السنوات التي قضيتها بجرادة…
كان أستاذ الرياضيات الفرنسي الجنسية، من مواليد وجدة، ولا زلت أذكر اليوم الأول الذي قدم لنا نفسه في بداية السنة الدراسية، وكان قد وصل من فرنسا في حينه حيث حيَّانا باللهجة الدارجة المغربية ووجه إلينا بعض الكلمات بالعربية، وقال بأنه « ولد وجدة » ازداد بها فى عهد الحماية وأنه أمضى وقتا كبيرا بالمغرب… ويعرف العقلية المغربية جيدا… ويحب الرياضيات… ولكنه مع الأسف لا يعرف الرياضيات الحديثة…
وبما أنني كنت على اطلاع لا بأس به على البرنامج الجديد المستحدث الذي تبنته وزارة التعليم في المغرب… وأن الكتب التي نشرت بهذا الخصوص هي عبارة عن كتاب واحد ووحيد، فلم أبخل على الأستاذ بأي شيء حتى بالتمرينات التي كنت أنجزها بطريقة آلية…
كان الأستاذ يقدرني كثيرا… ولم يكن يتصور أبدا أن التلميذ النجيب بالأمس هو نفسه الذي أصبح يكتفي بآخر نقطة! انفرد بي في آخر الدرس ليعبر لي عن انشغاله العميق بحالتي وأنه لا يفهم كيف تغيرت بين عشية وضحاها؟! لم أجد ما أقوله للأستاذ وصمت طويلا.. وأمام إلحاحه فقد أجبته بأني أمر بفترة صعبة.. وأني أتمنى أن تمر بسرعة وفي الواقع وفي قرارة نفسي كنت اتخذت قرارا بتطليق المواد العلمية طلاقا لا رجعة فيه…
***

الشقيقتان..
كما أن علاقاتي مع حميد توطدت أكثر من ذي قبل… وأصبحنا لا نفترق إلا عندما نأوي إلى النوم.. وأصبح يدعوني من حين لآخر لأتناول معه وجبة غذائه أو عشائه… كان أخوه محمد قد هاجر إلى هولندا… وأصبحت أسرته تتوصل بحوالات مالية بريدية بشكل منتظم… وأصبحت ظروف الأسرة المعيشية تتغير شيئا فشيئا… وبدأت نعمة الله تظهر على أفراد العائلة أما والدته التي كنا نناديها « بايا » بلغة الأطفال فيبدو أنها قد قررت الاستمرار بفرض حياة التقشف على الأسرة، الشيء الذي جعل حميد يثور من حين لأخر…
« للا » « وبايا » : شقيقتان تزوجتا من شقيقي والدي ـ عمي علي وعمي الحبيب اللذين توفيا في « أولاد اعمر » في مطلع الخمسينيات حيث اضطرت الأسرتان إلى مغادرة القرية واستقرتا في جرادة وذلك بعد معارضة شديدة من طرف والدي الذي لم ترق له فكرة الهجرة هذه، خاصة وأن الأطفال كانوا لا يزالون صغارا… ومع ذلك فقد خاضتا حربا ضروسا معه حتى استسلم في نهاية الأمر وترك لهما الحبل على الغارب.
كانت حياة الشقيقتين كلها نضالا مستميتا، كلها معاناة من أجل تربية الأطفال… من أجل لقمة العـيـش… من أجل صون كرامة أبناءهما وتعليم من قدر له أن يتعلم…
***
حميد… المعجزة
لاشك أن تعلم حميد كان معجزة كبيرة، وجاءت هذه المعجزة نتيجة لإرادة والدته… ولحب حميد في التعلم…
عندما وصل إلى جرادة كان عمره يفوق العشر سنوات وكان يبدو مستحيلا تسجيله بالمدرسة الابتدائية… إلا أن مشيئة الله والإرادة الفولاذية لوالدته جعلت كل شيء ممكنا ليلج الصبي الصفوف الأولى التي سرعان ما سيختصرها في ثلاث سنوات ليلتحق بالإعدادي…
ولا شك أن حميد كان محظوظا إلى أقصى درجة، فقد ساقت إليه الأقدار معلما يحمل نفس اسم والده وهو « الحبيب »… لم يكن خاف عن المعلم « الحبيب » ماعاناه الفتى حميد وما يزال يعانيه من جراء حياة اليتم بعد موت والده.. ولم يكن من الصعب ملاحظة تعطش الفتى اليتيم إلى العلم والمعرفة… مما جعله يقربه إليه ويفتح له لا ذراعيه فحسب بل وقلبه،.. وخصص له أوقاتا إضافية وعامله معاملة خاصة… ومده بالكتب التي تناسب سنه ووضعيته ..حتى غرس في روحه حب القراءة والكتابة..
كان حميد لا يعرف القراءة ولا الكتابة ماعدا بعض الآيات القرآنية التي لقنتها إياه بالبادية عندما كنا نرعى الغنم والبقر معا، إلا أن إصراره على التعلم والدراسة ورغبته القوية في قهر الأمية جعله يتحول من طفل أمي إلى طفل متعلم مجتهد، جعلت أصابع المعلمين والتلاميذ ب »ابتدائية ابن سينا » بجرادة يشيرون إليه بكثير من الفخر والاعتزاز… ولولا بعض الظروف الخارجة عن طاقته فإنه كان سيعرف مستقبلا زاهرا وخاصة في ميدان الأدب العربي…
وإذا كان سعيد قد ساعدني بملابسه القديمة… وشد أزري في الكثير من المواقف المادية بالخصوص، فيجب أن أعترف أنه في أحلك أوقات حياتي في جرادة لم أجد إلا حميد ليكون ذلك الصديق الذي يخفف عني مشاكل الحياة، بل ذلك الرفيق الروحي الذي أمدني في كثير من الأحيان بالعون اللازم الذي لن أنساه أبدا.
***
الأدب الصوفي
كنا في أوج المراهقة وكانت ظروف الحياة الثقافية في جرادة لا تسمح بأكثر من كتاب تقرأه وتنساه… من قصة أدبية تعيش مع فصولها أروع اللحظات أو مع شاعر يستحوذ عليك بشاعريته فلا تستطيع الانفلات منه إلا لتقع رهينة لشاعر أو لمفكر آخر…
كنت في السابق أقرأ الكتب من أجل القراءة فقط. ولكن عندما أصبحت أقرأ نفس الكتب في نفس الفترة مع حميد، فقد أصبحنا نناقش محتواها من حيث لا نشعر، أي أصبحنا نقوم بنوع من النقد والتحليل الأدبيين اللذين قليلا ما يقوم بهما المواظبون على المطالعة…
وهكذا، فبعد مطالعة مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين العرب منهم والفرنسيين، فقد تطورت بنا الظروف لنقرأ بعض الكتابات الفلسفية وبعض الأدب الصوفي… لنتعرف على الحلاج وابن الفارض وربيعة العادوية وابن طفيل وإخوان الصفاء وأبو حامد الغزالي…
يبدو أن الظروف قد مارست علينا فعلها… ولولا الألطاف الإلهية الخفية لكنا قد أصبنا بعاهة نفسية أو فكرية لا تحمد عقباها.
ربما كانت الأفكار التي حاولنا فهمها أكبر من سننا وربما لم نكن مؤهلين لتلقي تلك الأفكار… خاصة منها تلك المتعلقة بالعالم الصوفي، هذه الأفكار التي كادت أن تحول مجرى حياتنا… وبدلا من فهمها الفهم الصحيح فقد كدنا في يوم من الأيام أن نهاجم حانة للخمر ونرميها بالحجارة… لأنها أصبحت تشكل بالنسبة لنا في ذلك الوقت ذلك العدو الذي يجب محاربته… إذ لابد من تغيير المنكر.
كنا نمضي أوقاتا طويلة ونحن منبهرين بالمقولات الصوفية التي نحاول فهمها… وكم مرة استوقفتنا بعض هذه المقولات العظيمة لمشاهير الصوفيين مثل: « لم يبق في الجبة إلا الله! » ومثل:
أنا أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا
إذا أبـصـرتني أبصـرتـه * وإذا أبصـرته أبــصرتنا
وكنا نستغرق أوقاتا كثيرة في التأمل… التأمل في كل شيء في الأرض والسماء والنجوم في الأشجار والأحجار… كنا نتأمل في خلق الله كنا نمضي أوقاتا طويلة ونحن شبه غائبين وكأننا نكتشف العالم لأول مرة… حتى خيل لنا في بعض الأحيان أننا دخلنا معه سبحانه وتعالى فى حوار مباشر وأصبحنا نحس به قريبا جدا!
وهكذا… كنت أتلمس أطرافي وأصابعي…. يا لروعة الخالق ويا لروعة المخلوقات الناطقة باسم روعة الخالق.!!
أصبحت تنتابني لحظات ارتعاش عميقة.. وقشعريرات كانت تهزني من رأسي إلى أخمص قدمي… وبعدها يدخل جسمي فيما يشبه حالة التخذير الكامل.. وكأني كنت أفقد وزني، وكان العالم من حولي يصبح قريبا وبعيدا عني… قريبا، لأنه هو ذا شفاف قد ضيع من سمكه وحجمه فهو في متناول العين تراه وترى من خلاله، وبعيدا…، لأنني كنت أهفو إليه في شكل متموج بديع… ولكن لا شيء يـثبت لي أني هنا أو هناك، فأين أنا منه وأين هو مني! كنت أسأل حميدا مرارا عن هذه الحالات فكان يؤكد لي أنه يحس بنفس الشعور. وخلال ذلك الإحساس الغريب، كان الوقت يفقد معناه وعندما أسترجع إدراكي وأعود إلى رشدي فإني لم أكن أذكر شيئا إلا تلك الحالة من الشعور بالكآبة الشديدة وذلك النوع من الإحباط السريع الذي يتولد عقب فقدان شيء جميل وغالبا ما كنت أبكي في سري…
وقد انتابني هذا الشعور في ليلة من الليالي عندما كنت نائما، فرأيت فيما يرى النائم أن السماء أصبحت شفافة أكثر من اللازم وأن نورا وهاجا قد غطى الأجواء كلها، حتى اختفت الأرض من حولي وانمحت التضاريس، ولم أعد أرى شيئا مع ذلك النور المتلألئ… وفجأة ظهرت كتابة في الأفق أكثر نورانية وكأني بها كانت: لا إله إلا الله محمد رسول الله ….!
« نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء » صدق الله العظيم… وخلال نومي يبدو أني كنت أردد لا إله إلا الله…. محمد رسول الله !
وعندما استيقظت تملكني شعور بالأسى وتمنيت لو بقيت في حلمي إلى يوم الدين… وبعد هذا الحدث.. كنت أقع في حيرة من أمري ،إذ لم أعد في بعض الأحيان أستطيع الجزم هل أنا في النوم أم في اليقظة…
في يوم من الأيام وكان الفصل شتاء… وكانت الرياح تعصف بسقوف المنازل المغطاة بألواح القصدير فتحدث أصواتا مزعجة إلى حد ما …
وكنا نناقش أشياء تتعلق بمؤلف حي بن يقظان.. لا أذكر كم استغرق نقاشنا ولا ما هي بالضبط الأشياء التي كنا نتكلم فيها. كل ما أذكر هو أن سعيدا قد عاد إلى الدار ليجدنا نؤدي نوعا من الرقص نساير فيه الطقطقات التي تحدثها الرياح بتحريكها للألواح الزنكية… والغريب هو أننا أصبحنا مبللين من كثرة الأمطار التي تهاطلت ويعلم الله منذ متى…! وقد كان سعيد ينظر إلينا ولا يفهم شيئا… وكان يردد: الله يستر! الله يستر!
ومن بين الأفكار التي كانت تفرض نفسها علينا بقوة هي النزوح إلى الوحدة والابتعاد عن الناس وكان اعتقادنا أن فكرة إصلاح المجتمع أصبحت لا فائدة منها ولأن المجتمع قد تدنس بشكل كبير… ومادامت الأمور على ما هي عليه فإنه لا أحد يملك العصا السحرية لتغيير الأوضاع… وإذا ما قدر الله وشاءت إرادته تغييرا ما، فإن الأسباب ستجتمع بين عشية وضحاها… وعلى كل حال فلن يكون إلا ما شاء الله وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون!
وعليه، وبما أننا هودينا إلى هذه الأفكار النورانية فيجب أن نبحث عن مكان آمن وطبيعي نعيش فيه بعيدا عن كل هذه القاذورات التي ما أنزل الله بها من سلطان… ولاشك أن هذا المكان هو الجبل !! هي الأدغال البعيدة عن أنظار الناس.

======

يتبع

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *