Home»Jeunes talents»المقامات الدفية : الدف السادس والثلاثون – الرجل الذي ذاق النعومة وشكر الحكومة

المقامات الدفية : الدف السادس والثلاثون – الرجل الذي ذاق النعومة وشكر الحكومة

0
Shares
PinterestGoogle+

المقامات الدفية : الدف السادس والثلاثون – الرجل الذي ذاق النعومة وشكر الحكومة

 

حدثنا أبو الغرائب عن أبي العجائب أن رجلا من ذوي الدخل المحدود، كان يعيش أيامه بكفاف رغم الأفق المسدود، ومقتنعا أن الأجر يعلو وينخفض حسب المردود…كان يعمل نهاره كله ويصله بليله، ويعيش بما تعيش به العامة من حوله، دون فائض ولا نقصان في حدود طاقة دخله…ذهب كعادته إلى مكان تجمع العاملين، علَّه يجد عملا لدى بعض الباحثين والسائلين، فوجد المكان قد غص بأمثاله من العائلين…انتظر كثيراً محترما تعاقب الدور وما تلاه، إلى أن أدرك أن هناك من يشبه حالته وبلاه، فعاد إلى بيته مؤمنا أن الخير في ما اختاره الإله…وصل إلى منزله منهكاً ومنشغلا بسوء الحال، ورأسه يشكو من الصداع بسبب كثرة السؤال، فنام حتى يُقنِعَ أبناءه وزوجته براحة البال…وحدث يوما أن قرر التحكم في رغباته ونزواته، استعدادا للدخول المدرسي بطلباته وأدواته، على عكس ما كان يقوم به طيلة سنواته…أعاد جدولة الديون المتراكمة من السنة الماضية، وأدائها على دفعات حتى نهاية السنة المالية، بعد أن برمج متطلبات وحاجيات السنة الحالية…اقتضى برنامجه الاقتصادي اتباع سياسة الإمساك، والاكتفاء بالأولويات في حدود القابل للاستهلاك، حتى يبتعد عن العشوائية في التدبير والإرباك…أمسك عن كل شهوات البدن من فواكه ولحوم، مقنعاً أبناءه أنها غير صحية ومليئة بالسموم، كما حرم حضور حفلات الأعراس على العموم…ثم سن في بيته سياسة التقشف وشد الحزام، وهدد زوجته إن هي خالفت ذلك بالإعدام، طالبا من أبنائه ضرورة التنفيذ والالتزام…أجرى عمليات جراحية للمعدة في حدود العجز، حتى تَشْبعَ بكأسين من الشاي ورغيف من الخبز، وفي أحسن الحالات حساء من باب الميز…يروي بعض الفضوليين المتخصصين في القوانين المالية، أن صاحبنا فكر في تدبير الفائض من أجرته بالهمة العالية، وجدول المصاريف حسب الحالات التالية : نصيب يغطي به ديون السنة الماضية، ونصيب للدخول المدرسي حتى تكون المدرسة عنه راضية، ونصيب لتصرف الزوجة تقضي فيه ما هي قاضية…وبعد ثلاثة أشهر من الإمساك المطلق والتقشف، تخلص من كل مخلفات الديون بالتعفف، فوفر مصروف شهر يغنيه عن التزلف…إلا أنه لم يضع في الحسبان ما قد تأتي به الأسعار، حسب ما كانت تروج له الإشاعات والأخبار، فسقط في العجز كغيره وقد هدَّهُ الاجترارُ…تساءل عما تهدف إليه زيادة الحكومة، ولماذا تُغتال أفراح الفئات المهمومة، بعد أن بشرت بالخير في خطاباتها المحمومة…ترك الهموم جانباً وتفرَّغَ للصوم والعبادة، وطلب من كل الناس مقاطعة السوق بالإرادة، ولتبحث الحكومة عمن تنفذ في حقهم الزيادة…واتُّفِقَ أن خرج يوماً يتفقد حال السوق، فسمع نداء يجاهر وينادي الناس في البوق، أن يقبلوا على أخذ نصيبهم من لحم النوق…اقترب من مكان التجمع حتى يرى ما في الأمر، وكيف يُوَزَّعُ لحم النوق بأقل السعر، ففكر أن يأخذ ما يكفيه طيلة الشهر…فوجئ أن اللحم والخضر أصبحت توزّعُ بالمجان، حسب ما أقرته لجنة الخدمات بالبرلمان، فتفحص وجوه الحاضرين وهم يهللون بالولاء والعرفان…أخذ نصيبه مما تيسر له من لحم النوق والطير، بعد سنة من المقاطعة والتجلد والصبر، ثم انصرف وهو يُنشد أبياتا من الشعر:

كمْ أَنْـتِ مسئـولة حُكـومَةَ البَلـَدِ     عِشْـقاً أحَيِّيـكِ مِـنْ دَواخِلِ الكَبِدِ

في السّوق ما يَسْتَميلُ النّاسَ بالثَّمَنِ      تَاْتيهُـمُ شـاحِناتُ الغـاز بالمَـدَدِ

لَـوْلاك ما شبعـتْ  بطـونُ سَاكِنَةٍ      لَحمـاً ولا خَرَجَتْ مِنْ  حُرْقَةِ النَّكَدِ

يروي أحد الفضوليين المتخصصين في المرح والنشوة، أن صاحبنا شكر الحكومة على مبادرتها إلى الصحوة، وفرح كثيراً مؤيداً قضاءها على مظاهر الرشوة…طلب قرضا لإنشاء مشروع يُغْنيه عن التجارة، واكترى محلات كبيرة أسفل العمارة، حوَّلهما إلى معمل لبيع الخشب والنجارة…تكدَّست الأموال في أكياسه كالتبن، ونسي تماما أيام الفقر والغبن، واستعان بفقيه تحسبا للحسد وشر العين…وأجرى عملية لمعدته لتوسيعها قدر المستطاع، فالرزق وافر ولم يعُدْ محسوبا من الجياع، وعاد أبناؤه للدراسة حتى لا يظلوا كالضباع…وظل يراقبهم موفراً لهم ما يشتَهونَهُ من الموائد، حتى حصلوا كلهم على أحسن وأعلى الشواهد، ونالوا الكثير من الجوائز والأوسمة والقلائد…اقترح على ابنه الأكبر فتح عيادة، ما دامت أمراض الناس كلَّ يوم في زيادة، فالعلاج كما يُشاعُ مسألة عزم وإرادة…واقترح على ابنه الأصغر فتح مكتب للهندسة، ما دامت المشاريعُ تُدار في مكاتب الكولسة، فالبناء كما يُشاعُ محكوم بعدم المأسسة…واقترح على ابنته فتح قاعة خاصة للتجميل، ما دامت الجرائم قد صارت من العيار الثقيل، فجمال الوجه كما يُشاع مسألة دم يقاسُ بالتحليل…يروي أحد الفضوليين المتخصصين في مشاريع النماء، أن صاحبنا أصبح يملك تجارة الأدوية وأدوات البناء، والخشب ومعدات الفحص وأدوات التجميل والبهاء…فعزم على بناء مقاهٍ في الطرق المجاورة، حتى يستغلها كمحطات استراحة للوفود المسافرة، ويستقبل فبها كرم أفواج الجاليات المهاجرة…وحدث يوما أن تفقد ما تحققه مقاهيه من الأرباح، وهناك وجد أفواجا كبيرة من الوافدين والسياح، فاستعان بالنادل للترحيب وتوفير وسائل الارتياح…أجرى صفقة سريعة مع مسؤولي الأفواج والزوار، وفكر في إنشاء وكالة لتنظيم الرحلات والأسفار، وبناء فنادق تتوفر على كل وسائل الراحة والاستقرار…نما ماله وزاد طموحه وتوسع النشاط، وتوطدت العلاقة بينه وبين الإفرنج وتقوى الرباط، وتفتَّحَت الأبواب أمامه وتبين له الصراط…تذكر فضل الحكومة عليه وما قام به حجاب الفقيه، إذ لولاه لبارت تجارته وأصبحت في يد السفيه، لذا وجبت مكافأته وتقدير عقله النبيه…توجه نحو منزل الفقيه بعد أن أعد ما يناسب لمجاملته، وهو ينوي أن يكون سخيا كريما في معاملته، فأخبروه أن الفقيه ليس لديه وقت لمقابلته…فانزعج مما سمع وعاد إلى دكانه وأغلق الباب، ثم شرع في إزالة بِلاطه لِيُخْرجَ منه الحجاب، وهو يكيل للفقيه الوعيد والشتم والسباب…ولما فتح الحجاب ليقرأ ما كان به من الطلاسم، استيقظ مذعوراً ووجد نفسه لازال يُجَدْولُ ما تبقَّى من الدراهم، فمات باحثا عن معنى الحكومة في كل القواميس والمعاجم…وفي رواية أخرى أن صاحبنا لما أدرك ما كان فيه من الوهم، شكر الحكومة على مساعدتها له في الصوم، ثم مات ثلاثا بعد أن تأسف على ما حَلَّ بالقوم….          

يتبع مع فضول آخر .         محمد حامدي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. aziz najmi
    28/02/2013 at 22:21

    ما أحلى وأبلغ دفوفك التي توقظ من السبات العميق

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *