Home»International»سؤال الهوية : بين دور العائق ومسوغ الإقلاع

سؤال الهوية : بين دور العائق ومسوغ الإقلاع

0
Shares
PinterestGoogle+

سؤال الهوية : بين دور العائق ومسوغ الإقلاع
تحوط منهجي:
حينما هممت بالكتابة حول « موضوع الهوية » ترددت كثيرا،ليس تخوفا من المفهوم و لا حرصا على « قداسته »،ولكني استنفرت عدة إشكاليات، جعلتني أعمل بقولة عمر بن الخطاب التي قال فيها « ما ندمت على سكوتي مــرة ولقد ندمت على الكلام مرارا ». ليس سهلا أن يخوض المرء رغم تروضه على التفكير مرارا في موضوع لا يعلم كيف يكون منه المخرج.  لقد كان تحوطي نابع من معطى اساسي : أن الكتابات بخصوص المفهوم متعددة،وأن أقلام من تمردوا على الجاهز و آثروا الخوض فيه لازالت لم تجف بعد .
تحضرني الآن كتابات كل من الدكتور محمد عابد الجابري  » نحن و التراث »، « التراث والحداثة »…كما تحضرني كتابات طه عبد الرحمان  »  العمل الديني و تجديد العقل » و « تجديد المنهج في تقويم الترات »… و كتابات حسن حنفي « التراث والتجديد :موقفنا من التراث القديم »و « التراث و التجديد »،و ايضا كتابات عبد الله العروي التي تناولت مفاهيما محورية أعيدت لها قيمتها الاعتبارية ك »مفهوم العقل »، »مفهوم الدولة » و « مفهوم الحرية »…طبعا لست ندا لهؤلاء و لكني إذ أعلن تواضعي أعلن معه أيضا تمردي و أعلن أيضا بعضا من تصوري .
تحوطي المنهجي هذا صادف عقبة أني لم استوعب يوما تخلفنا وقرأت كما قرأ الجميع خطابات رواد الحركة السلفية الحديثة : محمد عبده ،قاسم أمين،جمال الدين الافغاني ،شكيب أرسلان و عبد الرحمان الكواكبي…وقلت هل الأخلاق و تحرير المرأة و محاربة الاستبداد …وحدها تلزمنا لنخرج من تخلفنا و تسمح لنا بتحقيق الاقلاع الذي ينشده الجميع علنا؟ و هل إعادة قراءة التراث و تجديده وتصحيح مساره كفيل بأن يمدنا بالإجابة عن سؤال أفرد له عبد الله العروي حيزا في كتابه » الإيديولوجيا العربية المعاصرة » عنونه ب »الوعي بالغرب و الوعي بالذات »…
أكيد أن « أبطالا » بحجم هؤلاء لم ينطلقوا من قاعدة السهل الممكن الاحاطة به …بل إنهم فطنوا بدهاء الحكيم و فطنه الفيلسوف إلى خطورة الإشكال وصعوبة الحسم فيه، خصوصا وأن تداول العلاقة بين « الأنا » و « الآخر »  أخذ ملفوظات أخرى مثل  « التراث » و « الحداثة »… وهو الأمر الذي حملني على أن أطرح إشكالية الهوية كمسوغ للانتقال إلى الحداثة أو كعائق أمام هذا الانتقال،و  كيف ينبغي التعامل مع سؤال الهوية لتجاوز مرحلة الكمون (إن لم نقل الركود) التي تمر منها مجتمعاتنا التي لازالت تحتفظ لكل ما هو تراثي بقداسته المحصنة… لهذا التمس لنفسي العذر إن أبليت في هذا الموضوع وفق رؤية كونتها وتبقى على أي محط نقاش كان ولن يزول في المستقبل القريب كما أظن.
1.    على سبيل التقديم :
إن مفهوم « الهوية » لم يعد حديث نخب و علية القوم، بقدر ما انه اضحى حديث نخب تسامر به إبريق شاي أو فناجين البن… على رصيف ملئ بالمتناقضات .و إن نظرنا إلى المفهوم من هذه الزاوية ترآى للجميع تداولية المفهوم، لكن إن عصرت الفكرة وعمق التفكير بدت في الأفق حجم المشكلات التي يطرحها المفهوم بشكل يجعله محط تأمل أكثر منه محط تجريب .
بالرجوع  إلى المعنى اللغوي لاصطلاح « الهوية » نجد أنها مشتقة من الضمير  » هو  » ، أما مصطلح « الهو هو » المركب من تكرار « هو » فقد تم وصفه كاسم معرف ب « ال » ومعناه « الاتحاد بالذات »…كما أن مفهوم « الهوية » يشير إلى ما يكون به الشيء هو هو أي من حيث تشخصه و تحققه في ذاته وتميزه عن غيره ، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكثل بشري ،ومحتوى لهذا الضمير في نفس الآن بما يشمله من قيم و عادات ومقومات تكيف وعي الجماعة و إرادتها في الوجود و الحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها .
و بالانتقال الى مرحلة مقاربة المفهوم اصطلاحيا يمكن القول أن الهوية بما هي مجموع السمات و المميزات التي تميز الفرد عن الجماعة كما تميز فردا عن آخر بل وجماعة بشرية عن اخرى (وأمة عن أمة اخرى) نظرا للاختلاف الموجود بين الأمم من الناحية الجغرافية و الثقافية و الاجتماعية و النفسية و اللغوية و العرقية …إن الانسان كما يذهب الى ذلك جان فرانسوا ماركييه  » كان يبحث منذ البدايات عن مرآة يمكن أن يجد فيها صورة هويته المشتتة، وقد جمعت و جرى فهمها أخيرا ،و هو يعتر على غداء بحث كهذا في اللغة ،الفلسفة و الآداب … » (1) معترفا أيضا أنه  » ليس ثمة ما هو أقل تحديدا و أكثر تشتتا مما هي هوية كل واحد ، ليس ثمة ما يصعب أن نحرزه أكثر من وجهنا حين لا تكون موجودة مرآة تعكس صورته »  (2)
2.    هل الهوية تختزل في المكون اللغوي؟
هذا طبعا يجرنا الى اشكالية اعمق وهي تلك المرتبطة بعلاقة اللغة بالهوية ،فاذا كانت اللغة هي أكبر من مجرد آلية للتبليغ والتواصل، فهي أيضا قدرة تمكن من الإبداع وحمل المعرفة و انتاجها فاللغة فعلا كوعاء للفكر و المعرفة هي أساس بناء المجتمع ومساهم بارز في تنميته، لهذا ما لبث هيجل Hegel يقول « نحن نفكر داخل الكلمات  » بل لقد وصف ميرلوبونتي M.Merloponty لحظة التفكير الصامت بأنها « ضجيج من الكلمات » (3) ووصفها (أي اللغة) لبنيتزLeibnitz على أنها  » مرآة العقل »  كما اعتبرت صلب كل نسل كما يصفها أحد الشعراء  » لكل قوم لسان يعرفون به إن لم يصونوه لم يعرف لهم نسب »…باختصار فاللغة عاكسة لانجازات الفكر .رغم أن المشكل ليس في مثل هذا الإعتراف ،و لكن عندما يتم ربط اللغة بالهوية تطرح الاشكالية خصوصا حين يتم امتطاء المشكل لتحقيق مآرب أخرى غير تلك المعلنة .
إن الإصرار على اعتبار أن أخلاق الشعب لها تأثير على لغته كما أن اللغة هي صانعة ذلك الشعب ، هو إصرار متعصب يدفعنا إلى التساؤل عن جدوى تعلم لغات أجنبية، أليس الأمر بهذا الشكل معناه فقدان الهوية ؟ هنا يمكن التصريح بأن ربط الهوية باللغة فقط هو ربط مجاني،اعتباطي واختزالي في الأن ذاته، و لنا في التجربة المغربية دليل ، فأثناء صياغة دستور فاتح يوليوز 2011 طرح المشكل بصورة أوضح، خصوصا وأن خطاب 9 مارس 2011  الممهد للتعديل الدستوري،على ما اعتقد ،تحدث عن الهوية و ليس اللغة ،إلا أن بعض « الفعاليات الأمازيغية » أرادت أن تستغل الفرصة و تحقق مطالب كانت إلى حد قريب مجرد مطامح بل أحلام، الأمر الذي كاد يؤدي بالنقاش الدستوري إلى أن يدخل في صراعات قبلية أو حزبية ضيقة،خصوصا عندما تحويل النقاش  من الهوية المتعددة للمغاربة وكيفية دسترتها إلى نقاش لغوي وصولا الى أي اللغات ينبغي ترسيمها …
من يملكون منظور مختزل للهوية في علاقتها باللغة فعلا واهمون ،لأننا لا نتحدث عن هوية واحدة بل عن هويات متعددة ،و ليس لأي  فاعل كيفما كان وضعه أكاديمي كان أو سياسي  ان يدخل الوطن في دائرة المجهول. فلحظة التوثيق الدستوري للهوية هي التي تبرز الى اي مدى هناك اختلاف في  الرؤى بخصوص « مشكلة الهوية » فلا غرابة إن توقفنا عند التجربة الانجليزية التي يلعب فيها العرف دورا تشريعيا أكبر مثلما  ان اسبانيا تطرح فيها اشكالية التعدد اللغوي …
إن الحديث عن هوية المغرب كوطن له تاريخه يتجاوز السب المتداول(4) إلى ضرورة فتح نقاش علمي يؤمن بأن أي حديث عن الهوية هو حديث عن لحظاتها التاريخية التي مرت منها ،و هذا يجرنا بالتأكيد إلى طرح إشكالية أعقد من سابقتها وهي تلك المتعلقة بعلاقة الهوية بالجغرافيا و المصير التاريخي المشترك و بالانتماء الديني…ثم هل يمكننا الحديث عن « صفاء عرقي » بالمغرب مثلا شأنه شأن الصفاء العرقي في مجموع البلدان التي تعاني من النعرات الطائفية و العرقية …
تكمن صعوبة تعريف الهوية اذن في تعدد أوجهها الدينية العرقية و اللغوية ،بل و حتى الإيديولوجية والسياسية …وهو ما يجعلنا نصطدم بمجموعة من التقابلات العلائقية كعلاقة الهوية بالدين وعلاقتها بالعرق و اللغة و الايديولوجيا .
3.    دواعي شعار « تحصين الهوية »
كثير هم الذين يتحدثون عن « الهوية الوطنية » التي تشكل أساسا « للهوية الاجتماعية » ،تفكير كهذا يعبر عن نزوع عميق لتقدير الذات بما يضمن الأمن النفسي و الاستقرار  الانفعالي  للإنسان عندما يتعزز شعوره بمكانته و احترامه و كرامته…،بل إن مثل هذه النعرة ـــ كما سنأتي على ذلك فيما بعد ـــ  دفعت إلى رفع شعار ضرورة تحصينها من أي تهديد كيفما كان نوعه ،وهو ما يتغافل عن إشكالية علاقة الهوية ،كظاهرة، بالعولمة : فهل يمكن اعتبار ها ظاهرة عالمية؟ فاليابانيون مثلا يتنازعهم هذا الإشكال فهل موقعهم وثقافتهم تجعل اليابانيين آسيويين أم أن ثروتهم و ديمقراطيتهم و حداثتهم تجعلهم غربيين و هذا شان العديد من الدول التي اما انها تبحث عن هويتها الوطنية او انها تعيش ازمة هوية مستمرة (جنوب افريقيا،الصين ،تركيا…).
إن مشكلتنا ـــ كشعوب تعيش واقع التعدد في روافد الهوية الوطنية ـــ هي أن هويتنا الوطنية غالبا ما تصطدم « بمحنتنا » التي هي في الاصل محنه أقدمية في الزمن،إنها محنة ان لنا تاريخ …هناك العديد من الأوطان استطاعت أن تؤسس لهويتها بسهولة ويسر ،علما أن هذه الأوطان لم تفشل  في تحقيق ما تصبو إليه ، بل إن الغرب الذي طالما عاتبنا على جزء منه أنه بدون ذاكرة تاريخية،استطاع  إحكام قبضته على العالم إما بطمس الهويات التي تشكل عائقا أمام تحقق طموحه أو التي تسعى إلى إضعافه أو إلى خلق مناخ للتماهي بين الهويات باعتماد آليات الحداثة و العولمة و العلمنة أيضا .حتى أصبح الشك يساورنا و من تم أصبح لزاما طرح سؤال : هل عائق  تطورنا هو اسرافنا الجهد و الدهر في حياكة استفسارات منصبة على هويتنا مع العمل على حماية الهويات ،دينية كانت او اثنية او لغوية او ايديولوجية او سياسية… ،من كل ما يهددها ؟هنا اصبح سؤال الهوية عائقا أمام تحقيق التنمية.فقد أسرفنا زمنا ليس بقصير و نحن نلوك هذا السؤال فمن المستفيد من هذا التأخير؟
تعتبر كل هوية متماسكة و صلبة البناء و التشكل ،من و جهة نظري ،بمثابة عبء و قد يحد من حرية الاختيار ، لأن فتح الأبواب حين يطرق الآخر يعتبر أمرا مستحيلا ــــ و هذا ما سأعمل على توضيحه عند الحديث عن علاقة الهوية بالإقلاع الحضاري و الحرية ـــــ    باختصار تصبح الهوية هنا وصفا لكل شيء متصلب و مذمومة و مستهجنة ومدانة من طرف كل السلطات الحقيقية و المزعومة في أيامنا ،كوسائل الاعلام و خبراء المشاكل البشرية و أيضا السياسية …لأنها على نقيض المواقف الصائبة الرشيدة المبشرة بيسر التعامل مع الحياة.
قبل الاجابة عن سؤال : من المستفيد من التأخير الحاصل في التقدم بطرحه لقضية « الهوية »؟ تستوقفني آخر عبارة ختم بها د.محمد عابد الجابري مقدمة أحد كتبه قائلا : « سؤال الحداثة سؤال متعدد الأبعاد ،سؤال موجه إلى التراث بجميع مجالاته وسؤال موجه إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها و طموحاتها…إنه سؤال جيل بل أجيال …سؤال متجدد بتجدد الحياة »(5). مات محمد عابد الجابري و في نفسه غصة من أولئك الذين  لم يستوعبوا مشروعه الفكري فظلموه. فالرجل لم يسعى إلى قلب الطاولة على التراث بل لقد اعتبره منطلق كل تجديد ،دون انكار أنه (أي التراث)محدد للهوية العربية التي ابتدأت من « صحيفة النبي الى لحظة تفكك الخلافة العباسية… »(6)  و الذي ارتبطت فيه العروبة بالإسلام ،و الإسلام بالعروبة « إذ لم تكن الهوية تتحدد بالنسب بل كانت تتحدد حضاريا بالإنتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية،و سياسيا و اجتماعيا و دينيا بالإنتماء إلى إحدى الهويات الصغرى :عرقية ،مذهبية،دينية طائفية… » (7) ،بل لقد سعى الجابري مثله مثل الراحل محمد اركون و عبد الله العروي و هشام جعيط و حسن حنفي …للمساهمة في تعميق النقاش المتعلق باشكالية الانحطاط و التخلف الذي يعيشه العالم العربي و الاسلامي ، و التي اختزلتها الصياغة التالية :  » لماذا تقدم الغرب/ الآخر و  تأخر العرب/ الأنا؟ ».
يرى العديد من المثقفين كما رجالات الفكر أن المجتمعات العربية و الإسلامية بعد لحظة الاستيقاظ من نومها (بل قل بياتها) الطويل وجدت نفسها تتعرض لهجمة شرسة افتتحت فصولها بالاحتلال بعد ذلك الإستلاب الثقافي و الإجتماعي و السياسي ثم القانوني و التربوي فالإقتصادي…هذه المجتمعات لم تجد لها مفرا لمنع تلك الهجمات غير الالتجاء و الاحتماء بماضيها و تراثها أيا كان نوع هذا الميراث خشية الذوبان أو التماهي…فهذه المجتمعات المغلوبة على أمرها سعت لإحياء تراثها في العادات و التقاليد والعقائد و كثير من الأمور الثقافية و ذلك لدحر المستعمر عن ديارها و هو ما حدث مع الدول العربية و الإسلامية التي شهدت دعوات قادها جماعة من العلماء و المفكرين الذين انطلقوا من المؤسسات الدينية (مساجد أو زوايا…)،هنا ظهرت ثقافة الاحياء الديني و الثقافي و الاجتماعي.
بعد استنزاف   الجهد و عودة المستعمر إلى حال سبيله وجدت النخب(8) التي تمكنت من طرد المستعمر نفسها لا تملك مشروعا حضاريا نهضويا فكريا متكاملا ،بل إن مشروعها كان ناقصا ،الأمر الذي أدى إلى انقسام هذه النخب (ظاهرة التحزيب) ،و النتيجة هي أن الفئة التي قاتلت المستعمر قد تسلمت السلطة وسط هتافات الجماهير التي عقدت عليها العزم بل ربطت مصيرها بانتقال السلطة إلى هؤلاء، و بما أن مشروع هؤلاء النخب كان ناقصا فقد تم التفطن إلى أن المستعمر قد طُرِدَ « كزَيٍ » من الشوارع،لكن ثقافته قد تم التشبت بها « سلوكا » ،وهنا ستظهر فئة مهمتها هي رفض موقف النخبة ،منذ ذلك الحين الى الآن شوهدت عدة سيناريوهات « نضالية/سلمية » (حالة المغرب و الجزائر في شمال افريقيا )   او « نزاعية/مسلحة/دموية » (حالة الاكراد،و الصراع الشيعي السني في المشرق ). وهنا فهم على أن التاريخ قد يعيد نفسه بصياغات متعددة، فالنخب « الحداثية الأمازيغية » الآن تبحث لنفسها عن موطئ قدم داخل النسق السياسي لممارسة « السلطة » ،في الوقت الذي « توهم » فيه شريحة مهمة من المغاربة بأن ما ينقصهم هو الإصرار ــــ بطريقة مبالغ فيها ـــ على سؤال الهوية،علما أن استغراق المزيد من الوقت في البحث عن إجابة لهذا السؤال من شأنه أن يعيق التنمية،ويدخلنا في دهاليز القرن الذي نعيشه غير حاسمين في ما نرمي اليه.
خطورة الأمر لن تنجلي لنا إلا بعد انصرام الزمن ،مثلما أن هويتنا لن تنضج إلا بالانفتاح على تجارب معاصرة ،فإذا كان المغرب قد انشغل  عن سؤال الهوية بدسترة اللغة الأمازيغية (شان باقي الدول العربية والإسلامية التي تنشغل بهوياتها العرقية أو الدينية أو الإيديولوجية..)و إذا كان الفاعلون الأمازيغيون يرون في ذلك مدخلا لتحقيق « الهوية الكاملة » لهم ،فإن لحظة التوثيق التشريعي /القانوني تختلف كليا ،فالحراك الذي عرفته مجموعة من الأقطار كان دافعه غياب التنمية و ضيق الأفق السياسي وانسداده ،ولم يكن البثة نتيجة تعصب ديني أو عرقي أو مذهبي … إلا أنه في خضم هذا الحراك و لمزيد من الاحتقان وإضفاء زخم  على هذه « الثورات » تم الاستعانة إما بنعرات عرقية ،كما هو حال تملق رئيس سوريا بشار الأسد  للأكراد بمنحهم الجنسية السورية، أو  بنعرات طائفية كالتدعيم الباعث للصراع السني الشيعي ،ولعل المنصت البسيط للتكبيرات المرافقة لكل طلقة رشاش أو لِلِحَى العديد ممن يسمون أنفسهم « مجاهدين » دليل على أن الحراك الشعبي له دافع قبلي مخالف للتأزيم البعدي الذي تشعله النعرات العرقية أو الطائفية…
خلاصة قولي هنا أن النعرات السالفة الذكر هي مجرد « خلايا نائمة » غالبا ما يتم ايقاظها في الوقت المناسب لتحقيق غايات بأجندات مفارقة لواقع الناس ،وهي تلعب في نهاية المطاف دور العائق اكثر منه دور المسوغ للتنمية.
4.    « الهوية الكونية » و « الإقلاع الحضاري » و « الحرية »:
يورد إدغار موران تساؤلا مبنيا على تشخيص منتبه إليه: « أي تنوع مذهل لا يحصي على كوكب الأرض هذا ،حيث تنوع الأجناس  و تعدد الإختلاط،وكما تبين الجغرافية المتعددة الألوان ،فإن الأمم آخذة في الإزدياد و الإثنيات أكثر عددا و تنوعا من الأمم بعد،وقد ازدهرت آلاف اللغات مع تنوع لامتناه لقواعد اللغة و تراكيب الكلام و المفردات و الأصوات التي تميز بينها. و إذا كان كثير من اللغات ضئيلة الأهمية تموت حاليا فذلك لأن اللغات المهمة تخنقها،لكن تظهر لهجات دارجة و لغات مختلطة و رطانات في كل مكان… » (9) ، وفي خضم حديثه يشير ادغار موران إلى أنه برغم التنوع الذي تعرفه كل مناحي الحياة البشرية سواء كان تنوعا عرقيا،دينيا،لغويا،ثقافيا،اجتماعيا (قبائل ،طبقات،فقراء ،أغنياء…)،فيزيولوجيا (الشكل، الطول،الجهاز العصبي،اللون…)، نفسيا (الشخصيات ،الطباع، الجبلة، الادراك، الامزجة…)… برغم هذا التنوع يقر موران بأنه » بقدر وضوح التنوع البشري للعيان أصبحت الوحدة البشرية اليوم واضحة للاذهان »(10) ليتوصل إلى إمكانية بناء هوية بشرية مشتركة بناء على عناصر الوحدة التي تجمع بين البشر،وحدة  إزاء الموت و الثقافة و السوسيولوجيا ،منطلقا من أنه ليس هناك تعريف للثقافة يشمل جميع الثقافات من غير النظر إلى اختلافاتها، كما أنه بداخل مجتمع ثمة موسيقى، غناء، شعر، عقلانية، دين، تقنية، سحر، طقوس، عبادة… ليصل بعد ذلك إلى فكرة مفادها أن التنوع و التعدد يمكنه أن يكون أصلا للوحدة » ثمة وحدة بشرية.وثمة اختلاف بشري.وثمة وحدة داخل الاختلاف البشري،وثمة اختلاف داخل الوحدة البشرية…و لا ينبغي للاختلاف الشديد أن يخفي الوحدة،ولا للوحدة الأساسية أن تخفي الاختلاف ». (11)
يصعب التفكير فعلا في تأسيس وطن بدون هوية،مثلما يصعب التنظير لكيفية الانتقال « إلى الهوية الكونية » لكن الأصعب أيضا أن نستمر في طرح سؤال الهوية بالشكل الذي نكرسه حاليا، فعوض أن يلعب السؤال دور المساعد على تحقيق الإقلاع الحضاري المرتبط بالإقلاع في كافة المجالات الحيوية ،بما فيها ضمان الحرية، لازلنا ننظر إليه كسؤال يعيق تحقيق هذا الإقلاع ،نظرا لاختزالنا للهوية في مجالات محدودة أدت إلى تكريس انغلاقنا بما ينفع فئة دون باقي الفئات ،و لعلي سأكون حالما،ومنسجما مع بنات أفكاري، إن قلت أن الهوية لا بد أن ترتبط أكثر بالإنتماء الوجودي و التموقع الاجتماعي و إلا ما فائدة هوية مفتقدة لمحركات تسهل عملية الإقلاع؟ ألم تقلع اسبانيا رغم الإرث الثقيل لهويتها المنقسمة على ثلاث؟  وهل نخبنا مستعدة للتخلي عن تصوراتها الضيقة لمفهوم الهوية لتجاوز وضعنا المتخلف؟.
5.    خلاصات :
إن التاريخ البشري منذ عصور ما قبل التاريخ لم يعرف لحظات قطيعة مطلقة، ولن أحتاج للتذكير بأن الجنس البشري ينتمي، رغم اختلافه، إلى نفس النوع كما أننا نمتلك السمات الأساسية نفسها ،وما وضع التشتت أو الشتات الذي نعيشه كما عايشناه في الماضي القريب إلا وضع مرحلي ،علما أن هذا الوضع أدى إلى ظهور الإبداع الإنساني في أحلى صوره (اللغة ،الفنون، العادات ،الاخلاق،…)، بمعنى أن التنوع الذي عرفته الذهنية و الثقافة البشرية كان مصدرا للتجديد في كافة مجالات الحياة ،وهذا لا يعني أن حالة التعصب لواقع هوياتي من شأنه أن يساهم في بناء هوية كونية تضمن الحرية والكرامة للجميع وتحفظ هبة الضعيف كما القوي…بل على العكس فما نعاينه الآن من توثر و استقواء عنيف ما هو إلا ردة فعل تنطلق من سمو هوية على أخرى فوحدة الهوية، كفكرة ممكنه التحقق إذا ما تم استحضار قيمة المحافظة على الأجيال اللاحقة، هي مصدر الإبداع المولد للتنمية والمحقق للإقلاع ،أما اختزالية الهوية في مكون واحد، فهو قصور استراتيجي لا يفضي إلا إلى تكريس العنف ماديا كان أم معنويا، ومعلوم من يستفيذ من مثل هذا الوضع.
إن سؤال الهوية الآن ينبغي أن ينطلق من الإنسان لتحريره من اكراهاته الاجتماعية، اللسنية، المذهبية و العقدية… خصوصا في ظل ظرفية لم يعد فيه هذا الكائن منعزلا ،بل إنه يتحمل مسؤوليته الأخلاقية على الأقل في كل ما يقع في العالم من تحول نحو الأسوء.  نعم أننا ندرك أن الطريق إلى ما نحلم به لا بد أن يكون متدرجا و ذلك لعدة معطيات أبرزها التخلف الثقافي والاستبداد والتدخل الخارجي و الأمية …إلا أن هذه الرؤية لا ينبغي أن تجعلنا عازفين على الطموح  لغد أفضل ،لهذا فتربية الأجيال القادمة على منظور سليم للهوية يحصن أمننا و يجنبنا صدام الهويات حتى لا أقول صدام الحضارات.

بقلم الأستاذ رشيد عوبدة

الهوامش :
(1)  جان فرانسوا ماركييه « مرايا الهوية : الادب المسكون بالفلسفة » ترجمة أ.كميل داغر ،مراجعة لطيف الزيتوني. بدعم من مؤسسة الفكر العربي .دار النشر « المنظمة العربية للترجمة »الطبعة الاولى .شتنبر 2005 . ص 13.
(2)  نفسه ص 15.
(3)  راجع مقالتنا  » اللغة كساء الفكر  » المنشورة من طرف مركز آفاق للدراسات والبحوث . http://aafaqcenter.com/index.php/post/1333
(4)  تكثر في قاموسنا التداولي عدة عبارات ذات حمولة قدحية الغرض منها التقليل من العربي أو من الأمازيغي مثلا (أعراب إجان : العربي كريه الرائحة  و الشلح الغربوز: الأمازيغي المغفل)
(5)  محمد عابد الجابري « التراث  و الحداثة :دراسات و مناقشات ».مركز دراسات الوحدة العربية .الطبعة الاولى .يوليوز 1991 .ص 11
(6) محمد عابد الجابري مقالة « تشكُّل الهوية العربية  » المنشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي العدد الصادر بتاريخ 6 ابريل 2010  والتي عنونت ب « الهوية العربية :من صحيفة النبي الى تفكك الخلافة العباسية » بالموقع الخاص بالكاتب   http://www.aljabriabed.net/conceptislamiques_9.htm
(7) نفسه .
(8) في المغرب يمكن القول أن المستعمر عندما فشل في تحقيق شرخ في « الهوية الوطنية » للمغاربة على إثر إقراره لما عرف ب »الظهير البربري » والذي تجندوا (أي المغاربة)له بقراءة « اللطيف » داخل المساجد كإشارة رمزية توحي بقوة « الهوية الدينية » وان « الهوية الإثنية » تابعة لها ،قلت عندما فشل هذا المخطط مهد المستعمر لما عرف ب »ظاهرة التحزيب » وأشرك « الحركة الوطنية « في اتفاقية اكس ليبان ،و هو الامر الذي ساهم في خلق شرخ في « الهوية الايديولوجية « هذه المرة و هو ما أسفر عن التعددية السياسية فيما بعد…
(9) إدغار موران « النهج،انسانية بشرية،الهوية البشرية ». ترجمة د.هناء صبحي.هيئة أبو ظبي للثقافة و الثرات (كلمة).الطبعة الاولى 2009.ص 71.
(10) نفسه ص74 .
(11) نفسه ص ص 81 ـــ 82.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. رمضان مصباح الادريسي
    19/09/2012 at 12:17

    حقا أقول لقد تمتعت هذا الصباح بموضوعك:
    خصوصا حينما انتهيت الى المراهنة على هوية دينامية تراهن على غد عولمي ؛تنحوا فيه جميع القيم الى أن تصبح كونية.
    ثقافة واسعة
    تماسك منهجي
    قدرة على حمل القارئ على مشاركتك في بناء تصوراتك المؤسسة
    لا تغب عنا أستاذ رشيد

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *