Home»International»مقاصد الكلام في المذهب المالكي – الجزء الثاني-

مقاصد الكلام في المذهب المالكي – الجزء الثاني-

0
Shares
PinterestGoogle+

الدكتور عبد القادر بطار
وظيفة المتكلم:
من القواعد الكلية المقررة في المذهب المالكي أنه لا يصح شيء من العبادات إلا بعد الإقرار بالمعبود والتصديق به. (12) وهذه الكلية لا تتحقق إلا عن طريق تحصيل العقائد الإيمانية وفهمها فهما صحيحا في ضوء علم التوحيد الإسلامي الذي شيده أهل السنة والجماعة.
وذا كان كثير من العلماء لم يقبلوا بعلم الكلام في بداية الأمر، فلأنه كان يحيل على مقالات مبتدعة في الدين، ولأن أصحاب تلك المقالات كانوا يمثلون شذوذا في المنهج والاعتقاد. لقد استند جل العلماء الذين رفضوا علم الكلام أنه من الأمور التي لم يشتغل بها السلف الصالح الذين اهتموا ببيان الأحكام الشرعية التي تشتد الحاجة إليها أكثر.
فإذا كان الإمام مالك يكره الكلام في الدين، اقتداء بأهل بلده الذين كانوا يكرهونه إلا فيما تحته عمل فإن الإمام الشافعي سار على هذه النهج السلفي في مناظراته لبشر المريسي وحفص الفرد.
فقد قال الإمام الشافعي لبشر المريسي (ت 217  وقيل228 هـ) أخبرني عما تدعو إليه، أكتاب ناطق، وفرض مفترض، وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال ؟ قال بشر: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه، فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار، فلما خرج قال الشافعي: لا يفلح.(13)
وأثر عنه أيضا أنه قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.(14)
وهذا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل. (15)
هذه النصوص وغيرها تحذر من الاشتغال بعلم الكلام، وقد عمد بعض المعاصرين إلى إحياء هذه النصوص والتحمس لها وحملها على كل من يشتغل بعلم الكلام من العلماء بدون تمييز بين كلام وكلام. بل بدون فقه لتلك النصوص والسياقات التاريخية التي وردت فيها، حتى أفضى بهم الأمر إلى تبديع كبار العلماء من مختلف المذاهب السنية.
ومن التأويلات الغريبة التي يستند إليها هؤلاء المعاصرون ما يذكره ابن عبد البر في تأويل قول مالك في الإجارات والشهادات، والتأويل منسوب لفقيه مالكي يسمى ابن خويز منداد المصري:
 » قال في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف، قال مالك: لا تجوز الإجارات في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم وذكر كتبا ثم قال: كتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم، وتفسخ الإجارة في ذلك.
قال: وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك.
وقال في كتاب الشهادات: في تأويل قول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء، قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر، ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها.(16)
هذا النص كثيرا ما يستشهد به بعض المعاصرين من متأخري الظاهرية للتشنيع على الأشاعرة وأنهم أهل أهواء وبدع. وهو استنتاج خطير لابد من التنبيه على تناقضاته وتهافته:
أولا:  أن صاحب هذا الكلام هو أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله الشهير بابن خويز منداد  وهو معروف بشواذه عن مالك، وله اختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب … وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه، وكان يزعم أن مذهب مالك أنه لا يشهد جنازة متكلم ولا يجوز شهادتهم ولا مناكحتهم ولا أمانتهم، وطعن ابن عبد البر فيه أيضا، وكان في أواخر المائة الرابعة. (17)
فحسب هذه الترجمة فإن ابن خويز نسب إلى الإمام مالك أمورا على سبيل الانفراد، والرجل لم يكن قويا في الفقه كما يقول عنه القاضي عياض. (18)
ثم إن بعض الروايات عن مالك أنه منع شهادة القدري الذي يدعو إلى بدعته، وكذا الرافضي والخارجي، كما روي عنه المنع مجملا.(19)
ثانيا: كيف يستشهد الحافظ ابن عبد البر بكلام رجل طعن فيه العلماء وهو المحدث والحافظ الذي يعرف قيمة الخبر وطرق قبوله ؟
ثالثا:  لم يشر ابن خويز إلى أن كتب الأشاعرة من ضمن كتب أهل الأهواء والبدع عندما تكلم عن كتب الإجارة، في حين أشار إليها عند كلامه على شهادة أهل الأهواء والبدع. فهل هذه الفقرة الأخيرة فعلا من كلام ابن خويز، أم أنها من إضافة بعض خصوم المذهب الأشعري؟
رابعا:  أن مصطلح أهل الأهواء كان يقصد به في زمان مالك فرقا إسلامية معروفة، وهم على وجه التحديد، الجهمية، القدرية، والروافض، ولم يدرج أحد من الأئمة المعتبرين الأشاعرة ضمن أهل الأهواء والبدع، إلا أن يكون من متأخري الظاهرية. علما أن المذهب الأشعري ظهر في القرن الرابع الهجري، أي بعد عصر مالك بحوالي مائتي سنة، فكيف يحمل كلامه على  أئمة هذه المدرسة السنية.
خامسا: رد كثير من العلماء كلام ابن خويز واعتبروه مخالفا للحق، فقد نقل الفقيه أبو القاسم بن أحمد البلوي المعروف بالبرزلي عن ابن بزيزة في شرح الإرشاد للجويني قوله: هذا النقل عن ابن خويز منداد باطل، وإن صح قوله فالحق حجة عليه، وإذا تصفحت مذاهب الأشعرية وقواعدَهم ومبادئَ أدلتهم وجدت ذلك مستفادا من الأدلة راجعا إليها، فمن أنكر قاعدة علم التوحيد أنكر القرآن، وذلك عين الكفر والخسران، وقد بدأ قبل العراقيين تلقيها، وكيف يرجع إلى رأي بن خويز منداد ويترك أقاويل أفاضل الأمة وعلماء الملة، من الصحابة ومن بعدهم، كالأشعري والباهلي والباقلاني والمحاسبي وابن فورك والإسفرايني وغيرهم من أهل السنة …
فإن قلت هذا في محدثات الأمور ولم ينظر فيه السلف فلا ينبغي أن يخوض فيه الخلف، وربما أعقب المراء والجدال والشبهات.
قلت: بل نظر فيه السلف قطعا، منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن عباس حبر الأمة، وعلي رضي الله عنهم، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وربيعة وابن هرمز ومالك والشافعي، وألف فيه مالك رحمه الله رسالة قبل أن يولد الأشعري، وإنما نسب للأشعري لأنه بين مناهج الأولين، ولخص موارد البراهين، ولم يحدث فيه بعد السلف إلا مجردَ الألقاب والاصطلاحات، وقد حدث مثل ذلك في كل فنون العلم. وقول القائل: نهوا عن النظر فيه فباطل، وإنما نُهوا عن علم جهم والقدرية وغيرهم من أهل البدع، وهم الذين ذمهم الشافعي وغيره من السلف من المحدثين.(20)
سادسا: يصر البعض على إحياء آراء ابن خويز منداد والبحث في حياته وآثاره، وإظهاره أنه من فطاحل المذهب المالكي، وهذا الإجراء كان يكون محمودا لو أن أصحاب هذا الاتجاه كان مقصودهم هو البحثَ العلميَ المجرد، غير أن الدافع والله أعلم في إحياء آراء ابن خويز هو الطعن في الأشاعرة والنيل منهم عن طريق تأويل كلام مالك تأويلا فاسدا لا يقره حتى مالك نفسه.(21)
لقد غاب عن ابن خويز ومن يردد كلامه من المعاصرين أن العلماء الذين رفضوا علم الكلام رفضوه لأن أصاحبه أحدثوا في الإسلام بدعا كثيرة ليس لهم فيها سلف. وأن هؤلاء معروفون بمقالاتهم الشنيعة، ومخالفاتهم الصريحة لإجماع الأمة … لكن النظر السديد والموضوعي في مقالات الرافضين لعلم الكلام أفضى بنا إلى تقسيم علم الكلام إلى قسمين:
كلام هو عبارة عن تأييد للعقائد الإيمانية بأدلة نقلية وعقلية، ويمكن تسمية هذا القسم بالكلام السني أو الكلام المحمود. وكلام هو عبارة عن مفاهيم جديدة في مجال الاعتقاد الإسلامي، ويمكن تسمية هذا القسم بالكلام البدعي أو الكلام المذموم، وعلى هذا القسم الأخير تتنزل انتقادات العلماء لعلم الكلام.
وعن القسم الأول يقول الحافظ أبو القاسم علي بن الحسين بن عساكر الدمشقي: » فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء ومن يعلمه، وقد كان الشافعي يحسنه ويفهمه وقد تكلم مع غير واحد ممن ابتدع وأقام الحجة عليه، حتى انقطع. (22)
وقد استنتج القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 494 هـ) من أثر يرويه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجامع أن كراهية العلماء للكلام إلا فيما تحته عمل لا ينبغي يحمل على إطلاقه بل ينصرف إلى معنيين:
فقد روى مالك أن عمر بن الخطاب سُئل عن هذه الآية: » وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ » الأعراف:172  فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل ؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيُدخله ربه الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار يموت على عمل من أعمال أهل لنار فيدخله ربه النار.
فقد استنتج أبو الوليد الباجي من سؤال عمر بن الخطاب عن معنى الآية الكريمة » وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » أن الصحابة كانوا يتكلمون في أمور العقيدة ويبحثون عن حقائقها. وأن قول من قال من علماء التابعين كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل إنما ينصرف إلى أحد أمرين: إما أن يتوجه المنع في ذلك لمن ليس من أهل العلم ممن يُخاف أن تزل قدمه، ويتعلق قلبه بشبهة لا يقدر على التخلص منها… والوجه الثاني: أن يتوجه المنع في ذلك إلى من يتكلم في ذلك بمذاهب أهل البدع ومخالفي السنة. (23)
لقد وقف الإمام مالك في وجه المبتدعة ينكر عليهم بدعهم الكلامية وغلوهم في تقرير العقائد الإيمانية، من ذلك مسألة الاستواء التي جعلت الإمام مالكا رحمه الله يكره الكلام، فقد كان السلف الصالح لا يتكلون في مثل هذه الأمور التي تضمنتها بعض النصوص التي هي من قبيل المتشابه، بل يؤمنون بها كما وردت ويعتقون أن تفسيرها هو تلاوتها والسكوت عليها.
يقول عبد الله بن وهب كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله: الرحمن على العرش استوى، كيف استواؤه ؟ قال: فأطرق مالك وأخذتنه الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. قال فأخرج الرجل. وفي رواية أخرى من طريق يحيى بن يحيى: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى فكيف استوى ؟ قال:  فأطرق مالك رحمه الله رأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا فأمر به أن يخرج.(24)
وقد يفهم البعض من جواب الإمام مالك رحمه الله المعنى اللغوي المتبادر من لفظ الاستواء الذي يعني الاستقرار والتمكن والمماسة، غير أن هذه المعاني مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، لأنها تؤدي إلى التجسيم المرفوض إسلاميا.
والذي ذهب إليه أهل الحق أن المراد بالاستواء أنه استواء لا كاستوائنا، وعلى هذا الأساس فهو غير معلوم لعدم دلالة القاطع عليه، وهذا هو مذهب السلف، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري في أحد قوليه. (25)

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. عبد النور
    03/05/2012 at 14:00

    شكرا جزيلا وجدة سيتي على هذا المقال العلمي الأكاديمي بامتياز

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *