الإضراب بين المراسيم التنظيمية والاجتهادات القضائية

لا تثير مسألة مشروعية الإضراب من عدمها نقاشا جديا إلا عندما تقترن بإجراءات تمس المضربين سواء بالاقتطاعات من الأجرة أو بإصدار عقوبات إدارية كالإنذار أو غيره ،،غير أن مسألة تعريف الإضراب في علاقته مع التوقف الجماعي عن العمل أصبحت تحظى بأهمية كبرى خصوصا في السنوات الأخيرة،التي شهدت انفتاحا نسبيا ملحوظا على ممارسة الحقوق والحريات العامة ،في ارتباط كل ذلك مع أسئلة المواطنة والانفتاح على الاحتجاج،وكذا بالحق في الإضراب كسلوك رئيسي في الاحتجاج ،الغاية منه لفت الانتباه إلى ما دأبت الأدبيات النقابية على تسميته بالملف المطلبي،والذي يتراوح زمنيا بين ظروف الدعوة إليه جديا ،وبين ما يعرف بالحركات التسخينية التي تسبق حلول فاتح ماي،أو إحدى جولات الحوار الاجتماعي،مما يفتح أيضا الجدال على نوافذ أخرى تسائل شرعية الإضراب وجديته،وكل ذلك لم يعف الأطراف القريبة من الموضوع من تجاذب النقاش حول هذه التقاطعات،وطرفا هذا الجدال تحديدا هي النقابات والمضربون من جهة،ومن جهة أخرى الإدارة والمشغلون ،وبين هؤلاء وأولئك يقف القضاء محاولا تلمس حقول الألغام التي تتفجر تحت أقدامه منذ الإعلان عن دستور 1962 والمعدل سنة1996،و منه خصوصا الفصل الأكثر إثارة للجدال وهو الفصل 14 الذي ولد مبتورا ،حيث جاء على الصيغة التالية»حق الإضراب مضمون ،وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق «،علما أن اللغة كوعاء دال على مايخزنه من المعنى،كان وراء التضارب الحاصل بين شرعية قرارات العقاب ،والاقتطاع أساسا،وبين القول بشرعية الإضراب كسلوك عام منصوص عليه في أرفع القوانين الوطنية وهو الدستور.
وهكذا فقد استندت نظرية عدم شرعية الإضراب على القوانين والمراسيم والمناشير الصريحة في ذلك مثل :القانون رقم81.12 بشأن الاقتطاعات من رواتب الموظفين وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة ،ثم المرسوم الملكي رقم ،330.66 بمثابة النظام العام للمحاسبة العمومية ،والمرسوم رقم 2.99.1216 في شأن تحديد شروط وكيفية تطبيق القانون81.12 ومنشور الوزير الأول رقم82/د ،ومنشور وزير تحديث القطاعات العامة رقم 04 والصادر بتاريخ19 ماي2003،وهي كلها تميل إلى اعتبار أحقية السلطة التنفيذية في اقتطاع أجرة الموظف المتغيب عن عمله،وهذا يدفع بالضرورة الجهات المضربة عن العمل وكذا الجهة المعنية بتنفيذ الاقتطاع،إلى ضرورة الامتثال للقانون رقم 81.12 بشأن الاقتطاعات من أجرة الموظف المتغيب عن العمل ،خصوصا أن الفقرة الثانية من الفصل 14 من الدستور لم تر النور بعد فلم يصدر القانون التنظيمي المفترض فيه أن يبين الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة حق الإضراب ،علما أن مفهوم الإضراب وتعار يفه الإجرائية والقانونية لا تزال مثار اختلاف
،فتحمل على أوجه عدة ،في مواجهة تعار يف التوقف عن العمل من جهة ومن جهة أخرى التغيب عن العمل،بالنظر إلى البعد المحاسبي الذي يرمي إليه كل من المرسوم الملكي رقم 330.66 بمثابة النظام العام للمحاسبة العمومية،وكذا القانون12.81 بخصوص الاقتطاع من الرواتب ،مع استحضار الفصل الثالث من الدستور أيضا الذي كرس وظيفة الأحزاب والنقابات في تنظيم المواطنين وتمثيلهم.
وبالمقابل فإن الاعتراف بأحقية الموظف في القيام بالإضراب ،والتي ورد في شأنها الفصل 14 من الدستور،لا توازيها القوانين التي من الممكن أن تدعم ضمانات الدولة في الموضوع،باستثناء بعض الاجتهادات القضائية في المادة الإدارية أو بعض الضاربات التي تتضمنها بعض القوانين،فقد اعترف الفصل الأول من المرسوم رقم2.57.1465 الصادر بتاريخ5 فبراير1958 بشأن مباشرة الموظفين للحق النقابي والمنشور بالجريدة الرسمية عدد2372 بتاريخ11 أبريل1958 ،اعترف بالحق النقابي لموظفي وأعوان ا لإدارات والمكاتب والمؤسسات العمومية،لكنه عاد في الفصل الخامس منه إلى «اعتبار كل توقف عن العمل بصفة مدبرة وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة يمكن المعاقبة عنه» كما أن منشور الوزير الأول عدد318/د الصادر في 7 ابريل1979،ألحق بالإضراب إجراءات الحرمان من الأجرة المطابقة لمدة الانقطاع عن العمل بغض النظر عن العقوبات المقررة في باقي القوانين التنظيمية ذات الصلة بالموضوع .
القضاء بدوره لم يقف بعيدا عن هذا الجدال القانوني والنصي بدرجة كبيرة،فقد خضعت القوانين والمراسيم إلى تمحيص القاضي الإداري الذي هو قاض إنشائي كما هو معلوم ،فقد جاء في الفقرة التاسعة من باب الموضوع من الحكم عدد:63/2001غ،الصادر عن المحكمة الإدارية بمكناس ،في موضوع معلم تلقى عقوبة الإنذار بسبب قيامه بالإضراب ،نجد أن هذه المحكمة وضعت في المحك المرسوم السالف الذكر،والصادر تحت عدد :32.57.1465 وخصوصا الفقرة الخامسة منه،فاعتبرتها غير منسجمة مع المقتضى الدستوري،الوارد لاحقا أي سنة1962 والذي أكدته الدساتير المتعاقبة،لذلك اعتبرت المنع من الإضراب بالمطلق ساقطا لعدم انسجامه مع مقتضيات الدستور،وألغت في النهاية عقوبة الإنذار الموقعة على المعلم المضرب الذي كان قد أدلى للمحكمة بصورة شمسية لبطاقة العضوية بالنقابة المضربة،رفقة مقاله الافتتاحي المودع لدى المحكمة.
ومن جهتها فإن المحكمة الإدارية بالرباط في حكمها الصادر تحت عدد 155 بتاريخ7 فبراير2006 في الملف عدد :50/1/5 نحت نحو النظر في الإجراءات التي يفترض أن تصاحب الإضراب دون الخوض في مشروعيته من عدمها ،فجاء في الفقرتين السادسة والسابعة مما استنتاجات مابعد المداولة،انه وبسبب غياب النص التنظيمي الذي أشار له الفصل14 من الدستور ،وكذا وجود فراغ تشريعي فيما يتعلق بتنظيم هذا الحق ،فإن هذا خول للقضاء الإداري استنادا إلى دوره الإنشائي ،النظر في إمكانية خلق ضوابط كفيلة بتأمين ممارسته بشكل يضمن الحفاظ على سير المرافق العمومية انتظاما واضطرادا ،وهكذا اعتبرت هذه المحكمة أن الإضراب حق أصيل لا يفترض طلبا مسبقا وترخيصا،إلا أن ممارسته تستوجب التقيد بنظام الإخطار،واعتبرت قرار الإدارة بتطبيق مقتضيات المرسوم1216.99.2 الصادر بتاريخ10ماي2000 المتعلق بالاقتطاعات من أجور الموظفين ، هو تطبيق سليم،وذلك لكونه قد تم في إطار المشروعية،لكونه – من جهة أخرى -أدى إلى توقيف العمل بشكل مفاجئ مرة واحدة دون إخطار الجهات الإدارية المعنية بمرفق هام ألا وهو مرفق التعليم وما له من انعكاسات سلبية على المجتمع،وقضت في النهاية برفض طلب المتضررين لعدم جديته.
وإذا كانت محكمة الرباط الإدارية قد فصلت في الطلب لعدم جديته ،فإن المحاكم لا تنظر في جدية الإضراب ،فعلى سبيل المثال ،تشهد بعض المناسبات السنوية حركات احتجاجية وإضرابات على غير العادة،وهي تدخل بالطبع في أجندة بعض النقابات استعدادا لاستحقاقات انتخابية أو قرب حلول فاتح ماي أو بمناسبة إجراء لقاءات الحوار الاجتماعي بين الدولة والنقابات،لكن الغريب في هذا النوع من الإضرابات هو تناقضها الصارخ من باقي الإجراءات المواكبة للإضراب ،ففي مقابل (النجاح الساحق )للإضراب نجد ضعفا شديدا في الوقفات الاحتجاجية وتناقصا في أعداد المنخرطين في النقابات وجمود في حركية تجديد الهياكل النقابية ، وغياب شبه تام في تنظيم الأنشطة الثقافية والتكوينية التي ترفع من درجة الوعي النقابي بالتأطير والتوجيه، مقارنة مع السنوات الذهبية للعمل النقابي في السبعينات والثمانينات،ومن ثمة فإن جزءا من جدية الإضراب تقتضي تشحيم الآلة النقابية في مواجهة آليات الإدارة وذلك ببعض مما يلي:
* ضبط لائحة المنخرطين النقابيين بالمؤسسة التربوية وإعلام الإدارة بذلك.
* توفير الضمانات وحفظ الإدارة للموظف المنخرط في النقابة المضربة حقه في الاحتجاج ،علما أن المؤسسة التربوية يفترض أن تتوفر على مندوب نقابي أو لجان المؤسسات لضبط العلاقة القاعدية بين الإدارة والنقابة.
* إعادة اعتماد تقنية الحضور إلى المؤسسة صباح الإضراب ،للتأكد من جدية الموظف المضرب المنخرط في النقابة الداعية للإضراب،ثم الالتحاق بالمقرات النقابية – تحت المسؤولية التنظيمية والأخلاقية للمندوب النقابي – لقياس مدى نجاح الجهاز النقابي فعليا في دعواه للإضراب .
* وبالضرورة سيكون على الإدارة التعامل في إطار شراكاتها مع الفرقاء الاجتماعيين ،انطلاقا من معايير جدية الإضراب وجدية الاحتجاج بالمعايير السابقة وهو ما يسمح للإدارة بالفصل بين الإضراب والتغيب الجماعي عن العمل،حيث لا تتوفر النقابات المضربة على إحصائيات منخرطيها المضربين،وفي كثير من الأحيان تظل بعض المقرات النقابية مغلقة أيام الإضراب على عكس إضرابات السبعينات والثمانينات التي كانت تحول المقر النقابي غالى خلية دعم وتوجيه طيلة الأيام السابقة على الإضراب، وكذا بعده،مع عمليات التجميع الدقيقة للمعلومات والإحصائيات ،وهي كلها تقنيات تسمح للشركاء إدارة ونقابة بقياس مدى قوة الاحتجاج ومدى الحاجة إلى ايلاء الشريك النقابي الأهمية التي تليق بقوته الحقيقية.
محمد المرابطي الملحق التربوي للصباح28/04/2011 بتصرف
Aucun commentaire