حديث الجمعة : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ))

حديث الجمعة : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ))
محمد شركي
لا زال الحديث متواصلا عن صفات وأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في الذكر الحكيم ، وهي صفات وأحوال متفرعة عن خلقه الذي نوه به الله تعالى، ووصفه بالخلق العظيم الذي هيأه به كي يضطلع بأعظم مهمة على الإطلاق وهي هداية البشرية بين يدي الساعة قبل أن ترد إلى خالقها لتواجه المساءلة والمحاسبة والجزاء في الدار الآخرة عما كسبته في الحياة الدنيا .
والصفة والحال موضوع حديث هذه الجمعة هو قول الله تعالى في الآية الكريمة الثلاثين من سورة الروم : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ، وهي آية مسبوقة بحديث عن الذين اقترفوا الظلم حين اتبعوا أهوائهم بغيرعلم، ففسدت بذلك فطرتهم التي فطر الله تعالى الناس عليها. ولقد أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام أن يكون رده على هؤلاء المنحرفين عن الفطرة التوجه إلى دين الإسلام الذي هو دين الفطرة ، وهو أمر إلهي يفيد الاستمرار. ولقد ورد في كتب التفسير أن وصف الحنيف يحتمل أن يكون حالا ووصفا للرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، كما يحتمل أن يكون وصفا للدين ، والاحتمالان معا يفضيان إلى نفس المعنى لأن الدين الحنيف تلابس بالضرورة حنيفيته من يقيم وجهه له .
والحديث عن هذا الصفة وهذه الحال التي أقرها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي الوقوف على دلالات الكلمات الواردة في هذه الآية الكريمة، ذلك أن فعل القيام الذي جاء في صيغة الأمرالتي تفيد الإلزام يدل على الاستقامة، وهي مبالغة في القيام المناقض للاعوجاج أو الميل أو الانحراف . وإقامة الوجه للدين التوجه إليه دون ميل إلى غيره أو انحراف عنه ، وعند حصول ذلك على الوجه المطلوب تتحقق الفطرة السوية التي فطر الله تعالى عموم الخلق عليها بما في ذلك البشر . والفطرة هيئة مشتقة من فعل فطر الذي يفيد الخلق والجَبْل، ويشمل بالنسبة للبشر هيئتهم المادية التي يشتركون في ذلك ما جميع المخلوقات وهيئتهم المعنوية التي يدخل تحتها ما هو نفسي ووجداني وعقلي . وحقيقة هذه الفطرة أو الجِبلة البشرية أن الله تعالى خلق البشر مؤهلين لاستيعاب الإقرار بتوحيده دون الميل أو الانحراف عنه إلى الشرك. ولقد ذهب أهل العلم إلى أن الانسان يستطيع أن يعي التوحيد بفطرته السليمة ما لا يعرض لها ما يجعلها تنحرف عنها كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء » ففي هذه الحديث الشريف ما يقرب دلالة الفطرة من الأفهام حيث شبه عليه الصلاة والسلام انحراف ما هو معنوي في الفطرة البشرية بانحراف ما هو مادي في الفطرة البهيمية، ذلك أن تهويد أو تنصير أو تمجيس المولود الذي يولد موحدا فطرة وجبلة هو بمثابة الجدع أو البتر الذي يحصل للبهيمة الجمعاء المخلوقة كاملة الخلقة .ولا كمال للفطرة والجبلة البشرية إلا باعتناق دين الإسلام الذي هو دين توحيد الله عز وجل توحيدا لا يلابسه شرك مهما كان نوعه . ولقد عزا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما به يحصل انحراف المولود عن الفطرة السوية التي هي توحيد الله عز وجل إلى ضروب من الشرك كالتي وردت في حديثه من تنشئة أو تربية الأبويه لمولودهما عقديا على شاكلة انحرافهما، ومع مرور الوقت يحل فيه الانحراف بالشرك محل الاستقامة على التوحيد .
وقول الله تعالى في سياق الحديث عن فطرة التوحيد : (( لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )) يفيد في نفس الوقت إقرارا ونهيا إذ لا يمكن بتاتا أن تبدل هذه الفطرة ، ويفهم من ذلك الإلزام إذ يلزم أن تظل هذه الفطرة كما أراد لها الله تعالى ،لأن ذلك هو المقصود عنده سبحانه وتعالى بالدين القيم أو المستقيم ، وهو دين التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك مهما كان نوعه و الذي عوج ولا انحراف فيه مما يحدثه ويبتدعه البشر بسبب التنشئة أو التربية العقدية المنحرفة أو بسبب التقليد الأعمى أوبسبب الجهل الذي أخبر عنه الله تعالى مستدركا في آخر الآية بقوله : (( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ،وهذه الأكثرية تشمل الكافرين والمشركين والذي حرفوا دين التوحيد من أهل الكتاب ، وتشمل كذلك الذين انحرفوا عن الإسلام من بعض المحسوبين عليه بسبب ما ابتدعوه جهلا أو تقليدا من أنواع الشرك أو الشركيات التي قد يستهينون بها وهي في الحقيقة تشكل تهديدا خطيرا لفطرتهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة على وجه الخصوص هي التذكير بصفة الحنيفية عند الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم التي وصف بها الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام وقد نفى عنه ما افتراه عليه اليهود والنصاري في قوله تعالى في الآية الكريمة السابعة والستين من سورة آل عمران : (( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين )) ،ففي هذه الآية الحجة الدامغة على فرية المفترين على الخليل عليه السلام وعلى ادعائهم الانتساب إليه وقد برأه الله تعالى مما ابتدعوا من شرك مفسد للفطرة السوية . ولما أصروا على عنادهم وافترائهم خاطبهم بتبكيت في الآية الكريمة الخامسة والستين من نفس السورة : (( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون )) ،وإنه لمن العناد الصارخ ومن مخالفة العقل والمنطق أن تلصق اليهودية والنصرانية بالخليل إبراهيم وبينه وبين نزول التوراة والإنجيل فترة زمنية معتبرة تعد بقرون كما جاء في بعض كتب التاريخ، ويبقى علمها عند الله عز وجل .
ومعلوم أن صفة الحنيفية التي وصف بها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الآية موضوع حديث هذه الجمعة قد أمرها بها في الآية الكريمة الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة النحل حيث قال : (( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين )) ، وهذا الأمر يلزم جميع المسلمين وقد جعل الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام إسوة وقدوة لهم . وهذا اللزوم يقتضي البراءة من كل شرك مهما كان نوعه والذي من شأنه أن يلابس صفة الحنيفية ، وتحت أية ذريعة مهما كانت، وذلك حتى لا يقع الانحراف عن الفطرة السوية التي فطر الله تعالى الناس عليها والتي حرم ومنع كل تبديل لها .
ويجدر بالمسلمين اليوم أن يحترزوا من الوقوع في شرك تتضمنه بعض الأفكار أوالتوجهات الشركية التي تدعي أن الفطرة السوية وهي الإسلام الذي يمكنه أن يلتقي مع غيره من الديانات السابقة التي انحرف بها أهلها عن خالص التوحيد من قبيل نسبة الولد لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا أومن قبيل اتباع الأهواء المفسدة للفطرة السوية كالاقتباس مما يصدر عن الخلق من شرائعه أو قوانين وضعية يدعون أنها تتقاطع مع شرع الله تعالى الذي أكمله، ولم يرحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الدنيا إلا وقد بلغه كاملا غير منقوص وأشهد الله تعالى على ذلك وشهدا له بذلك سبحانه وتعالى .
ومعلوم أن الله تعالى قد حدد شروط الالتقاء مع غير المسلمين من أهل الكتاب في الآية الكريمة الرابعة الخمسين من سورة آل عمران إذ قال : (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )) . وما لم تتحقق هذه الشروط، فلا مبرر لدعوات الالتقاء مع أهل الكتاب من قبيل ما صار يعرف بالبيت الإبراهيمي أو غيره من بيوت العنكبوت . ولا بد أيضا الاحتراز من الوقوع في أنواع من الشرك الخفي او الجلي التي يقع فيها بعض المحسوبين على الإسلام من خلال إشراك الخلق فيما تفردت به قدرة الخالق سبحانه و تعالى وذلك من قبيل اعتقاد القدرة على النفع والضر فيهم والتعويل عليهم في ذلك، وهو مما يقع لهم إما بسبب جهل أو غفلة أو سذاجة في غياب التوجيه الصحيح والتبيلغ السديد إلى محجة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .وما ذلك الهلاك سوى الوقوع في شَرَك الشِّرك المفسد للحنيفية وللفطرة السوية.
اللهم إنا تعوذ بك من فتنة الزيغ والانحراف عن الحنيفية وعن الفطرة السوية ، ونسألك الاستقامة والثبات عليهما ما أحييتنا . اللهم سدد عثراتنا في أقوالنا وأفعالنا ، واجعل اللهم القرآن الكريم ربيع قلوبنا وجلاء همنا وغمنا ،وانصرنا على من ظلمنا فإنك نعم المجير، ونعم النصير، ونعم المولى ، ونعم الوكيل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آليه وصحبه أجمعين .





Aucun commentaire