حديث الجمعة : (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ))

حديث الجمعة : (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ))
محمد شركي
مواصلة لسرد صفات وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم المنضوية تحت صفة الخلق العظيم الذي نوه به الله تعالى في محكم التنزيل، سنقف في هذا الحديث عند صفة توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل كما أمر به ذلك في آيات بينات من الذكر الحكيم ،ونذكر منها الآية الكريمة التاسعة السبعين من سورة النمل التي وجه فيها الله تعالى أمرا إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قائلا : (( فتوكل على الله إنك على الحق المبين )) ، وهي آية تحيل على الوكيل وهو اسم من أسماء الله الحسنى الذي تسند وتفوض إليه كل الأمور، ويسلم له فيها، ويعتمد عليه في تدبيرها . والأمر الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية جاء في صيغة تفيد المبالغة في الاعتماد على الله عز وجل . والتوكل على الله عز وجل إنما نية أو قصد قلبي وعقلي يتوجه به صاحبه إلى خالقه راجيا عونه ومفتقرا إليه في كل أموره . وقد يسر ذلك في نفسه وقد يصرح به لاهجا به بضراعة واستغاثة إذا ما انقطعت به السبل أواشتد به الكرب أو أعوزته الحاجة .
ولقد جاء هذا الأمر الإلهي في سياق تثبيت رسوله صلى الله عليه وسلم عندما شق عليه تكذيب المكذبين من بيني إسرائيل بدعوته ، وقد دل على ذلك ما تقدم هذه الآية وما أعقبها،و قد ذُكِر فيها ما استوجب التوكل على الله عز وجل حيث وهو كون رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه على الحق المبين ،وهي شهادة منه سبحانه وتعالى بتنزيهه وإشادة بعظمة خلقه، وفي هذا ما بعث في نفسه عليه الصلاة والسلام الطمأنينة ،وجعله على يقين تام بأنه مشمول بعناية ورعاية وكفالة الله تعالى .
ومعلوم أن أكثر وأشد خلق الله توكلا عليه هم المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد وردت في الذكر الحكيم أخبار عن حسن توكل بعضهم كتوكل نوح عليه السلام حين ركب سفينته تجري به في موج كالجبال ، وكتوكل إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وكتوكل ابنه إسماعيل عليه السلام حين تُلّ للجبين ليذبح ، وكتوكل موسى عليه السلام حين أتبعه وقومَه فرعونُ وجنودُه والبحر أمامه ، وكتوكل يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت ، وكتوكل سيدنا محمد صلى الله عليه في غزوة بدر الكبرى ، وفي مواقف أخرى .وما ذكر الله تعالى في محكم التنزيل هذه النماذج وغيرها من توكل المرسلين عليه إلا لتحفيز عباده المؤمنين على الحذو حذوهم ، والسير على نهجهم ، وإن كان شأوهم في التوكل على الله تعالى أبعد من أن يدركه غيرهم من البشر.
والتوكل على الله عز وجل عنوان أو معيار صحة وقوة الإيمان خصوصا في الشدة والبلاء . والمتوكلون على الله تعالى بصدق ويقين يلهمهم طمأنينة في قلوبهم ،فلا يترددون طرفة عين أو أقل من ذلك في كونه جل وعلا نعم الموكول ونعم المفوض .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي أولا تذكير المؤمنين بخلق التوكل عند رسوله الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي جعله سبحانه وتعالى إسوة وقدوة لهم ، وثانيا ترغيبهم في هذا الخلق العظيم الذي تختلف حظوظ المؤمنين منه باختلاف درجات إيمانهم .
ومعلوم أن التوكل على الله تعالى في كل الأمور لا يكون بمجرد لوك الألسنة به بل لا بد من قناعة راسخة به تستشعرها القلوب ، ولا يتزعزع يقينها به مهما اشتدت الخطوب أو مهما تأخر فرج الله سبحانه .
ولقد رغب الله تعالى التوكل عليه بأن خص المتوكلين بمحبته كما جاء في الآية الكريمة التاسعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران حيث يقول مخاطبا رسوله عليه الصلاة والسلام ومن خلاله مخاطبا كل المؤمنين إلى قيام الساعة : (( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ))، فهنا سبق ذكر التوكل ذكر العزم، وهو الثبات والشدة فيما تُعقد النية عليه كما جاء في بيت شعر ينسب للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ولهذا فالتردد مفسد للتوكل كما يفسد الرأي .
ولما كانت الحياة مشوبة بأنواع مختلفة من البلاء، فإن التوكل على الله تعالى في مواجهتها ،وتحمل ما تسببه من عنت ومشقة أمر مطلوب رغب فيه سبحانه وتعالى وجعل أجره محبة منه وهي غاية الغايات بالنسبة لكل مؤمن لأن من أحبه جل جلاله جعله من المقربين والأصفياء والأولياء .
ولقد قضى الله تعالى مع التوكل عليه الأخذ بالأسباب لأن تركها مما ينقض ويبطل التوكل. ولقد قرب منا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجب أن يكون التوكل على الله عز وجل فقال : « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا » فالطير غير العاقلة ليس لها من الأسباب إلا أن تغادر أعشاشها إذا أصبح الصباح ، فييسر لها الله تعالى قوتها اليومي، فتعود شبعانة بعد مخمصة . وأولى بالإنسان المؤمن وقد حباه الله تعالى بعقل أن يتوكل حق التوكل على خالقه سبحانه وتعالى في كل ما تتوق إليه نفسه لكن مع الأخذ بالأسباب التي هي من شروط التوكل الحق.
اللهم إنا نسألك يقينا تقوينا به على إدراك حق التوكل عليك ،وثبتنا اللهم عليه فأنت نعم المولى ونعم الوكيل .اللهم اغننا بفضلك عمن سولك ، ولا تخيب لنا رجاء فيك فأنت خير من يُرجى ويُأَّمل .
اللهم إنا نسألك ضارعين أن تكفي عبادك المرابطين بأرض الإسراء كيد الكائدين ومكر الماكرين، وانصرهم اللهم على من ظلمهم نصرا تعزهم به وتعز به دينك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ،وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.





Aucun commentaire