وضعية التعليم ببلادنا بين تفاؤل فوق المعقول وبين تشاؤم إلى حد العدمية

وضعية التعليم ببلادنا بين تفاؤل فوق المعقول وبين تشاؤم إلى حد العدمية
محمد شركي
جرت العادة أنه مع نهاية كل موسم دراسي، وإجراء الامتحانات ،يثار موضوع وضعية التعليم ببلادنا ، من طرف عدة جهات ، وعدة أفراد . وينقسم الخائضون في هذا الموضوع إلى متفائلين فوق المعقول ، ومتشائمين إلى حد العدمية .ويتقدم على رأس لائحة المتفائلين فوق المعقول كبار المسؤولين بالوزارة الوصية على قطاع التربية والتعليم الذين دأبوا على التصريح أمام عدسات وسائل الإعلام بما تختصره العبارة المعروفة شعبيا » بالعام زين » ،وهي عبارة مقتبسة من قاموس الفلاحين الذين يعبرون عن المحاصيل الجيدة .
ومعلوم أنه لم يحصل منذ استقلال بلادنا أن صرح وزير من الوزراء المتعاقبين على وزارة التربية ،وهم كُثْرٌ أو اعترفوا بفشلهم في تدبير الشأن التربوي ، أواستقالوا بسبب ذلك ، وإنما كانت دائما العبارة التي تلوكها ألسنتهم هي » العالم زين » التي يسوقونها بتفاؤل فوق المعقول للرأي العام الوطني دون اعتماد دراسات موضوعية ودقيقة تشخص الوضعية الحقيقية للتعليم ببلادنا. ومقابل ما يصرح به هؤلاء الوزراء ،والتابعون لهم من كبار المسؤولين بالوزارة مركزيا، وجهويا ، ومحليا بخصوص مخرجات المواسم الدراسية ، والحكم بوثوقية فوق اللازم من خلالها على نجاح المواسم الدراسية ، ومن ثم نجاح السياسة التعليمية ، تنبري فئة من المتشائمين إلى حد العدمية لدحض ما يصرحون به ، وما يدعونه من نجاح ، ويقدمون صورة قاتمة عن وضعية التعليم بالبلاد دون إقرار منهم بما يستوجب التنويه .
ومن أجل تقييم يتوخى الموضوعية في الحكم على وضعية التعليم ببلادنا مع الحياد ما أمكن احترازا من الإنجرار مع تفاؤل المتفائلين فوق حدود المعقول ، أو الميل مع المتشائمين التشاؤم القاتم إلى حد العدمية ، نقول ليس التعليم ببلادنا بدعا من أنماط التعليم ببلدان العالم الثالث التي يعتبر هو مؤشرا من مؤشرات تصنيفها العالمي إلى جانب مؤشر الصحة ، ومؤشر المعيشة. ويكفي أن يظل بلد حبيسا في دائرة تصنيف دول العالم الثالث ، ليكون ذلك دليلا على وضعية مؤشر التعليم فيه ، وربما قد يكون هذا المؤشر هو السبب الأول وراء تصنيفه عالميا . ولا يمكن أن يتحدث أحد بتفاؤل معقول، وليس فوق المعقول عن وضعية التعليم ببلادنا إلا إذا غادرنا فعليا مجموعة دول العالم الثالث، ولحقنا بمجموع الدول الرائدة ، وهي مغادرة ليست ممكنة إلا عن طريق ارتقاء مؤشر التعليم الذي به يتغير مؤشر الصحة ، ومؤشر المعيشة .
ولقد عرفت بلادنا منذ الاستقلال العديد من محطات إصلاح منظومتنا التربوية يطول الحديث عنها لو رمنا الخوض فيها إلا أن تعددها خلال سبعة عقود إلا سنة واحدة ، يدل قطعا على أن الإصلاح الحقيقي لا زال مطلبا بعيد المنال بالرغم من انتشارالمؤسسات التربوية عمومية وخصوصية عبر التراب الوطني ، وتعدد الجامعات، والكليات ، والمعاهد العليا ، وهذا الذي يتحدث عنه المسؤولون عن قطاع التعليم غالبا لتبرير مقولة » العام زين » مع أن بلادنا لا تراوح تصنيفها ضمن دول العالم الثالث ، الشيء الذي يعني أن البنيات التحتية وحدها ليست هي العامل الوحيد للنهوض بقطاع التعليم، بل هناك عوامل أخرى ، وعلى رأسها العامل البشري الذي لا تصلح المنظمة التربوية إلا بصلاحه .
فها نحن بعد مرور سبعة عقود على استقلال وطننا ،لا زلنا نسمع بفضائح الغش المدوية التي طالت حتى مؤسسات التعليم العالي من خلال بعض أطرها من عديمي الضمائر ، وقد كان الحديث عن الغش من قبل مقتصرا على الناشئة المتعلمة المراهقة، والتي تسوق سائل التواصل الاجتماعي سنويا مع حلول فترة الامتحانات يفاخر بعضهم بالعش وبالشطارة فيه ، وبوجوه كاشفة دون أن تتم متابعتهم على اعترافهم باقتراف هذه الجريمة النكراء في حق الوطن، ويكون ذلك عند بوابات المؤسسات التربوية بعد خروجهم من قاعات الامتحان ، وهم يدينون بشدة منع المراقبين محاولات الغش ، بل يتوعدونهم ، ويهددونهم لأنهم يحمون ويصونون سمعة الامتحانات من الابتذال ، والتي هي سمعة الوطن بين بلدان العالم .
ولعل ما يجب أن يثار قبل الخوض في ظاهرة الغش هو ظاهر الكسل والتراخي ، وغياب الجدية في التحصيل لدى الناشئة المتعلمة خلال المواسم الدراسية في المؤسسات التربوية العمومية ، والخصوصية على حد سواء ، ولا يحق لأحد أن يماري في طغيان هذه الظاهرة سنة بعد أخرى أمام عجز الوزارة عن التصدي لها قبل التصدي لظاهرة الغش المترتبة عنها أو التي هي من نتائجها المباشرة ، وأمام عجز الأسر وأولياء الأمور ، وكذا عجز المربين الذين صاروا عرضة للتهديد والاعتداء بكل أشكاله وأنواعه حين يتصدون لهذه الظاهرة التي تحول جل حصص الدراسة إلى عبث الناشئة المتعلمة عبثا يعرقل العملية التعليمية التعلمية . ولو عدنا إلى ما يحرر يوميا من تقارير خاصة بالمخالفات السلوكية المسجلة يوميا على هذه الناشئة لناءت بتخزينها الخزانات ، فكيف ستسير الدروس سيرها العادي والحالة هذه ؟ ومن أين لها بوقت يهدر معظمهم في عملية ضبط المربين للناشئة كي تنصرف إلى التحصيل بجدية عوض إظهار الشطارة في العبث ؟ إن الناشئة المتعلمة التي تقضي موسما دراسيا كاملا في هذا العبث ليس أمامها حين تحين فترات الامتحانات سوى الغش وسيلة يحول فشلها الدراسي الفاضح إلى نجاح مزيف، يدخل ضمن نسب النجاح التي تدلي بها الوزارة الوصية على قطاع التربية عبر وسائل الإعلام .
ولا يمكن أن ينكر أحد أن ظاهرة الكسل والتراخي في التحصيل الدراسي قد عمت وعم بلاؤها ، ولا يمكن إنكارها كما لا يمكن أن تغطى الشمس بغربال .
وقد يشير البعض إلى نسبة الناشئة الجادة في تحصيلها سواء في مؤسسات التعليم العمومي أو مؤسسات التعليم الخصوصي التي تكلف أولياء الأمور مبالغ معتبرة ،فضلا عن تكاليف دروس الدعم والتقوية طيلة المواسم الدراسية . والسؤال الذي يواجهنا عند التعرض لموضوع هذه الناشئة الجادة الموفقة في دراستها هو كم تساوي نسبتها في البلاد مقابل نسبة الناشئة المتراخية الكسولة الفاشلة في دراستها ؟
ويكفي أن نشير إلى نسبة التمدرس في الشعب العلمية مقابل التمدرس في غيرها من الشعب ليتضح لنا فشل منظومتنا التربوية بعد مرور سبعة عقود على استقلال البلاد ، وعلى إعلان مسلسل إصلاحات متتالية عرفتها هذه المنظومة .
إن بلادنا تحتاج إلى قلب هرم التوجيه المدرسي كي تصبح قاعدته توجيها نحو الشعب العلمية والتقنية ، وتكون قمته الشعب الأخرى خلافا لما ظل عليه الوضع منذ الاستقلال . وإن مخرجات الشعب غير العلمية حين تكون هي قاعدة الهرم عبارة عن هدر يصيب المنظومة التربوية، و عنه تترتب البطالة بين شريحة عريضة ،لا تجد لها مكانا في سوق الشغل ، فتصير عالة على أهلها ، وعلى المجتمع .
إن هذا التصور البعيد عن التفاؤل فوق المعقول الذي تعبر عنه الوزارة الوصية على الشأن التربوي بعد نهاية كل موسم دراسي ، والبعيد أيضا عن تشاؤم العدميين ، يقف وسطا بين هؤلاء وهؤلاء ، يثمن ما لا يمكن إنكاره مما هو إيجابي في منظومتنا التربوية، لكن دون السكوت أو غض الطرف عما هو سلبي إلى أن تتبوأ هذه المنظومة المعول عليها لنهضة حقيقية المكانة التي نرجوها لها بين أمم الأرض .
Aucun commentaire