العلاقة بالمعرفة » أنماط متعددة وإشكالات بنيوية »
بقلم هشام البوجدراوي
تجمع آراء العديد من الفاعلين التربويين، على أن فئة واسعة من التلاميذ والتلميذات المنحدرين من « هوامش المدن »، يفتقرون إلى تصورات واضحة بشأن مستقبلهم الدراسي. كما تغيب لديهم القناعة بجدوى المدارس، مما يعكس هشاشة العلاقة التي تربطهم بالمعرفة، وبالنجاح الدراسي، وبالمؤسسة التعليمية.
ويعزى هذا الوضع، في جزء كبير منه، إلى طبيعة المحتوى الدراسي، والذي غالبًا ما يكون غير ملائم لمستوى المتعلمين/ت، مما يفضي إلى ضعف اندماجهم في السياق التعليمي، وشعورهم بأن معارفهم ومواردهم لا تعتبر كافية، أو ذات قيمة، لتحقيق ذلك التفاعل البيداغوجي المطلوب داخل الفصول الدراسية. كما أن الفجوة اللغوية والثقافية، بين لغة التدريس ولغة التلميذ، « لاسيما بالنسبة للمواد العلمية والتقنية »، تُعيق التفاعل الصفي « فهما وتعبيرا »، فتتحول المعرفة إلى رأسمال ثقافي تمتلكها النخبة المحظوظة من تلاميذ الهامش الذي استطاعوا التغلب على عائق اللغة، وضعف المعارف السابقة، إما من خلال حصص الساعات الإضافة المؤدى عنها، أو عبر مجهوداتهم الشخصية وكذا مجهودات المسؤولين من الأساتذة، التي ساعدتهم على مجارات الإيقاعات المتسارعة للمدرسة العمومية.
وفي نفس السياق، يلاحظ الالتزام الصارم للمدرسين بالمقررات الدراسية، وتسلسلها الزمني. كما يُسجَّل أيضا ضعف في توفير آليات الدعم التربوي المؤسساتي الفعال، الأمر الذي يفرز نوعًا من « الحرمان المعرفي » المؤسس لاستمرارية الهشاشة المدرسية، ويحول دون بناء كفايات مدرسية منسجمة مع متطلبات البناء الديداكتيكي للمعارف والتفاعلات الصفية. وعليه، فإن تحقيق عدالة معرفية أضحى ضرورة ملحّة، تُعيد للمدرسة العمومية دورها كرافعة للترقي الاجتماعي، وتُقرّ بتعدد أنماط التعلم، وتُوفّر لتلميذ الهامش مساحات حقيقية للاندماج والنجاح المدرسي.
وانطلاقًا من المعطيات السالفة، التي تُبرز مظاهر التهميش المعرفي والتربوي داخل الفضاءات التعليمية بالمناطق الهشة، يمكن تعميق هذا التحليل من خلال الوقوف على أنماط العلاقة التي تربط التلاميذ بالمعرفة، باعتبارها مدخلًا لفهم تمثلاتهم للمدرسة، ولمسارهم الدراسي، وللوظائف الاجتماعية للمعرفة. وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين ثلاث أنماط رئيسة تكشف عن مدى تأثير السياقات الاجتماعية واللغوية والثقافية على علاقتهم بالمعرفة وتمثلاتهم حول التعليم والتعلم.
وتوصف العلاقة الأولى بالإيجابية، وهي من أقل الأنماط شيوعاً بين التلاميذ. يتسم المتعلمون الذين يُقيمون هذا النوع من العلاقة بتقديرهم العميق للمعرفة، وشغفهم بالتعلم والتحصيل الدراسي، وحرصهم على اختيار مسارات دراسية تتناسب مع ميولاتهم، قدراتهم، وتطلعاتهم المهنية. فهم ينظرون إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لتكوين الذات، وتحقيق التنمية الشخصية، وأداة للترقي الاجتماعي، مما يُعزز من فرص نجاحهم الدراسي.
يتميّز هؤلاء التلاميذ بسلوكات إيجابية داخل الفضاء المدرسي، مثل احترام الأساتذة، والمواظبة على الحضور، والمشاركة الفعّالة في أنشطة الحياة المدرسية. كما ينبع دافعهم للتعلم من رغبة داخلية في التمكن من المعارف وتحقيق مشروع مهني واضح ومحدد الأهداف.
وعادة ما يُفضل هؤلاء التلاميذ الالتحاق بالمؤسسات التعليمية الموجودة في مراكز المدن، حيث تكون البيئة التعليمية أكثر استقراراً، ويقل فيها مستوى التوتر، كما تُوفر أطرًا تربوية ذات خبرة وكفاءة. لكن في المقابل يتجنب تلاميذ هذا النمط الالتحاق بالمؤسسات الواقعة في المناطق الهامشية، رغم قربها من منازلهم، إذ غالبا ما تعاني من كثرة المشاكل المدرسية وتغيّر مستمر في طاقمها التربوي، مما قد يؤثر سلباً على جودة التعلمات. كما يُعرف عنهم أيضاً اختيارهم للشعب ذات الاستقطاب المحدود مثل شعبة العلوم الرياضية أو الشعب التقنية، نظراً لتفوقهم الدراسي، بالإضافة إلى ما تُوفره من ظروف تعليمية ملائمة، وأطر متمرسة، وبيئة دراسية تحفز التميز والنجاح.
وتمثل العلاقة الثانية نمطاً نفعياً في تمثل التلاميذ للمعرفة والمدرسة، وهي علاقة تُعزى إلى تأثيرات المنظومة التربوية التي تُركز بشكل كبير على المعدلات والرفع من المؤشرات الكمية، أكثر من اهتمامها بجودة التعلمات وتنمية الكفايات. وفي هذا السياق، ينظر التلميذ إلى المدرسة باعتبارها مجرد وسيلة للحصول على شهادة، دون تقدير حقيقي لقيمة المعرفة أو أهمية المحتوى الدراسي في بناء مشروعه الشخصي أو المهني أو الثقافي. ويتجلى هذا النمط في ضعف الدافعية نحو التعلم، وفي غياب الاهتمام الفعلي بالمعرفة والتحصيل، وسيادة شعور عارم بالرتابة والملل داخل الفصول الدراسية. ويقتصر الحافز الأساسي لدى هذه الفئة من التلاميذ على اجتياز الامتحانات والانتقال إلى المستويات الأعلى، ولو تطلب الأمر اللجوء إلى ممارسات تتنافى مع القيم التربوية، كالغش أو التوسل للأساتذة للحصول على نقط إضافية. كما تتميز هذه الفئة من التلاميذ باعتمادهم الكبير على أساليب التلقين والحفظ الآلي، مع التركيز على التدرب على أنماط الامتحانات التي تتكرر كل سنة، بدل السعي إلى الفهم، أو بناء التعلم، أو تملّك مهارات التفكير العليا. وغالباً ما يختزل هؤلاء التلاميذ مفهوم النجاح في الحصول على « شهادة البكالوريا »، دون وعي بدور التعلم في تنمية الكفايات الضرورية للاندماج الاجتماعي. هذا ما يجعل من هذه العلاقة عائقاً حقيقياً أمام التمكّن الفعلي من الكفايات المدرسية.
أما النمط الثالث، فيُعرف بالعلاقة المنقطعة عن المعرفة، ويُعد من أكثر الأنماط انتشاراً في سلك التعليم الثانوي، خصوصاً في المناطق الهامشية. ويُجسد هذا النمط حالة من الانفصال العميق عن الفعل التعليمي، تعكسه اختلالات بنيوية في المنظومة التربوية، وتُترجم في شكل اغتراب شبه كلي عن المعرفة المدرسية. فبالنسبة لفئة واسعة من التلاميذ، خصوصاً المنحدرين من بيئات اجتماعية هشّة، تُعد المعرفة أمراً غامضاً وبعيد المنال، ويصعب الوصول إليه بسبب ضعف كبير في التمكن من لغة التدريس، وفقر في الكفايات الأساس منذ المراحل التعليمية الأولى.
هؤلاء التلاميذ يعانون من تدنٍ مستمر في الأداء الدراسي، وفقدان الثقة في الذات وفي إمكانية التحسن، ما يولّد لديهم شعوراً بالعجز. وتتحول المدرسة، في نظرهم، من فضاء لبناء المعارف إلى مجرد مكان للهرب من واقع اجتماعي صعب، تتداخل فيه مظاهر الفقر، والتفكك الأسري، والعنف، وغياب التأطير التربوي، القيمي والتعليمي داخل الأسرة.
ويُلاحظ على هذه الفئة سلوكيات مثل كثرة الغياب، التأخر عن الحصص، العنف، تخريب الممتلكات العمومية، الانعزال في الزوايا المظلمة بالمؤسسة، وافتعال بعض مظاهر الشغب، وهي كلها مؤشرات على غياب الاندماج المدرسي. بالإضافة إلى أن تواجد مؤسساتهم التعليمية في مناطق تعرف هشاشة سوسيو-اقتصادية، يجعل من الصعب على الأطر التربوية الحديثة العهد بالمهنة التعامل الفعّال مع هذه الإشكالات، خاصة في ظل غياب تكوين متخصص يؤهلهم للتعامل مع هذا النوع من التحديات التربوية.
ويثير التفكير في السبل الكفيلة بدعم ومعالجة هذه العلاقة السلبية مع المعرفة تساؤلات جوهرية حول نجاعة بعض الإجراءات المدرسية كالدعم التربوي خلال فترات متقطعة من السنة الدراسية أو اعتماد بيداغوجيات تبسيط المعارف أو اللجوء إلى تكرار السنة أو الفصل. ففي الوقت الذي يعتبر فيه البعض هذه الإجراءات وسيلة تربوية تمنح التلاميذ فرصة جديدة لتدارك تعثراتهم، يراه آخرون آلية عقابية أو مضيعة للوقت خصوصا بالنسبة لسلك التعليم الثانوي إذ تُساهم في هدر الزمن المدرسي وتسهم كذلك في الرفع من معدلات الفشل الدراسي، خاصة عندما يكون التأخر الدراسي نتيجة لعوامل بنيوية ممتدة في الزمن، لا يمكن معالجتها بفترات قصيرة ومتقطعة من الدعم التربوي أو من خلال نهج آليات تكرس الانقطاع والتسرب والهدر المدرسي.
إن بناء علاقة إيجابية ومستدامة بين التلميذ والمعرفة، يستدعي مراجعة شاملة للمنهاج الدراسي، تُراعي خصوصيات المتعلمين ومستوياتهم الدراسية الحقيقية، وتعمل على مواءمة طبيعة المعارف المقدمة مع حاجاتهم النمائية والمعرفية في مختلف المراحل التعليمية وكذا مواءمتها مع متطلبات سوق الشغل. وينبغي أن تنطلق هذه الإصلاحات من السنوات الأولى للتمدرس، من خلال مواكبة مستمرة للمسار الدراسي للتلميذ، واستثمار نتائج التقويم التربوي بشكل آني وفعّال لبرمجة حصص دعم موجهة وناجعة، تُسهم في معالجة الصعوبات التعلمية في الوقت المناسب.
وبالنسبة للتلاميذ الذين يواجهون تعثرات في التعلم، فمن الضروري اعتماد برامج تعليمية مرنة، تُراعي الفروق الفردية وإيقاعات التعلم الخاصة بهم، كما يُستحسن توسيع فرص الدعم التربوي خارج الزمن المدرسي الاعتيادي، من خلال تنظيم أنشطة دعم خلال العطل البينية والعطل الصيفية، تُشرف عليها مؤسسات تعليمية أو جمعيات متخصصة في المجال التربوي معتمدة من وزارة التربية الوطنية.
أما التلاميذ الذين يعانون من تعثرات عميقة، فيُستحسن توجيههم نحو مسارات بديلة ذات طابع مهني، مثل « مسالك البكالوريا المهنية » ومؤسسات التكوين المهني، مع الحرص على إصلاح برامجها وتكييف مضامينها لتشمل برامج تكوين مهني تتسم بالواقعية والنجاعة، تُخفف من الطابع النظري الكثيف، وتُركز على حصص تطبيقية لا تتطلب موارد معرفية متقدمة، مما يُمكن هؤلاء التلاميذ من إعادة بناء علاقتهم بالمعرفة بشكل عملي وملموس.
وعلى مستوى السياسات التعليمية، فإن تطوير المناهج الدراسية لتكون أكثر تنوعاً وشمولاً يُعدّ خياراً استراتيجياً، يُسهم في تحقيق مبدأ الإنصاف وتكافؤ الفرص، ويضمن الاستجابة لمختلف حاجات المتعلمين. كما أن مراجعة نظام الشهادات الدراسية والامتحانات الاشهادية بات أمراً ملحاً، حتى يُصبح أكثر إنصافا للأصحاب التعثرات العميقة، ويُعبّر فعلياً عن تنوع المسارات التعليمية والمهنية الممكنة والمتاحة.
في ختام هذا الموضوع، يظل من المشروع طرح عدد من التساؤلات الجوهرية التي تُلامس صميم التحديات الآنية التي تواجه المدرسة المغربية، خصوصاً في السياقات المدرسية الهشة.
هل يُمكن اعتبار مشروع « المدارس الرائدة » مدخلاً فعّالاً لبناء علاقات إيجابية بين التلميذ والمعرفة في المناطق المهمشة؟ لا سيما وأن هذا النموذج يرتكز على آليات داعمة كفترات « طال » للدعم التربوي، واعتماد بيداغوجيا التعليم الصريح، التي تهدف إلى ضمان الفهم التدريجي والواضح للمعارف الأساسية.
ما مدى قدرة هذه المدارس على الحد من التعثرات العميقة التي تُعاني منها فئات واسعة من التلاميذ، خاصة أولئك الذين يعيشون في أوضاع اجتماعية معقدة؟
ما الأسباب وراء ضعف الدافعية نحو التعلم؟ هل هو ناتج فقط عن تدني المستوى الدراسي، أم أن هناك عوامل نفسية واجتماعية وثقافية تلعب دوراً أساسياً في تشكيل هذا الضعف؟ ثم إلى أي حد تُعزى إشكالات المستوى إلى طبيعة المؤسسة التعليمية نفسها، وإلى أي مدى تُسهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحيطة في تفاقم الوضع؟
وأمام هذه الإكراهات والتساؤلات، تبرز الحاجة إلى التفكير في حلول شمولية تتجاوز المقاربات التربوية وحدها، لتشمل أيضاً السياسات الاجتماعية والاقتصادية الرامية إلى تحسين ظروف العيش في المناطق الهامشية. فإصلاح المدرسة لا يمكن أن يكون معزولاً عن إصلاح البيئة التي تشتغل فيها، ما يستدعي تنسيقاً بين مختلف المتدخلين من قطاعات حكومية ومجتمع مدني من أجل بناء مدرسة دامجة، عادلة، ومحفزة نحو تحقيق تطلعات الممدرسين/ت وأسرهم.
بقلم هشام البوجدراوي
Aucun commentaire