Home»Femme»ظاهرة العنف: محاولة للفهم

ظاهرة العنف: محاولة للفهم

2
Shares
PinterestGoogle+

كمال الدين رحموني

إنّ مركزية الإنسان في الأرض تترتب عليها جملة من الظواهر والأفعال، وهذه المركزية تتعرَّض لاختبار المعيار الذي يتمثل في طبيعة الاستجابة بين القبول والتماهي، والرفض والتمرُّد، وحين ينسجم الوعيُ البشريُّ مع مُراد الله الخالق يعني ذلك انتفاءَ العنف وحضور السِّلم. وحين تغيبُ هذه المعادلة أو تختلُّ، فثمَّتَ الظواهرُ غيرُ السويَّةِ في علاقة الإنسان بمحيطه الكونيِّ والبشريِّ والبيئيِّ، ومنها ظاهرة العنف. ثم إن هذه المعادلة المتوازنة لا تحابي إنسانا باعتبار الانتماء للدين أو العرق أو العصبية أو الوطن، إنما هي معادلة لتحقيق التوازن المطلوب بين مطلق الإنسان وقيمه الذاتية والمعنوية مع نفسه ومع غيره. من هذا المنطلق نقارب موضوع العنف، من حيثُ المنشأُ مع عنف ابن آدم الأول. إن استعراض قصص الأولين من بني البشر في القرآن الكريم، له مقاصد ومَرامٍ، ولعل من أهمها لفْتُ النظر والاعتبار، ولذلك عرض النصُّ القرآنيُّ قصة أول حدث عنف في تاريخ البشرية في سورة « المائدة » حين سرد حوارا بين أخويْن: « قابيل » و »هابيل »، في لحظة حِجاج حول سبب قبول القُربى من أحدهم دون الآخر في قوله تعالى: « وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »، مع أنّ مصدر الخلاف لا يعود لمن تُقُبِّلَ منه، فهو ليس طرفا موجبا للاعتداء، ومع ذلك تعرّض لعنف بشع مسبوق بعنفٍ لفظيٍّ، ما فتئ أن تطوَّر ليغدوَ عنفاً جسديّاً سوَّلت نفسُ المعتدي له أن يبلُغَ أقصى درجات العنف بإهدار دم أخيه،  » فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين »، والخسرانُ هنا، ذو أثَريْن: أحدُهما خسرانُ الآخرة، لكنْ، من معاني الخسران -في نظري أيضا- حالة الاضطراب النفسيِّ التي تعتري كلَّ مُعَنِّفٍ قاتلٍ تَصوَّر في لحظة القوة أنه صاحب الحق المطلق في ممارسة العنف في أبشع صوره، فصَرَّف مكنوناته في تصرفات عُنفيّة. كما أنّ الإشارةَ المهمةَ المستوحاةَ من إحجام أحدهما عن مبادلة العنف بمثله، في قوله:  » لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ « ، هو الرادعُ المتوجِّهُ إلى النفس الجموح، ومن ثَمَّ استدعاء مقام الخوف من الخالق وسيلةً من وسائل التعاطي المحذور مع الآخرين. إنهما صورتان متناقضتان: صورة السِّلم في مقابل العنف. ومما يُثار هنا-أيضا- أن جريرة [إثم] هذا العنف الأول تتجدّد وتتكرر في كل عصر، حين يفقد الإنسان هذه الهدى، وفي ذلك إيحاءٌ نبويٌّ كريم إلى الواقعة العُنفيَّة الأولى وآثارِها الوخيمةِ على رحلة الحياة البشرية المستمرة وآثارها على مصير الآخرة، وذلك في الحديث الصحيح: »  لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إلَّا كانَ علَى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ -نصيب- مِن دَمِها، لأنَّهُ كانَ أوَّلَ مَن سَنَّ القَتْلَ. » مسلم. وتحميلُ المسؤولية لابن آدمَ الأولِ، لا يعنى التملُّصَّ من مسؤولية الفرد الذاتية الآنية في ممارسة العنف أيّاً كان نوعه، إنما الإخبارُ النبويُّ يتضمن تحذيرا وتخويفا باعتبار الإنسانِ المكلَّفِ مسؤولا عن أفعاله، ولذلك كانت التوجيهُ الشَّرعيُّ بسلوك التعاطي بالتي هي أحسن مع المخالف، في قوله تعالى: « وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ  » فصلت 34، والعداوةُ سَقْفُ الخلاف بعدما يـَحْتَدُّ ويشتدُّ، والدَّفْعُ بالتي هي أحسن نقيضُ الدَّفع بالتي هي أسوأ، أي العنف بمفهوم العصر، ولذلك كان الحَثُّ النَّبويُّ بنبذ العنف في التعامل مع الغير، كما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها- الذي رواه مسلم: أَنّ النبيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ ». بل حتى في معاملة المخالفين في العقيدة أو الفكرة، جاء التحذير من العنف سبيلا في التواصل، فحين حَوَّرَ اليهودُ تحيَّةً بغير مضمونها بقولهم:  » السَّامُ عَلَيْكَ  » غضبت عائشة، فرَدَّت عليهم بقولها، » السَّامُ علَيْكُم، ولَعَنَكُمُ اللَّهُ وغَضِبَ علَيْكُم، » فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَهْلًا يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ .. » البخاري، والعنفُ أعمُّ والفحشُ أخصُّ، باعتباره أسلوبا من أساليب العنفِ اللفظيِّ. وفي حالات أخرى جسّد النبيُّ الكريمُ سلوكَ السِّلم في مواجهة السلوك العنيف، في دعوته لأهل الطائف الذي توسَّلوا ِ الجسديِّ والمعنويِّ حين رَموْه بالحجارة وسلَّطوا عليه صبيانهم وسفهاءهم، فكانت الفرصةُ أمامه مواتيةً لمبادلة العنف بأقسى منه، حين جاء جبريل يعرض إطباق الجبلين عليهم، فقال: » بلْ أرجو أنْ يُخرجَ اللهُ من أصلابهم مَنْ يعبدُ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا ». وهذا درس بليغ لمن تَوهّم -في خضم الجهل بالمنهج السليم في التواصل مع المخالف- وظنَّ أنه يمكن « تصدير » الدّين بأساليبَ ترسّخُ فهما عليلا، وتوهِمُ بكونه ديناً يقوم على العنف والإكراه، بل، إنَّ كلَّ فِعْلٍ يتَّخذُ العنفَ سبيلا، فالدّينُ نفسُه حُجةٌ عليه، فلا النصوصُ الشرعيةُ تُسْعِفُه، ولا السُّلوكُ النبويُّ يؤيده، ولا مَقاصدُ الشريعة تُناصره. وحينما ننزل إلى مستوى المعرفة البشرية التي تتسم بالنسبية، تتعدد التعريفات بحسب الثقافة، ولا يخرج تعريف العنف عن هذه الخاصية، ومن هذه التعريفات  » أنَّ العنفَ سلوكٌ قصديٌّ مرتبطٌ بهدف ما ». وقد يتعب كثير من الناس -اليوم- للوقوف على دواعي العنف، والتنديد به، وفي ذلك إحساسٌ عميق بالبحث عن شيء هو أصل الداء في الاجتماع البشري، وإذا كان في السؤال إشكال، فإن الجوابُ عنه إشكالٌ في حد ذاته، لأنه لا يرسو على حقيقة مطلقة، ومع ذلك فإنَّ مصدَره تختزله طبيعةُ الوعي البشريِّ بالإحساس بالآخر المؤتلِف أو المختلِف، وهنا يمكن استحضار الإطارِ التَّصوريِّ الذي يتخندق وراءه الفهم البشريُّ، وعلى أساس هذا التصور يمكن تحديد بعض دواعي العنف، ولذلك تعدَّدت نظرياتُ الفكر البشريِّ بين اعتبار العنف  » إفرازا لصراع بين طبقات معينة، وبالخصوص بين مالك الثروة ومن يملك الوسائل » وتلك النظرة الماركسية، وهناك رؤية أخرى للفيلسوف الإنجليزي المتماهي مع حق الملكية المطلقة « توماس هوبز، التي تحدد أسباب العنف في مصادرَ ثلاثةٍ:  » الأول: التنافُس، حيث يتّخذون من العُنف وسيلة للوصول إلى منافعهم ومصالحهم، والثاني: هو الحَذَر، والذي يُمثّل سبيلاً لإدراك الأمن، أما الثالث: الكبرياء، حيث يَميلون إلى العُنفِ من أجل سمعتهم »، وهناك أطروحة المهاتما غاندي  » التي تختصر مصادر العنف في مخرجات الكائن البشري من فكر أم فعل أو قول بغرض إلحاق الضرر بالآخرين »، وكلُّ هذه التحديدات البشرية وغيرُها، لا تنفكّ عن تصور معين يختصر طبيعة الفهم لحقيقة الإنسان وطبيعته وسِرِّ وجوده ومآله، وحين تغيب هذه الثوابت المعرفية، يبقى الإنسان أسيرا حائرا أما ظواهر من إنتاج إنسان الحضارة المعاصرة، ومنها ظاهرة العنف متعدّد الطبيعة، بين اللفظي من كلام خشن جارح مصحوب بتهديد ووعيد، وقد يصير إيحائيًّا إشاريًّا تُترجمه حالاتُ التَّعيير والتَّنقيص والاستهزاء، من قبيل الهمْز واللَّمْز المُهَدَّدِ صاحبُهما بقوله تعالى: » وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ « . وقد يتطوَّر العنفُ فيصبح تعبيراتٍ جسديةً فعلية، كالعقاب البدنيِّ من الضرب أو التقييد أو السجن، أو الحرمان من الطعام والماء، أو القتل،…أو أعمال أخرى من « مبتكرات » العصر الحديث، من قبيل العنف الجنسيِّ الذي يتعرض له القاصرون، وقد يتخذ العنف بعدا نفسيا أو ما يُعرَّف أيضا بالإيذاء العاطفيِّ، بدافع الإهانة والتضييق، وكثيرا ما يحدث هذا النوع بين الزوجين. وللعنف مصدران موضوعيان، أحدهما غريزيٌّ لكون الكائن البشريِّ يتَّسم بسجايا وطبائع من خير أو شر، بل من العلماء « من يعتبر السلوكَ الغريزيَّ كلَّ سلوك ينبع من الإنسان ولا يحتاج إلى اكتساب أو خبرة »، فيُخْلي مسؤولية الإنسان من صدور العنف، وهذا تعميمٌ يحتاج إلى تمعُّن، ذلك أنَّ العنفَ البشريَّ -إلى جانب كون بعضه غريزيًّا-، فقد يأتي نتيجةً لعواملَ معيَّنةٍ صاحبت الكائنَ البشريَّ في رحلة الحياة، بعدما أصبح يدرك الأشياء بمسمَّياتها ويعيش لحظاتِها القاسيةَ، كتعرُّضه لممارسات عُنفيَّةٍ في مراحل عمره الأولى، أو إيذائه بشتى أنواع التعذيب حين أصبح راشدا، ومن ثَمّ يغذو العنف فعلا مكتَسبا بغير إرادة، يدعو إلى العلاج وليس الاكتفاء بتحميل التبعات أو إصدار أحكام القيمة. وقد يتساءل بعض الناس عن « فوائد » العنف، وربما يُتَصَوَّرُ منها شيئا ومن أهمها أن سلوك العنف يعرّي طبيعة مصدره، فإن كان بشريا فيصبح -ساعتها- مدعاة للتعاطف والعلاج، وإن كان مصدره مؤسسات أو هيئات أو أجهزة، غذت مدعاة للنقد السلميِّ، عبر عرائض الاحتجاج والاقتراح والتنبيه إلى عواقب التغاضي والإهمال. ومن البديهيّ أن العنف لا مبرر له ولا مشروعية، اللهمَّ إلا إذا كان اعتماد المشروعية باعتبارها شكلا من أشكال التقويم والتزكية والتصحيح، بشرط أنَ لا يغدوَ العنف إمعانا في الأذى، فكم هي الوقائع العُنفيَّة التي تروم التقويم، لكنها تنقلب إلى عقاب جسديٍّ مُؤْذٍ، كعقاب الأبوين للأبناء في لحظة الغضب، واستعمال أدوات الضرب التي تترك آثارا في الجسد، ولذلك حتى الضرب المشروع في مجال تدريب الطفل على الصلاة، مسبوقٌ بتحديد سنٍّ معينة تسبقه المصاحبة الوالديّة قبل اللجوء إلى الضرب غير المُبْرِح، وهنا نستحضر حديث النبي صلى عليه وسلم:  » مُروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، وفرّقوا بينهم في المضاجع. » أحمد وأبو داود. لكنْ، حين نستحضر المشروعيةَ على أساس تصور الإنسان وحده يصبح الضرب التربويُّ بهذا المعنى عنفا مُسلَّطا على الطفل، ومما أستحضره منذ سنوات أن أحدهم استغرب من تدريس القرآن الكريم الذي تنطق بعض سوره بخطاب « العنف » وكان الاستشهاد بسورة « الهمزة » التي تتوعّد خواتمُها كلَّ مستكبر بالمال ليجعله سبيلا للتنقيص والتعيير، تتوعده بقوله تعالى: » نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُوصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ  « ، فكانت الدعوى قائمة على عدم استساغة تحفيظ آيات تتحدث عن النار الموقَدة لأطفال صغار. وهنا يمكن القول: إن اعتماد العنف للتقويم السليم لتصحيح بعض السلوكات غير السوية، يرتقي إلى مقام الاستحباب، متى ظل التوظيف متوازنا،  » فلا ضَرَرَ ولا ضِرارَ ». واللافت هنا، أنه بالرغم من إتعاب الإنسان نفسه، من خلال تشريع قوانين للحد من العنف، فإن الظاهرة لا زالت تستفحل في المجتمع، والسبب الرئيس -في نظري- غياب الإرادة الإنسانية ثم السياسية أمام سيادة مصالح الأقوى، ولذلك كم هي القوانين الملزمة والتوصيات الأممية التي ظلت حبرا على ورق، وكم هي التشريعات المدبَّجَةُ في مجال محاربة العنف، لكن المشرّعَ لهذه القوانين هو أول من يمارس العنف حين ينبري الناسُ للمطالبة بالكرامة والحقّ في العيش الكريم، وما أكثر مشاهد هذه الازدواجية في واقعنا المحليِّ والإقليميِّ والدوليِّ.

برنامج مع الأسرة: موضوع: العنف ضد المرأة قناة السادسة
الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=5QNCMAv75h4

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *