Home»National»الورق الأزرق

الورق الأزرق

0
Shares
PinterestGoogle+

محمد شحلال

لن أبالغ إذا بحت بأن أول أشكال الورق التي عرفناها بالبادية ونحن دون سن التمدرس،هما الغلافان اللذان كانا يخفيان بياض قوالب السكر الناصع.
كان الغلاف الأول أزرق مختوما بطابع،،النمر،،الذي يضمن جودة المنتوج،وتحته غلاف أبيض رقيق يتماهى مع بياض السكر.
كان علينا أن ننتظر انطلاق رحلة التمدرس لننعم بملامسة جنس جديد من الورق تعددت مسمياته بين ،،الكناش والدفتر و،،الكارني،،!
كان الدفتر مميزا بصورة المغفور له الملك محمد الخامس-رحمه الله-وهو يتزين بالجلباب ويعتمر طربوشه الوطني الذي غدا ،،لوكا مغربيا خالصا.
لعل جيل بداية الستينات من القرن الماضي،يستحضر رائحة ورق الدفاتر التي كانت تشد إليها اهتمام المتعلم،وربما شكلت حافزا قويا له على مواصلة تجربة التعلم.
كان الدفتر بورقه الجذاب لا يسمح بالكتابة فيه إلا بواسطة الريشة المخصصة للغة الفرنسية ونظيرتها التي لا تكتب بها إلا العربية بعد تمثل طقوس الكتابة التي كانت في الواقع فنا قائما بذاته،قبل أن يستباح مجال الخط الذي ضعف فيه الطالب والمطلوب.
وإذا انفردت المدرسة بأدواتها الديداكتيكية المتعددة،فإن فقهاء الكتاتيب القرآنية،كانت لهم كذلك عدتهم التي لا تقبل النسخ.
أعود للسادة الفقهاء حاملي كتاب الله وأنا بمسقط الرأس،حيث عايشت مساعي أحد الفقهاء لإنقاذ امرأة حديثة العهد بالزواج من وعكة حادة ألمت بها.
كنت طفلا يومئذ،لكن أخبار الجيران كانت تتوزع بانسيابية كبيرة،لا سيما وأن الأهالي كانوا حريصين على زرع ما انتهى إليهم من ثقافة محلية في أذهان الناشئة.
كان الفقهاء يقتنون الدفاتر،ثم يحولون ورقها إلى قطع يتفاوت حجمها بتفاوت حجم الطلاسم التي يهندسونها لكل حالة،وإن كان بعضهم يكتفي بتقطيع غلافي قالب السكر لأجل ذات الغاية.
وللأمانة،فإن بعض هؤلاء الفقهاء،كانوا يكتبون رقياهم في الأواني الخزفية،ثم يكلفون أهل المريض بمحوها بقليل من الماء ثم مناولة المريض هذا المحلول ليفعل فعلته في الألم.
أجزم بأن كثيرا من المرضى كانوا يميلون إلى هذا النوع من الوصفات التي خبرت نكهتها ذات زمان وكان لمادة،،السمق/الصمغ دور في طيب مذاقها،مما جعل عبارة تنتقل على الألسن كلما تعافى مريض،حيث تسمع أهلنا البسطاء يقولون :(ورذناس ثيرا)بمعنى أن المريض قد تجرع الرقية.
حضرت عرس المرأة التي عاجلها المرض وهي لم تنه شهرها الثاني، وقد استقدمت من ،،دوار،،بعيد لاجتماع العديد من المحاسن فيها بشهادة النساء.
كان بين الراقصين يوم العرس من الرجال، أشخاص يمثلون النخبة،لذلك استدعوا لإرضاء أهل العروس غير المحظوظة.
لم تمر إلا أيام معدودة حتى انتشرت بين الأهالي عبارة غريبة عن إدراكنا نحن-معشر الصغار-حيث كانوا يرددون : (ثاسليث ثتوث)،
وهو ما يعبر عنه بالعامية (العروس اتقاست)!
لم يكن للتطبيب الحديث ذكر في البلدة يومئذ،وإنما كان الفقيه هو المستفرد بالترياق الذي يعالج كل الحالات المرضية،لذلك جربت كل أنواع الطلاسم بما فيها الذائبة في الماء والمكتوبة على الجبين،لكن الألم استعصى وكان لا بد من خدمة فقيه يشتهر بقدرته على ،،قراءة الطالع،،فلما حضر الرجل،وعاين حالة المريضة،أعاد أوراقه البيضاء إلى جيبه وطالب بالورق الأزرق !
لم يكن هناك ورق بهذه المواصفة إلا الغلاف الخارجي لقالب السكر الذي بادر الفقيه إلى تجزيئه،ثم شرع يدبج خطوطا لا يفهمها غيره،وهو لا يخفي عدم ارتياحه .
في صباح اليوم الموالي،بلغ إلى أسماع الجميع،بأن حالة المريضة ميؤوس منها والدليل على ذلك هو قرار الفقيه باللجوء إلى الورق الأزرق،الذي يعني في ثقافة الأهالي،شؤما ونهاية غير سعيدة للمريض .
لست أدري ما السند الذي الذي بنى عليه أهالينا هذه القناعة،لكن المريضة التحقت بالرفيق الأعلى يوما بعد انكشاف خبر الورق الأزرق !
مارس الفقهاء سلطتهم المعنوية على مر عقود طويلة ،مقابل أتعاب بسيطة كانت في الغالب عينية،وتشاء الأقدار أن يعرف مجال الطب الحديث ثورة غير مسبوقة،لكنه ما لبث أن تحول على يد البعض إلى تجارة نافقة ليس أقلها إجراء التحاليل لأبسط ألم ،مما دفع شريحة كبيرة من المواطنين إلى استخدام أساليب الأجداد في التداوي،وهكذا تجد محلات بائعي الأعشاب تعرف توسعا خاصة في الحواضر الكبرى،حيث يفترض أن يتخلى الانسان المعاصر عن ،،مظاهر التخلف،،لكن المغربي لا تعوزه البدائل كلما ضاقت به السبل.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *