محمد بوجمعة: تاريخ وذاكرة -3- مسجد مولاي يوسف

أحمد الجبلي / وجدة سيتي
كانت أرضا قاحلة، تنبت فيها الطحالب ونبات الحريف، وكانت تملأها أكوام من حجارة « الصم »، فكانت عبارة عن ممر كنا نختصر به المرور إلى « رحى الطبول » أو « فران لوطاطي » من الجهة الأخرى.
صار مسجدا بفضل صاحب الأرض الحاج الهوار أو الحاج المختار « الحاج الخطار » كما كان يسميه أبناء الحي، قد جلب له إماما قليل الكلام هو السي عبد الله الرجل ذا الهيبة والنظرة الجدية الثاقبة، لم يكن أحد يتجرأ على السي عبد الله ذي الصوت الجهوري الغليظ الذي كان أصلح لقراءة القرآن وكأن الله تعالى خلقه خصيصا لهذه الوظيفة الهامة.
لقد مر من هنا شيوخ أجلاء علمونا جزءا من الدين، كالحاج المختار الرجل الذي كنا قبل المغرب نراه قادما من جهة مدرسة أبي يوسف الكندي، كان يعلمنا قصص الأنبياء، ومنها تحديدا قصة سيدنا يوسف عليه السلام، كان الشيخ المختار رجل نكتة ودعابة، يمزج درسه بالمستملحات مخافة السآمة علينا فيشدنا بها شدا، عندما وقف عند وقول الله تعالى على لسان يوسف: (أشكو بثي إلى الله) حكى لنا عن تجار كانوا يسكنون في منزل، وكانوا يأكلون فيه ما لذ وطاب، وخوفا من الفضوليين، وحتى لا ينغص أحدهم عليهم ما هم فيه، اتفقوا على كلمة السر، فإذا طرق أحدهم الباب يقول من بالداخل: » أشكو » ويرد عليه الطارق بقوله: « بثي » فيفتح له الباب، وحدث أن أحس فضولي بأن في هذا البيت أكلا كثيرا، فحاول أن يتجسس ويتلصص لعله يعرف طريقة للدخول ويحفظ كلمة السر، فطرق الباب فقال من بالداخل كعادته: « أشكو » فرد عليه الطفيلي بقوله: بَثْبَثْ »، فانفجرنا ضحكا وزاد انتباهنا للدرس أكثر.
أما الحاج لحسن رحمه الله الشيخ ذو البشرة السمراء، فقد كان بالإضافة إلى درسه الأسبوعي يلقي درسا رسميا قبل أذان الجمعة، وبالتناوب غير المبرمج ألقى مشايخ أجلاء دروسا في الفقه والسيرة والتفسير منهم الحاج كويس رحمه الله والذي كان خطيب الجمعة لمدة طويلة، ومنهم الحاج التطواني الذي ارتأى أحيانا أن يكون درسه مباشرة بعد الفجر، كما حاضر في هذا المسجد العديد من رجال التبليغ الذين كانوا يأتون من باكستان والهند.
فشباب الحومة الذين كانوا يكبروننا سنا، كانوا أكثر فهما للسنة النبوية فيما يخص فقه الصلاة، ولكن تشددهم أدخلهم في صراع مع الشيوخ والمشايخ، فكان أحدهم إذا صلى فتح رجليه حتى يكاد يسقط، وهو يريد بذلك أن تلتقي قدمه بأقدام جيرانه تطبيقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سجد امتد على طوله حتى يكاد ينام، وكانت تجمعاتهم بعد صلاة العشاء مثيرة، إذ يظلون مجتمعين أحيانا لساعات وكأنهم يعقدون محاضرات بالوقوف، كانوا حريصين على صلاة الصبح مع الجماعة في المسجد، وكل واحد منهم إلا وكان حريصا على أن يصلي أربعين فجرا في جماعة فهما منه بأن الذي يفعل ذلك لن يترك الصلاة ما بقي حيا. وفي كل صبيحة أحد ومباشرة بعد صلاة الصبح كانوا يلعبون الكرة بطقوس عجيبة، كأن يبدأ أحدهم بتذكيرهم بأن لعب الكرة ما هو إلا وسيلة ندرب بها هذا الجسد كي يقوى على طاعة الله، واللعب يجب أن يتم بدون تعصب أو عنف، وكل لاعب هو حكم على نفسه، أي إذا أحدث مخالفة عليه أن يقف ويعلن عنها بكل صدق وأمانة.
أما عن شهر رمضان، فكان في هذا المسجد متميزا، فصلاة التراويح لم تستهوينا بقدر ما استهوانا اللعب في آخر المسجد، وحتى عندما كنا نعقد العزم على أداء الصلاة يأتي من الخلف من يجرك جرا، فينقلب الجميع إلى الضحك دون توقف مما كان يزعج الكبار.
ولكن ما أعجبنا أكثر هو ذاك الدعاء العجيب الذي كان يختتم به المصلون صلاة التراويح، والذي أصبح الآن رابطا ذهنيا كلما سمعناه إلا ورجعنا بالذاكرة إلى ذاك المسجد وتلكم الصلاة والأجواء.
إن مسجد مولاي يوسف، في بدايته، كان مقسما إلى قسمين، قاعة خاصة بالصلاة، وباحة واسعة عن يمينه مزلجة بزليج بلدي عبارة عن معينات حمراء وصفراء، يفصل بينهما باب خشبي ذو دفتين، يؤدي إلى الباحة وفي نفس الوقت يؤدي إلى مكان الوضوء. فكانت هذه الباحة مشرعة على باب خارجي كبير، وقد كانت تفرش احتياطا في صلاة الجمعة حيث يكثر عدد المصلين.
إلا أن القيمين على المسجد ارتأوا بعد سنوات أن يضيفوا هذه الباحة إلى المسجد حتى يصير مسجدا واحدا من أرضية واحدة هي بالضبط ما هو عليه لحد الآن. ثم بعد سنوات أعادوا تزيين سقفه بالألواح المزركشة، وتبليط أعمدته بالفسيفساء الأزرق، مما جعله يختلف جذريا على ما كان عليه بادئ الأمر.
ومهما تحدثنا عن التحولات العمرانية التي عرفها مسجد مولاي يوسف، فإنه قد لعب دورا كبيرا في ربط أبناء الحومة بالصلاة والدين، وهذا الأثر لازال ماثلا إلى الآن حيث لم يوجد عبر التاريخ أي واحد من أبناء الحي قد تبنى الماركسية أو الإلحاد، مع العلم أن في هذا الوقت كانت الساحة تعج بمثل هؤلاء إلى درجة أن الماركسيين كانوا أشد تأثيرا على التلاميذ من خلال تدريسهم لمادة الفلسفة واللغة العربية بل وحتى التربية الإسلامية أحيانا.




1 Comment
وكان هناك الحاج عبد الجليل هو كذلك يقوم بخطبة الجمعة بالتناوب مع الحاج كويس. شكرا جزيلا اخي أحمد الجبلي على هذه النبذة من تايخ حينا ومسجده العضيم. وكانت ايضا هناك حصص لتعليم حفض القرآن كان يقوم بها السيد عبد الله بعد صلاة المغرب.