Home»National»خطبة الجمعة بين الدين والعلم – الحلقة الأولى – لا تغلق شهية التلقي لدى مخاطبيك –

خطبة الجمعة بين الدين والعلم – الحلقة الأولى – لا تغلق شهية التلقي لدى مخاطبيك –

0
Shares
PinterestGoogle+

– لا تغلق شهية التلقي لدى مخاطبيك
أحمد الجبلي
وقف خطيب جمعة يخطب في الناس قائلا بغضب:  » ما لكم تأكلون وتنامون كالبهائم والأسحار تئن من قلة الساجدين »، وهو في خطبته هذه يدعو الناس إلى قيام الليل، بحسن نية، مبينا ما فيه من عظمة وقيمة وهو شرف المؤمن.
إن خطيبنا هذا وهو يحدث الناس عن قيام الليل، ودون شعور منه، كان كمن يقدم للناس عصيرا حلوا شهيا لكن في وعاء صدئ، فالعصير الحلو هو قيام الليل، وبما أن اللغة هي وعاء الفكر فلم يُجَمِّلِ الوعاءَ وينظفه ليكون متناسقا متساوقا مع المضمون.
إن مخاطبة الناس باعتبارهم بهائم يقتل المضمون، ويسد منافذ التلقي لديهم، ولهذا يعلمنا ديننا الحنيف فيقدم لنا سيرة أفضل وأروع خطيب في التاريخ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقدم المضمون من توجيهات وإرشادات وتعليم وتثقيف في وعاء من ذهب، ولا أروع منه رأت عيون أو سمعت آذان البشرية، فهو عليه السلام دائما وأبدا ينتقي الوعاء اللغوي بشكل مدهش، وقد أوتي جوامع الكلم، فهو لم يقل لأي أحد ذكرا كان أم أنثى، كبيرا أم صغيرا، عدوا أم صديقا: أيها البهيمة، حاشاه، ولا قال له: ما لك لا تفعل كذا وكذا، حاشاه، ولا قال له: ما لي أراك كسولا خمولا، حاشاه، فهو دائما يمهد للتوجيه بما يفتح شهية التلقي، ولا يترك في عقل ولا قلب الآخر أي مجال من غير تقبل التوجيه بل والفرحة به، والفرحة والسرور تساعد المتلقي في استيعاب التوجيه وضبطه لأنها تفتح في العقل موجة أنفا التي من خصائصها أنها تجعل العقل في قمة النشاط وحسن استقبال المعلومات. وقد أكد الدكتور دانيبوم، قبل ثمانين سنة، في كتابه الذي سماه  » تعابير الوجه عند الإنسان، آليتها ودورها الاجتماعي » أن الفرح وانشراح قسمات الوجه تحدث تغيرات إيجابية في الدورة الدموية وتؤثر على جريان الدم إلى الدماغ، حيث تزيد من تدفق الأكسجين إلى الدماغ مما يساعد في القدرة على التعلم واستيعاب المعلومات.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك » الحديث رواه أبو داود والنووي في الأذكار وقال ابن حجر: إسناده قوي. إن كلمة أحبك، فضلا عن كونها فتحت شهية وحسن التلقي عند معاذ رضي الله عنه، فإنها أحدثت تفاعلات كهروكيماوية منشطة للدماغ من خلال الفرحة العارمة والحبوب الذي اعترى الصحابي الجليل معاذ بن جبل.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن عبد الله بن عمر، رغم حداثة سنه، لا يصلي من الليل، وهناك طريقتان للتعبير عن ذلك أثناء التوجيه، وبعدما نذكر الطريقتين سنعلم ما الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه منبها عن سلوك سلبي لاستبداله بسلوك إيجابي، أعتقد لو أن الأمر كان بأيدينا لقلنا عن عبد الله بن عمر:  » بئس الرجل عبد الله لأنه لا يصلي من الليل » هذا ديدننا ونهجنا في التوجيه، لأننا دائما نجعل تركيزنا على السلوك السلبي كي نقدم له وصفة نعتقد أنها ستجدي نفعا بعدما نكون قد جرحنا وذكرنا مثالب المخاطب. أو ربما قلنا عنه مستنكرين: « صحته كصحة الجمل ولا يصلي من الليل !! » مع العلم أننا ضعفاء حين نقوم بذكر أحد غيابيا، فنطلق العنان لألسنتنا لتقول ما شاءت، ونتلطف حين نخاطبه وجها لوجه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عن عبد الله بن عمر غيابيا، من خلال حديثه لأخته حفصة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما قصت عليه رؤيى رآها أخوها عبد الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل » فقال ابنه سالم، نتيجة لذلك،:  » فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ».
إن اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلمة « نِعْمَ » من شأنها أن تفعل فعل السحر، ولقد فعلت، في نفس وعقل ووجدان المعني بالأمر، ولهذا ما سمعنا ولا علمنا ولا قرأنا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر مثالب أحد، أو قال لأحدهم: « ما هذه الفضيحة التي قمتَ بها البارحة ». فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد التركيز أثناء خطابه على ما في الناس من خير حتى يزداد هذا الخير في النفوس ترسخا وتثبتا، فيقول لبلال بن رباح رضي الله عنه:  » إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة » وقال مخاطبا رجلا أنصاريا وزوجته بقوله:  » ضحك الله الليلة – أو عجب- من فعالكما »، ويقول: « ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ».
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيدا بالخير الذي في الناس ساترا لعيوبهم، وغاضا للطرف عن أخطائهم، بل وحتى مع أعدائه كان متميزا فقال في حقهم والوقت وقت حرب وكر وفر: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وقال لأهل الطائف بعدما أبى أن يٌطْبَقَ عليهم الأخشبان: « لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله » وقال لأعدائه يوم الفتح: « اذهبوا فأنتم الطلقاء »، وقال في حق عدوه الأكبر أبي سفيان:  » من دخل دار أبي سفيان فهو آمن »، وقال الله تعالى فيه شاهدا على خلقه وسلوكه تجاه الكفار: ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا). صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسنذكر، ختاما، قصة توجيهية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة لو حضرها أي خطيب من خطبائنا وحاول أن يصوغها على شكل خطبة عصماء فماذا كان سيقول للقوم؟
عن معاوية بن الحكم السلمي قال:  » بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واتُكْلَ أُمِّياهٌ، ما شأنكم تنظرون إلي؟ ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال » إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح وقراءة القرآن »، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..والحديث رواه مسلم.
وما أجمل قول الإمام النووي في بعض معاني هذا الحديث حيث قال:  » يدل على رفقه صلى الله عليه وسلم بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم »
إن التوجيه وحسن الخطاب لم يعد مجرد فن من فنون التواصل، بقدر ما أصبح علما له قواعده وآلياته ومصطلحاته، كما أصبحت له مدارسه، ونحن تكفينا هذه المدرسة النبوية الشريفة، وإن تمادينا لمعرفة ما عند الآخرين من هذا العلم فمن باب أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
وهذا ما سنحاول تناوله في الحلقات المقبلة إن شاء الله ترشيدا لخطبائنا ووعاظنا.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *