المحميون الجدد..!!

المختار أعويدي
لعل من الأمور التي تدعو إلى القلق هذه الأيام، بشأن تعاظم تيار المتصهينين من بني جلدتنا، هو تجاوزهم لمبدأ التقية والتحفظ في الفعل، وانتقالهم إلى المجاهرة بتخندقهم الأعمى في الصف الصهيوني، وتنصيب أنفسهم جهارا نهارا مدافعين بقتالية عن الكيان الغاصب المجرم، ومسوقين لسرديته وأجنداته. وعاملين بشراسة وسعار على تبخيس وتسفيه المقاومة الفلسطينية، وتشويه صورتها ورمزيتها، وطمس أهدافها في تحرير الوطن المحتل. ومروجين للسردية الصهيونية، التي تعتبر فصائل المقاومة منظمات إرهابية يجب اجتثاثها، وليست حركات تحرر وطني. ومتعامين عن الجرائم الوحشية الرهيبة، التي يرتكبها الكيان الغاصب في غزة والضفة الغربية. لا بل ومحملين المسؤولية في ذلك لحركة المقاومة.
أصبحوا يبادرون إلى فعل كل ذلك بثقة كبيرة تثير الدهشة، متجاوزين كل حدود ما تقتضيه القيم والأخلاق من نصرة للمظلوم وتضامن معه. وضاربين بعرض الحائط مشاعر مواطنيهم وتقاليد الإجماع الوطني، في التعاطف مع الشعب الفلسطيني ونصرته. لامبالين حتى بالحدود، على علتها وزلتها، التي من المفروض أن مسلسل التطبيع المذل مع الكيان المجرم، قد رسمها لمستوى العلاقات بين الطرفين. بما يعني أنهم قد أصبحوا مطبعين أكثر من المطبعين الأصليين، لا بل ومتصهينين عاملين على خدمة الأجندات الصهيونية « بالعلالي » و »على عينيك آبنعدي »، ومحاولين تسويقها داخل وطننا بعنجهية وتطاول خطير، مستعملين نفوذهم المالي والإعلامي المشبوه، ومنابرهم المختلفة. ومتدثرين بوطنية زائفة كاذبة..!
والحقيقة أن تعاظم هذا التيار المتصهين في بلادنا واستقوائه على حين غرة، لا بل وحديثه أحيانا بلسان مواطنينا (كلنا إسرائيليون)، وبداية تخطيه وتجاوزه لكل الخطوط والحدود، يطرح أكثر من سؤال بشأن الجهة التي توفر له الحماية والمناعة والدعم، للقيام بما يقوم به من دور الإساءة والمساس بصورة بلادنا، لا بل ربما حتى باستقرارها في المستقبل المنظور.
ولعمري، فإن هذا الإنفلات لمرتزقة هذا التيار، يذكرنا بمرحلة سيئة عصيبة جدا من تاريخ بلادنا. ولا يخفى أن للتاريخ دروس وعبر ينبغي أن تستقى، هي فترة القرن التاسع عشر، حينما تفاقمت ظاهرة الحماية القنصلية وتسرطنت في البلاد بشكل خرج عن السيطرة. واستقطبت العديد من المواطنين المغاربة مسلمين ويهودا. خاصة من ذوي النفوذ منهم، كالتجار والموظفين ورجال الإدارة والدولة، الذين خرجوا كلهم عن طوع سلطة الدولة وقوانينها، عن طريق الإستقواء بسلطة القوى الأجنبية الأوربية وبعثاتها القنصلية والدبلوماسية، التي فَرضت على البلاد في فترات ضعفها وانكسارها، وفي أعقاب هزائمها في العديد من المواجهات مع القوى الأوربية(معركة إسلي 1844 – حرب تطوان 1859/1860) توقيع مجموعة من الإتفاقيات التي تؤطر وتقنن حق منح صكوك الحماية القنصلية للبعثات الأجنبية بالبلاد. كانت اخطرها اتفاقية 1856 مع بريطانيا، التي أطلقت يد هذه الأخيرة في منح الحماية القنصلية للعديد من المواطنين المغاربة مسلمين ويهودا. وكذا اتفاقية 1863 مع فرنسا، التي لا تقل خطورة.
فأصبح هؤلاء المحميون بموجب هذه الإتفاقيات، لا يخضعون لا لقضاء ولا لقوانين. ولم يعودوا ملزمين بدفع ضرائب. ويتمتعون أيضا بالعديد من الإمتيازات. لا بل أصبحوا خداما للقوى الأجنبية، مستقوين ومتطاولين بها على سلطة المخزن. مما أضعف هذه الأخيرة بشكل كبير، ويسر شروط وسبل التغلغل الأجنبي في البلاد، وسهل سيطرته على خيراتها، في أفق استكمال احتلالها واستعمارها سنة 1912.
والحقيقة، يبدو كما لو أن التاريخ يعيد نفسه، مع هؤلاء المتصهينين من بني جلدتنا، الذين أصبحوا اليوم أشبه ما يكونون بمحميين جددا، يستقوون بجهة ما قد تكون أجنبية، توفر لهم المناعة من أي محاسبة أو متابعة أو ردع. مع ما يمثله ذلك من خطر يهدد أمن البلاد وسلامتها.
فأن يخرج بعض المتنطعين من هؤلاء المتصهينين، يجاهرون تارة بنداء « كلنا إسرائيليون »، وتارة يصرفون بعض الشعارات الصهيونية المغلفة بغطاء الوطنية الزائفة، من قبيل « تازة قبل غزة »، وتارة أخرى يهاجمون بفجاجة وعنجهية دعوات الإنتصار للمقاومة وللشعب الفلسطيني. وينتصبون للدفاع عن مجرمي الحرب الصهاينة، الذي عاثوا في غزة ولبنان واليمن وإيران وسوريا تقتيلا وتدميرا وإبادة. محاولين تسويق أطروحة الدولة الصهيونية الفاشية، ومبررين جرائمها ومذابحها، وملمعين صورتها أمام الرأي العام الوطني والدولي، ومباركين التغلغل الصهيوني الخطير في مفاصل بلادنا بعد التطبيع المشؤوم. تحت شعارات ومسميات ملغومة، من قبيل « التسامح » و »تامغربيت »، وحق « المواطنة المغربية » لليهود الصهاينة الإسرائيليين. بعضهم يستخدم في ذلك منابره الإعلامية المتصهينة. وبعضهم مواقعه الجامعية. وبعضهم منابره الجمعوية والمدنية المشبوهة. وأكثرهم ذباب متصهين متسكع في شبكة الأنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي، يعمل بوقا مصرفا للسرديات الصهيونية. وقاسمهم المشترك بعد خدمة المخططات الصهيونية، هو أن جميعهم يتدثرون بالوطنية الزائفة، ويدعون خدمة الوطن من خلال عمالتهم للصهاينة..
فهذا لعمري يعتبر قمة التطاول والخيانة والمروق عن الإجماع الوطني، بشأن الموقف من دولة الإجرام الصهيوني ومن القضية الفلسطينية. وإن هذا التعاظم الكبير لهذا التيار المتصهين المحمي، يمثل خطرا مؤكدا على مصالح بلادنا واستقرارها وسلامتها.
فلئن كانت الحماية القنصلية في القرن التاسع عشر، مؤطرة ومقننة باتفاقيات موقعة بين المغرب والقوى الأوربية. والمستفيدون منها كانوا معلومين، معروفين، حاملين لصكوك تثبت تمتعهم بهذا الإمتياز الإستعماري الخطير. فإن الحماية المشبوهة، التي يبدو ان متصهينينا يتمتعون بها اليوم، تبدو منفلتة غير معلومة السند أو المرجع، غامضة غير محددة الأهداف والغايات، وإن كان المؤكد هو خدمة الأهداف الصهيونية. تقتات من محفزات سخية ومطامع لا محدودة. يبدو كما لو أن جهة متجبرة ما، قد أطلقت العنان لألسنتهم ومنابرهم وأبواقهم داخل وطننا، لأجل خدمة الأجندات الصهيونية. واغدقت عليهم من المحفزات السخية حرصا على ديمومة انخراطهم في خدمة المشروع الصهيوني..
إن هذا التيار المتصهين، الذي نشأ في بلادنا قبل سنين خلت محتشما متحفظا منطويا على نفسه، متدثرا بمبدأ التقية، يبدو أنه اليوم، ومنذ انطلاق مسلسل التطبيع المشؤوم، قد انفلت من عقاله، وتعاظم خندقه، وتزايد فعله. وانتقل إلى مرحلة الجهر والمواجهة، بل والإستماتة في خدمة المشروع الصهيوني، بشكل يطرح أكثر من سؤال، حول الجهة التي توفر له الحماية والمناعة. هذا في ظل استفادة العديد من عناصره من رحلات مكوكية معلن عنها، مشكوك في أهدافها ومراميها إلى إسرائيل، تحت غطاء الإستفادة من دورات تكوينية في المجال الإعلامي أو الجمعوي.. وإن هذا التعاظم ليمثل خطرا مؤكدا في الأفق المنظور على بلادنا ومصالحها واستقرارها. ولا يخفى على أحد ما تفعله اللوبيات الصهيونية وخدامها من المتصهينين في العديد من البلدان حتى العظمى منها، من التحكم في زمام قراراتها السياسية والعسكرية والإقتصادية والمالية. ولقد أعذر من أنذر..!





Aucun commentaire