أمطار وجدة .. دموع السماء التي عرّت أقنعة البهرجة وكشفت الوجه البشع لبعض المسؤولين اللامسؤولين..

مصطفى قشنني

في مدينة وجدة الألفية التي يفترض أنها تنعم ببريق الحداثة ووعود التنمية، هطلت أمطار الخير فتحولت فجأة إلى دموع حارقة على وجوه ساكنة استفاقت على كابوس من “الأوحال “. لقد كانت تلك الأمطار ليست مجرد ظاهرة مناخية عابرة، بل كانت محكاً حقيقياً، ومصفاة عادلة، فضحت ما كان مخفياً تحت ترسانة من الوعود البراقة واللافتات الضخمة التي تزيّن شوارع المدينة. لقد كشفت المياه، ببساطتها الجارفة، عن زيف “السرعة القصوى” المعلنة، ليتبين للجميع أن المدينة تعيش، في واقع الحال، وضعية “السرعة القصوى المعكوسة”، حيث كلما ازداد الإنفاق والضجيج، تراجعت النتيجة واتسعت الحفر، حرفياً ومجازياً.
ها هي وجدة، تخرج من غمرة تلك الأمطار التي سماها المسؤولون “خيراً” و”بركة”، لتجد نفسها غارقة في بحر من التساؤلات العاتية وأوحال الإهمال. لقد تحولت الشوارع إلى سرداب تاريخي يعرض طبقات من الفشل: هنا حفرة من صفقة العام الماضي، وهناك رقعة من مشروع السنة الفائتة، وأسفل الأقدام تتكشف رواسب سنوات من العبث. الأمطار، كفنان ناقد عظيم، رسمت لوحة صادمة عن “المشاريع الوهمية” التي كان يتغنى بها المسؤولون، وعلى رأسهم من ودّع المدينة تاركاً إرثاً من اللافتات الباهتة ومشاريع لا تكاد تخلص من أغلفتها الإعلامية حتى تبدأ بالانهيار. لقد كانت تلك المشاريع أشبه بمسرحية عظيمة، ديكوراتها فاخرة وإعلاناتها مبهرجة، لكن عندما هطلت دموع السماء الحقيقية، انهار الخشب الرقائقي وظهر الممثلون بلا نصوص، وصرخت الجماهير التي دفعت ثمن التذكرة من أموالها الضريبية ومن صبرها المنهك.
وتأتي “المشاريع التحتية”، تلك التي تتعلق بقنوات الماء والكهرباء والتطهير والهاتف..، لتكون الفصل الأكثر سخرية في هذه الملحمة التراجيدية الكوميدية. لقد انتهت الأشغال بسرعة الضوء، وذهب المقاول بماله، وذهب المسؤول بخطاباته، وبقيت المدينة مع “إرث دائم”: شبكة من الحفر والبرك التي تتنافس مع أحواض سباحة المنتجعات الفاخرة في عمقها واتساعها. ها هي “بحيرات وجدة الاصطناعية” تزين مداخل الأحياء، موفرةً بيئة مثالية لتربية البعوض، وربما أحلاماً بتربية الأسماك لساكنة أنهكها الانتظار. وفي الصيف القادم، قد نرى أطفال المدينة يستبدلون نوادي السباحة بهذه البرك المجانية، في مشهد سيريالي يجسد الفجوة بين الوعود الرنانة والواقع المزري. إنها هندسة عكسية بامتياز: تحويل مشاريع التصريف إلى مصادر لتجميع المياه، وتحويل طرق النقل إلى ممرات للمغامرات.
ولا يمكن فصل هذه الكوميديا السوداء عن جوقة الإعلام المنافق الذي صفق بحرارة لكل إنجاز وهمي. لقد كانت تلك “المنابر الإعلامية” أشبه ببوق تطبيل دائم، يضخم الفقاعة حتى تبدو جبلاً، ويمجد العادم حتى يبدو إنجازاً. ولكن بعد “التعرية” المطرية، أصيب تلك الأبواق بالخرس المفاجئ. اختفت الصيحات، وتبخرت التهليلات، وتراجعت الكاميرات عن تصوير “الإنجازات” التي تحولت إلى مواقع كارثية. لقد كشفت الأمطار ليس فقط عيوب الإسفلت، بل أيضاً عيوب الضمير المهني. لقد فضح الماءُ النازل من السماء، “الماءَ” الراكد في بعض الأقلام والأجهزة، التي باعت المصداقية – إن وُجدت – بثمن بخس مقابل حفنة من الإعلانات أو لقاء مصور أو ظرف فوق أوتحت الطاولة..
والنتيجة؟ غليان واحتقان شوارع وجدة لم يعد يحتمل. إنه غليان لا تهدئه الخطابات، واحتقان لا تفتح مسامه الوعود الجديدة. ساكنة المدينة تنتفض بصمت، بعيونها التي تراوغ الحفر، وأقدامها التي تتلمس طريقها في الأوحال، وقلوبها المثقلة بخيبة أمل عميقة. لقد فقدوا الثقة في المسرحيات، وباتوا يقرأون المدينة ككتاب مفتوح عن الإهمال. يا حسرتاه على مدينة ألفية تعيش الزمن معكوساً: تتقدم إلى الوراء، تبنى لتهدم بالماء، تعلن لتنكر، تبدأ لتنتهي عند نقطة الصفر. إنها “السرعة القصوى المعكوسة” حيث تتحول المليارات إلى أوحال، والخطط إلى نكات ثقيلة، والثقة إلى غبار مختلط بماء المطر.
لقد جاءت الأمطار لتقول كلمتها: كفى بهرجة. كفى تسويقاً للوهم. وجدة تستحق أكثر من أن تكون حقل تجارب للفشل، ومقبرة للمشاريع الهشة، ومسرحاً للبهرجة الفارغة. لقد حان وقت المحاسبة الحقيقية، فلا يُعقل أن يمرّ هذا العبث دون أن يلقى من تسبّب في هذه الجروح الغائرة جزاءه..فلا تسامح مع المستهترين والغشاشين والمفسدين..ولا لعفى الله عما سلف..
مدينة وجدة تنتظر صحوة تليق بتاريخها وأمجادها وكرامة ساكنتها، صحوة تبدأ باعتراف بفشل الماضي، وترميم ما يمكن ترميمه، وبناء مستقبل يكون فيه الماء نعمة حقيقية، لا أداة فضح وكشف عورات المسؤولين
===
المصدر: ريسبريس.





Aucun commentaire