فيضانات العروي : غضب الطبيعة أم مسؤولية الإنسان..!

المختار أعويدي

أما وقد هدأت العاصفة بمدينة العروي، وانحسرت السيول، وعادت المياه الى مجاريها، وأزيحت كميات الأوحال التي غطت قسما كبيرا من أحيائها، وهدأت النفوس بعض الشيء، ولملم الساكنة جزءا من أحزانهم وأوجاعهم لما لحق منازلهم وممتلكاتهم من خسائر فادحة، وانتهوا من إحصاء الأضرار كبيرة الحجم التي تكبدوها. وبدأت المدينة تستعيد شيئا من عافيتها، رغم مناظر الخراب التي لا زالت تشوه وجه كثير من احيائها، بسبب ما لحق بنيتها التحتية من أضرار وأعطاب بليغة، وما صارت عليه أحوال شوارع وارصفة وجدران المنازل بالأحياء المتضررة من اصطباغ بلون الطين الأحمر، المثقل بأكاسيد الحديد واسعة الإنتشار في الطبيعية.. أما وقد وبدأت المدينة تتعافى من هذه الكارثة التي حلت بها، فقد حان موعد طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بهذه النازلة وتداعياتها متعددة الأبعاد :
فما الذي وقع بالمدينة ليلة السبت الأسود؟ وما السبب في حلول الكارثة التي قضّت مضجع الساكنة ليلتها؟ ولماذا انهارت البنية التحتية تحت وقع ساعة من التساقطات الغزيرة، وعجزت عن استيعاب حصيلتها من صبيب المياه المتدفقة في كل اتجاه؟ لماذا تداعت الشوارع المعبدة واقتلعت من أساسها، وتحول إسفلتها إلى ما يشبه شرائح كرتون، أثارت مشاهدها سخرية واسعة على شبكات التواصل الإجتماعي؟ من المسؤول عن الخراب الذي حل بالمدينة ليلتها، وعن الخسائر الفادحة التي لحقت بالساكنة؟ من سيجبر ضرر المواطنين المتضررين ويعوضهم ما تكبدوه من خسائر جسيمة؟ هل سيتم تفعيل مبدأ المحاسبة في حق المسؤولين عن وقوع الكارثة؟

أسئلة عديدة مشروعة وغيرها كثير، تحتاج إجابات وتفسيرات وتوضيحات شافية من الجهات المسؤولة، لعل ذلك يشفي غليل ساكنة المدينة الغاضبة، ويخفف من وقع الكارثة عليها.
إن الفيضانات الأخيرة التي اجتاحت مدينة العروي لم تكن في الحقيقة مجرد حادث طبيعي عابر، بل كانت أشبه ما تكون بمرآة فاضحة عكست هشاشة البنية التحتية، وعرّت عقودًا من سوء التدبير والتخطيط، وأبانت عن عمق الخلل الذي يعتري منظومة التسيير المحلي منذ سنين خلت.
لقد تحوّلت المدينة في لحظات إلى ما يشبه رقعة منكوبة؛ غمرت المياه والأوحال شوارعها وأحياءها، وقطعت أوصالها، وعزلت مناطقها بعضها عن بعض، فيما فقد كثير من المواطنين ممتلكاتهم، وتضررت منازلهم وأرزاقهم. ووقف الساكنة أمام المشهد مذهولين، كأنما مدينتهم، بكل ما فيها ومن فيها، تستغيث دون مجيب. فتدخلات الوقاية المدنية لم تتم سوى خلال الساعات الأولى من صبيحة الكارثة. ما جعل المدينة ليلة الكارثة تبدو معزولة مشلولة الحركة لساعات طويلة.
ومع انحسار السيول، انكشف الخراب وما هو أعمق من الخراب المادي: انكشف الخراب المعنوي الذي صنعته عقود من الإهمال والإرتجال، ومن غياب الرؤية في تدبير النمو العمراني والحياة الحضرية للمدينة
.
لقد رأى البعض أن ما جرى قَدَرٌ من غضب السماء، ونتيجة لتقلّبات الطقس غير المتوقعة، ولذلك سارعوا إلى تعليق ما جرى على شماعة الطقس والظروف المناخية الاستثنائية، غير أن هذا التفسير السهل لا يصمد أمام الواقع. فالتحولات المناخية، كما هو معروف، ليست أمرًا طارئًا أو مجهولًا، بل هي معطًى ثابتًا متوقعا في كل لحظة، يستوجب استعدادًا دائمًا وتخطيطًا عقلانيًا لمواجهة حالات الطوارئ. ومن ثَمَّ فإن تحميل الطبيعة وحدها وزر ما حدث، ليس سوى هروبا من المسؤولية الحقيقية. وان الوقائع على الأرض تشير إلى أن الأزمة أعمق من مجرد تساقطات مطرية كثيفة، وأن المشكلة بنيوية، تتعلق بتدبير الشأن المحلي والتخطيط الحضري للمدينة، الذي عانى ويعاني من اختلالات مزمنة تراكمت عبر عقود من الزمن. فلا يخفى على أحد ان السماء تمطر في كل مكان، لكن المدن التي تُبنى على أسس سليمة تعرف كيف تتنفس في وجه العواصف، وكيف تقاوم جبروتها.
وعليه فإن المسؤولية فيما حدث، تتقاسمها في الحقيقة أطراف عدة. تأتي على رأسها المجالس البلدية المتعاقبة، التي تولّت تدبير شؤون المدينة منذ كانت هذه الأخيرة قرية صغيرة حتى غدت مدينة واسعة المساحة مترامية الأطراف. فقد جرى توسّع عمراني سرطاني بشكل غير متوازن، في ظل غياب رؤية حضرية واضحة، ودون احترام لقواعد التعمير واعتبارات وخصوصيات الجغرافيا المحلية، وتحديدا طبوغرافيا المدينة. وبسبب ضعف التخطيط، وغياب الدراسات التقنية الدقيقة قبل منح تراخيص البناء، إلى جانب التساهل في مواجهة البناء غير القانوني. مما سمح بفوضى عمرانية، اجتاح فيها البناء القانوني والعشوائي على حد سواء، المنخفضات وقعر الأودية والمجاري المائية القديمة بالمدينة، ما شكل حواجز إسمنتية معرقلة أمام تدفق صبيب المياه الناتج عن التساقطات المطرية الغزيرة. وضيّق الشوارع والأزقة، وشوّه ملامح المدينة. وهو ما جعل فائض المياه المتساقطة ليلة الكارثة، يتيه في دروب وأزقة وشوارع المدينة، دون أن يعثر على مجاريه الطبيعية المعتادة، فأغرق الحرث والنسل..
لقد نمت العروي منذ إعلانها بلدية كما تنمو خلايا الورم، بلا نظام ولا تخطيط، حتى صارت كتلة إسمنتية مختنقة. تغيب فيها شروط وضوابط النمو السليم، من تعبيد شامل للطرق، ونظام فعال لتصريف المياه السطحية، وقنوات لامتصاص فائض مياه الأمطار، وحواجز لتوجيه وتنظيم تدفق مياه التساقطات عند ارتفاع صبيبها.
وإن مما يدعو حقا إلى الحيرة، هو أن هذه الفيضانات التي ضربت المدينة لم تكن مفاجأة لأحد، فالمشهد تكرّر في السنوات الماضية غير ما مرة، وبالملامح نفسها تقريبًا: شوارع تتحول إلى أنهار، منازل تغمرها المياه والأوحال، قناطر تنهار، وطرقات تنكشف عن هشاشتها. كما لو أن المدينة أدمنت الغرق، وألفت أن تُجرف معها الوعود، والخطط، والمحاسبة. فالذي يعتبر مفاجئا حقا، هو تقاعس المجالس المتعاقبة على المسؤولية، وتعاطيها السلبي مع هذا المشكل المزمن، وعدم البحث الجدي عن حلول جذرية له. واكتفائها بمنطق « كم حاجة قضيناها بتركها ». وهو ما يعني أن معاناة المدينة وساكنتها مع الفيضانات ستظل سارية المفعول إلى أجل غير مسمى..!
ولا يمكن استبعاد المصالح التقنية للبلدية من نصيبها من المسؤولية منذ قيام الطفرة العمرانية الكبرى بالمدينة قبل عقود من الزمن، فهي التي يفترض أن تضمن احترام معايير التعمير، وأن تراقب جودة البنى التحتية وشبكات الصرف، قبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه. إلا أن ما كشفت عنه الفيضانات من هشاشة الطرق والقناطر وشبكات الصرف، يطرح أكثر من سؤال حول نجاعة المراقبة وجودة الإنجاز. فقد اقتلعت السيول طبقات الإسفلت في شوارع المدينة بسهولة مريبة، ما يؤكد أن أعمال التهيئة ربما لم تُنجز وفق المعايير المطلوبة، وأن شبهات الصفقات العمومية بات ظاهرة تتكرر كل مرة، ما يثبت أن الإهمال ربما كان هو القاعدة، وأن التراخي سمح بتفاقم الخلل المتراكم قبل سنين عددا، حتى بلغ ما بلغ.
أما في الجانب المتعلق بردع فوضى البناء، فتقوم مسؤولية السلطات المحلية، التي طالما أغمضت أعينها عن مظاهر البناء العشوائي، منذ قيام الطفرة العمرانية المذكورة بالمدينة خلال تسعينات القرن الماضي، بل تراخت وتسامحت في ضبط مخالفات قانون التعمير، وغابت الصرامة التي كان ينبغي أن تردع كل متلاعب بمستقبل المدينة. ولا يخفى أنه حين يغيب الردع، يصبح العبث والفوضى قاعدةً لا استثناءً..
ولا يمكن تجاهل مسؤولية المقاولين الذين أنجزوا مشاريع البنية التحتية بالمدينة فيما حدث ليلة السبت المشؤوم. فقد أبانت الكارثة عن شبهات حول ضعف التزامهم بالمعايير التقنية اللازمة. وتكفي مناظر وصور تحول إسفلت العديد من الشوارع إلى ما يشبه قطع حلوى أو شرائح ورق مقوى (كرتون)، وتداعي شبكات الصرف السطحي المحدودة بالمدينة، وعجزها عن الحد من الكارثة، للدلالة والتأكيد على أن هذه المشاريع نفذت بمعايير تحوم حولها شبهات الغش، حيث انكشفت حقيقة ذلك مع أول اختبار طبيعي. فطرقات المدينة التي لم تصمد أمام سيل ساعات، دلّت على أن الإسفلت لم يكن سوى غطاء هشّا، وأن الصفقات أُبرمت بمنطق الربح لا بمنطق المسؤولية. وهو ما يجعل ضرورة التحقيق في طرق إسناد الصفقات وجودة الأشغال مسألة ملحة.
لا يمكن بتاتا والحالة هذه استبعاد مسؤولية الساكنة وتبرئتهم مما حدث، خاصة في الشق المتعلق بتفاقم البناء العشوائي غير القانوني، الذي شهد تعاظما وتوسعا كبيرا منذ ترقية المدينة سنة 1992 إلى بلدية، والمساهمة السلبية بذلك في خلق وقائع وبؤر سوداء على الأرض، تفرض تحديات كبرى على مستقبل المدينة، لا في البعد المتعلق بتأهيلها الحضري ولا في بعدها الجمالي.
إن الفيضانات التي ضربت العروي ليلة السبت المشؤوم، لم تكشف في الحقيقة جديدًا، بل أعادت تذكيرنا بما نعرفه جميعًا، أن المدينة تغرق كل مرة، لا فقط بمياه الأمطار، بل أيضا في مياه الإهمال واللامسؤولية. وأن المشكل الحقيقي ليس في الفيضان، بل في غياب التعلم من الدروس المتكررة. كما أنها أي، الفيضانات، لم تكن في الحقيقة مجرّد حادث من حوادث الطبيعة، بل كانت صفعةً قاسية ذكّرت الجميع بحجم الإهمال والتقصير وسوء التدبير والتخطيط الذي عانت وتعاني منه المدينة. فقد جاء الفيضان ككاشفٍ للعيوب وليس كصانعٍ لها. وربما كان في هذا الدرس المؤلم ما يدفع الجميع – مسؤولين ومواطنين – إلى مراجعة الذات، وإدراك أن المدن لا تبنى بالإسمنت فقط، بل تُبنى أولًا بالتخطيط وحسن التدبير والمراقبة، وقبل هذا وذاك بالضمير الحي والشعور الحقيقي بالمسؤولية.
واليوم، وبعد أن جفّت المياه، لم يجفّ السؤال الأساسي المركزي :
هل سنكتفي بتجفيف الشوارع ورفع الأنقاض وردم الحفر، أم سنجفّف منابع اللامبالاة والفساد والتقصير التي أوصلت المدينة إلى هذا المصير؟
إن ما تحتاجه مدينتنا في الحقيقة اليوم، ليس فقط ترميمًا للبنية التحتية، بل ترميما للوعي الجماعي، واستعادةً لروح المسؤولية الغائبة. لأن المدن لا تغرق فقط حين تهطل الأمطار، بل أيضا حين يسود الإهمال، ويصمت الضمير، وتغيب المحاسبة.
وإن دروس ما بعد الكارثة تقتضي فيما تقتضيه، ليس فقط جبر الأضرار وإصلاح الطرق، بل فتح تحقيق شفاف وشامل لتحديد المسؤوليات، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وكذا مراجعة شاملة للتصميم الحضري للمدينة، حتى لا تتحول الفيضانات القادمة إلى مشهد مكرر من الإهمال والعجز الإداري، وسيفا مسلطا على رقاب الساكنة وممتلكاتهم وأرزاقهم..!!





1 Comment
ليس هناك طبيعة تغضب بل الاه يدبر ملكه كيف يشاء