حرية التعبير ليست رخصة لدهس المقدسات..

مصطفى قشنني

في زمنٍ تتداخل فيه المفاهيم وتُخلط فيه القيم، خرجت واقعة تربط الذات الإلهية ب”المثلية الجنسية” لتفجر جدلاً واسعاً حول حدود حرية التعبير. لم تكن مجرد صورة عابرة، بل كانت استفزازاً متعمداً لمشاعر ملايين المسلمين داخل المغرب وخارجه، واعتداءً صارخاً على جوهر العقيدة، تحت غطاء الحداثة والانفتاح.
الواقعة كشفت عن خلل عميق في فهم الحرية، وعن نزعة متزايدة لتوظيفها في إذلال المقدسات. فحين يُختزل اسم الله في “ميول جنسية” من طرف امرأة شاذة –أقصد الشذوذ الفكري – وبئيسة – أقصد بؤسا ثقافيا -، لا يمكن اعتبار ذلك رأياً أو تعبيراً فنياً، بل هو تطاول فجّ وجرأة سمجة ، لا تندرج تحت أي مظلة قانونية أو أخلاقية. حتى أعتى خصوم الدين عبر التاريخ، من طغاة وملاحدة، لم يجرؤوا على هذا الربط السخيف. لم يقل فرعون إن الله “مثلي”، ولم يزعم النمرود أن الذات الإلهية يمكن اختزالها في ميول جنسية. حتى إبليس رمز الشر الكوني كان حين يُخاطب الله كان يخاطبه بتوقير واحترام ( فبعزّتك….) فهل بلغنا من “التحرر” أن نُزايد على الكفر نفسه؟
المدافعون والمنافحون عن الواقعة يرفعون شعار “الحق في التعبير”، لكنهم يتجاهلون أن هذا الحق ليس مطلقاً. المواثيق الدولية نفسها، التي يتغنون بها، تنص على أن حرية التعبير مقيدة بعدم المساس بحقوق الآخرين، وبالآداب العامة، وبالرموز الدينية. فهل من الحرية أن تُهان عقيدة مليار ونصف مسلم؟ وهل من التعبير أن يُربط المقدس بما يُعتبر في الدين محرّماً؟
في كل ثقافة، هناك خطوط حمراء. في الغرب، “الهولوكوست” لا يُناقش. في الهند، البقرة لا تُمس. في الصين، الحزب الحاكم لا يُنتقد. في كوريا الشمالية من يتجرّأ على الزعيم المقدّس كيم جونغ أون يُعدم في الساحات العامة، وفي العالم الإسلامي، الله والأنبياء والمقدسات الدينية لا تُهان. ليس لأننا نرفض النقاش، بل لأننا نؤمن أن هناك ما لا يُناقش، لأنه فوق الجدل، ومحل إجماع روحي وثقافي. من يظن أن حرية التعبير تعني حرية الإساءة، فليجرب أن يرفع لافتة في برلين تقول “المحرقة كذبة”، أو أن يهتف في نيودلهي “البقرة ليست مقدسة”، أو أن يسخر من المسيح في جادة الشانزيليزي بباريس. حينها، لن يُقال إنه يمارس حقه، بل سيُجرّ إلى المحاكم، وربما يُنبذ اجتماعيا، وربّما رحمة به قد يودع بمصحّة للأمراض العقلية في ألطف الأحوال.
الحرية لا تعني أن تقول كل شيء، بل أن تقول ما لا يُهين أحداً. أن تعبّر دون أن تجرح. أن تختلف دون أن تستفز. أن تناقش دون أن تذبح المعنى. أن تكتب دون أن تدوس على القلوب. ما حدث ليس تعبيراً، بل عدوان. ليس رأياً، بل إساءة. ليس اختلافاً، بل استفزازاً.
الذين يبررون الواقعة يخلطون بين النقد والإهانة، بين التعبير والعدوان. النقد مشروع، والاختلاف مقبول، لكن الإهانة ليست رأياً، والتطاول ليس حرية. لا أحد يمنع أحداً من أن يختلف، أو أن يناقش، أو أن يعبّر عن رأيه، لكن حين يتحول التعبير إلى خنجر مسموم يُغرس في خاصرة العقيدة، فإن الأمر لم يعد حرية، بل عدواناً.
الذين يظنون أن الدفاع عن الواقعة هو دفاع عن الحرية، ينسون أن التعبير لا يُمارس في الفراغ، بل في مجتمع له قيمه، ودين، وشعور جمعي. ينسون أن الرأي لا يُقاس بمدى الصدمة، بل بمدى الاحترام. ينسون أن الإنسان لا يُقاس بما يقول، بل بما يحترم.
الواقعة لم تكن نقاشاً فكرياً، بل استفزازاً متعمداً. لم تكن تعبيراً رمزياً، بل إهانة مباشرة. لم تكن رأياً، بل إعلاناً عن سقوط المعايير وقيّم النقاش. وإذا كان من يدافع عنها يظن أنه يُمارس حرية التعبير، فليجرب أن يُمارسها في غير الإسلام، وسيرى أن العالم كله سيقف ضده. أما حين تكون الإساءة موجهة إلى المسلمين – وهذا قدرنا -، فحينها فقط يُقال: “دعونا نحترم الرأي الآخر”.
لكننا نقول: لا رأي في الإساءة، ولا حرية في التطاول، ولا حداثة في العبث بالمقدسات. ومن أراد أن يُمارس حرية التعبير، فليبدأ باحترام مشاعر الآخرين، قبل أن يطلب احترام رأيه.
https://respress.maالمصدر :





Aucun commentaire