حل العودتين بدلا من حل الدولتين

المصطفى حميمو
منذ أكثر من قرن، وضع الغربُ فلسطينَ في قلب صراع دموي سببه المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي قام على تهجير شعب كامل من أرضه لإحلال مستوطنين قدموا من شتى بقاع الأرض. ومع مرور الزمن، طُرحت حلول متعددة لإنهاء الصراع، وكان ولا يزال أبرزها هو ما يُعرف حتى اليوم بـ »حل الدولتين ». حل ينص على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. لكن هذا الحل، الذي بدا لكثيرين وكأنه التسوية المنطقية، حُكم عليه بالإعدام على يد الصهاينة أنفسهم، بالنظر لما يرون فيه من تهديد حقيقي لزوال دولتهم على المدى المتوسط أو البعيد. فلم يتوقفوا يومًا عن توسيع مستوطناتها والاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية مع نية تهجير أهلها قسرا، بل تطمع حتى في الاستيطان بغزة الذي تتبناه فكرة تهجير أهلها، مما يجعل حل إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمرًا مستحيلًا.
في المقابل، بينما يحلم البعض بحل تهجير الفلسطينيين، هناك حل أكثر عدالة وواقعية ومنطقية، وهو « حل العودتين ». حل يبدو مع الأسف الشديد مستبعدا ومستحيلا فيظهر وكأنه لم يخطر على بال أحد اللهم المقاومة المشروعة التي كالعادة توصف بالإرهاب من طرف أي احتلال ومن طرف مؤيديه المنحازين له. هذا الحل العادل والمشروع يقوم على مبدأ بسيط، وهو أن يعود أخيرا كل طرف من طرفي النزاع إلى موطنه الأصلي. فيعود اليهود إلى أوطانهم التي هاجروا منها إلى فلسطين طيلة القرن الماضي وحتى الآن، في مقابل عودة كل الفلسطينيين من مخيمات اللجوء إلى أراضيهم وديارهم التي أُجبر أجدادهم وآباؤهم على مغادرتها بالقوة تحت ضربات العصابات الإرهابية الصهيونية التي شكّلت جذور جيش إسرائيل الحالي. فـفي « حل العودتين » بدلًا من « حل الدولتين » استعادة للحقوق المشروعة لكلا الطرفين. وهو السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم في فلسطين وفي المنطقة، وأخيرًا بين الغرب اليهودي-المسيحي والمشرق العربي-المسلم.
فمنذ نكبة عام 1948، تعرض الفلسطينيون لعملية اقتلاع جماعي، حيث دمِّرت العصابات الصهيونية مئات القرى وقتلت سكانها وطردت من تبقى منهم قسرًا، تحت حماية الانتداب البريطاني الذي يسر بذلك قيام الكيان الإسرائيلي على أنقاض وطنهم بموجب وعد بلفور. كيان يهودي تشكل من المستوطنين الصهاينة الذين جاؤوا من أوروبا وروسيا وأمريكا ودول أخرى. وبما أن الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا هي التي رعت المشروع الصهيوني منذ بدايته، فمن العدل والمنطق أن تتحمل مسؤولية إقناع المستوطنين بالعودة إلى بلدانهم الأصلية بل حتى بالضغط عليهم بشتى الوسائل ومنها رفع كل أشكال الدعم عنهم، وتعويض الفلسطينيين التعويض الكافي والوافي عن عقود من المعاناة التي تسببوا لهم فيها.
أما من يبررون وجود إسرائيل بالحاجة إلى وطن قومي لليهود، فعليهم أن يتساءلوا: لماذا يجب أن يكون هذا الوطن في فلسطين تحديدًا؟ شعوب العالم والقانون الدولي ليسوا مجبرين على تبني عقيدة دينية خاصة بأي قوم، ومنها عقيدة اليهود بما فيها خرافة « الأرض الموعودة » وأسطورة « شعب الله المختار ». والمفارقة أن الدول الغربية، التي تتبنى الطرح الصهيوني بكل قوة، هي نفسها التي باسم العلمانية تعتبر العقائد الدينية من خصوصيات الأفراد والجماعات وغير ملزمة للوطن والمجتمع.
والمستغرب أكثر هو مقف فرنسا الداعم للدولة اليهودية، في حين تتبنى حكوماتها علمانية متطرفة مقارنة بعلمانية باقي الدول الغربية. فملك بريطانيا مثلا، هو رئيس الكنيسة الإنڴليكانية، ورؤساء أمريكا يؤدون اليمين الدستورية اليد موضوعة على الكتاب المقدس وأمام قسيس. أمور مستحيلة ولا في الخيال مع العلمانية الفرنسية المتشددة.
ومع ذلك توجد فرنسا في مقدمة المدافعين عن المشروع الصهيوني القائم على « اليهودية السياسية » التي اتضح بالملموس أنه باسمها يرزح الفلسطينيون منذ سبع عقود تحت نيْر الفصل العنصري الصارخ بأرضهم المحتلة. في الوقت الذي تعارض فيه نفس فرنسا وبكل قوة مجرد رائحة ما تسميه ب »الإسلام السياسي ». ازدواجية في المعايير فاضحة لا تفهم سوى بالتحيز الأعمى للصهيونية العنصرية باسم « الدين السياسي » الذي تزعم أنها تعارضه مبدئيا. وذلك على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة.
على كل حال، إذا كان لا بد من منح اليهود دولة آمنة، فلماذا لا تكون في الغرب الذي لا يزال يتبنى مشروعهم بكل قوة؟ فلما ليس في أراضي الولايات المتحدة الشاسعة، حيث يوجد دعم المسيحيين الإنجيليين المطلق لليهود، وحيث يمكنهم العيش وسط بيئة ديمقراطية ومتحضرة المتماهية مع ثقافتهم الغربية، وبعيدًا كل البعد عن العيش وسط « الهمجية والوحشية العربية »، كما يحلو لهم وصف ثقافة المشارقة الذين لم يستضيفهم يوما للعيش بينهم؟
فيمكن، على سبيل المثال، تخصيص ولاية خاصة بالطائفة اليهودية في أمريكا، كما هو الحال مع ولاية يوطا التي تعد مركزًا لطائفة المورمون. هكذا سيحصل اليهود على دولة يعيشون فيها من دون دوام لعنة الخوف على زوالها، ولا لعنة حالة الحرب الدائمة مع محيطها الأجنبية عنها، ومن دون الحاجة إلى جيش ضخم وأجهزة استخبارات مكلفة لحمايتها. فكرة « حل العودتين » ليست فقط الأكثر عدلًا، بل هي أيضًا الأكثر واقعية وسلمية ومطمئنة للجميع مقارنة بجميع الحلول الوهمية المطروحة حتى يومنا هذا.
ففكرة تهجير الفلسطينيين مستحيلة ولو حتى في الأحلام. وخير دليل على ذلك يكمن في نتيجة الحرب الأخيرة لصالح المقاومة الشبه بدائية ضد وحشية جيش الاحتلال المدعوم بكل قوى العالم الغربي. كما يكمن وبقوة في مشاهد عودة الغزيين مبتهجين فور إعلان الهدنة إلى لقراهم وديارهم المدمرة. بينما استمرار الاحتلال الإسرائيلي يعني دوام الحروب والصراعات والاضطرابات والتوترات والعداوات ليس فقط في فلسطين وفي كل المنطقة، بل أيضًا بين الأنظمة الغربية وشعوب العالم الإسلامي ومجمل حكومات المشرق وباقي العالم التي لا تقبل الظلم.
أما العودة إلى الأصول بمعنى إلى حال فلسطين قبل الاحتلال، حيث يعود اليهود إلى بلدانهم الأصلية، ويستعيد الفلسطينيون أراضيهم وديارهم وحريتهم واستقلالهم، فهي الحل الذي يحقق العدالة والطمأنينة للجميع والتعايش السلمي والتقليدي والمعهود بالعالم المسلم بين كل المسلمين وكل اليهود، وينهي قرنًا من الحروب والاضطرابات ليس فقط بالمنطقة بل بالعالم كله.
فإذا أراد العالم أخيرا سلامًا حقيقيًا وعادلا ودائمًا، فعليه أن يتشجع ويتخلى عن الحلول الوهمية التي لم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الحروب والتوتر وذبح الأبرياء وسجنهم صغارا وكبارا، نساء وزجالا ودمار أراضيهم وديارهم وحرمانهم من الحق في حريتهم. « حل العودتين » هو البديل العادل والمنطقي، الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها، ويضمن سلامًا حقيقيًا، ليس فقط لفلسطين، بل للمنطقة والعالم بأسره.
حل العودتين الذي من المؤمل أخيرا أن تتبناه الأجيال اليهودية الصاعدة لما تستخلص الدروس من الموروث الصهيوني الظالم الذي دام أكثر من سبعة عقود، والذي لم يجلب لليهود بفلسطين سوى لعنة البؤس الدائم ولعنة التعاسة ولعنة الخوف على الحاضر وعلى لمستقبل، من دون باقي شعوب العالم التي تعيش في أراضيها بسلام آمنة ومطمئنة بداخلها ومع كل جيرانها في محيطها وفي منطقتها.
فكل من المصري مثلا، والأردني واللبناني والسوري، مثل باقي أفراد شعوب العالم، يعيش مطمئنا في أرضه لا ينازعه فيها أحد. فقط اليهودي الصهيوني في فلسطين ومن دون غيره يشعر بدوام لعنة الغربة عن الأرض التي يحتلها ومرفوض ومنبوذ ومكروه من طرف كل من أهلها وأهالي محيطها. أليست هذه لعنة؟ نعم، ويا لها من لعنة جزاء وفاقا! فمن أجل ماذا، سوى السراب طيلة حياة لا يعيشها الإنسان إلا مرة واحدة؟
Aucun commentaire