العَلمانية..من جارات أبي موسى
رمضان مصباح
أطباق شهية:
لا أدل على تهافت نقاش العلمانية –هذه التي أذن بها السيد وزير الأوقاف المحترم – من نَفْرَةِ جِهات رُوعت في سكينتها الحزبية الدينية.
كأن مظلة الدولة ،التي ظلت تحجب وهج الشمس ،حتى تؤدي الجهات الدينية صلاتها السياسية في الظل ،عصفت بها الريح.
نعم ،قالها وزير الأوقاف العتيد،المؤرخ والأديب: المغاربة عَلمانيون.
وهذا الحكم ينسحب ،أول ما ينسحب، على المستثمرين في الدين المسيس ؛بما هو صلاة أخرى موصلة للحكم،جنة الأرض ؛بل وصفة سحرية مجرَّبة،صالحة لكل زمان ومكان .
أن يمارس الحزب الديني هذا شيء ،وأن يقال عنه رسميا أنه عَلماني ،ويشتغل في حقل علماني ، شيء آخر .
تهافتُ الجهات الدينية- الحزبية بالخصوص- في صيحتها على الوزير –وليس نقاشها- يرتد إلى كونه مد رجليه في حقلها السياسي ،الذي تأتى لها – فقط – من السطو على ثنائية الدين والتدين ،واعتمادها في ركوب الحافلات المتجهة صوب البرلمان والحكومة.
وحينما تصل تركنها في المرآب ،مفككة عجلاتها حتى لايستعملها الأغيار؛وتشرع في استنشاق البراغماتية السياسية وابتلاع أطباق العلمانية الشهية.
طبعا هم يرون ألا جُناح عليهم في ممارسة علمانيتهم ،ماداموا قد ركبوا إليها كل المتون الدينية ،وليس الدستور المغربي ،أو الفرنسي.
أما أن يُوجه وزير الأوقاف أضواءه الكاشفة إلى مناطق الظل ؛حتى يرتفع كل لبس في أذهان المواطنين ،والأجانب الذين يستعصي عليهم فهم « الإسلام المغربي » ؛فهذا في حكمهم من باب الزلل الكبير ،الذي لا يُتصور أن يقع فيه وزير ،يُعد اليد اليمنى لإمارة المؤمنين.
من أين صِدقُ الوزير؟
من خلفيته مؤرخا وأديبا له موقع في الدين – شخصا ووزيرا – غير موقِع الفقيه « المنغمس » ،الذي لا يلوي على شأن أو فكر خارج المتون المُسيِّجة.
شخصيا قرأتُ له سيرته الذاتية : »ووالد وما ولد »، و »جارات أبي موسى »،و مرجعه المهم جدا : »المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر » وكتبا أخرى ؛فبدا لي أن ما كان سيثير العجب هو ألا يأتي بإضافة مهمة إلى الحقل الديني ،تبعث الحياة في أوصاله التي أتعبها الفقهاء ،وكلَّسها التقليد الممل ،حتى غدا « عودا أبديا » ، لا خلاص منه.
« ولاعيب فيهم غير أن سيوفَهم ** بهن فلولٌ من قِراع الكتائب »
(النابغة الذبياني)
هو ذا الرجل الذي هيكل الحقل الديني ،حتى بدا مرآة تعكس التدين المغربي ؛كما صقلته العصور ،والصمود في الثغور؛وكما خالطه العرف العربي والأمازيغي.
وكما أثرت فيه الجغرافية ،التي أقطعته فردوسا تمتد جذوره في التربة الافريقية ،وتتهادى أغصانه في الفضاء الأوروبي والأطلسي.
لم يكن متعذرا على إمارة المؤمنين ،ولا على ذراعها اليمنى وزارة الأوقاف ،أن تمتح من تدين المشارقة ،المغري بثرائه ؛آثرت عليه ما صقلته المنابر المغربية المالكية الأشعرية،عبر التاريخ ؛ متناغمة مع واقع مغربي حكمته وتحكمه الشروط المذكورة.
من هنا مناصبة الوزير –حتى العقيدة والمذهب – العداء ،وأعناق القوم تشرئب إلى سخاء التدافع الديني المشرقي ،خصوصا الاخواني الذي يُزري بكل الأوطان ،حتى قال قائلهم : طز في مصر.. ».
هو عدوهم حتى قبل أن يتوهموا أنه أذن بالعلمانية ؛والحال أن السياق كان سياق دردشة مع وزير فرنسي ،في ظرفية تصالحية ،تستدعي ،أول ما تستدعي ، بناء الصلح على حسن الفهم المتبادل.
ربما كان من الضروري حملُ الوزير الفرنسي على التمييز بين التدين المغربي الرسمي ،كما يجري في ربوع المملكة ،وبعض مظاهر التطرف التي اكتسبها بعض مغاربة المهجر من محيطهم الإسلامي المتشدد في فرنسا وغير فرنسا.
علمانية المغرب جارية:
هي عندنا ليست نقاشا أكاديميا مُترَفا ،ثم نطويه إلى جلسات أخرى.
هي جارية في أخذنا بالمرجعية الوضعية في قوانيننا ،المؤطَّرَة ،أحيانا،بالقوانين الدولية والمعاهدات والاتفاقيات وما جرى مجراها.
هي جارية في ما خوله ظهير الحريات العامة –منذ 1958 – من نقاش ومطالب ،على مستوى الجمعيات المدنية ،المشتغلة في شتى الحقول؛خصوصا حقل الحريات العامة والفردية.
وهي مطالب مقبولة ومفهومة – لُبيت أو لم تلَبَّ – حتى حينما يكون لها مساس بنصوص دينية قطعية.
(قارن مع دول لا تزال تتخبط في نقاش السفور والحجاب،بل تقتل وتسجن مواطناتها المنتفضات)
وهي أشد ما تظهر في « لا إكراه في الدين » بادية جلِية في المجتمع ،وعالية علو جبال طبقال.
وقد خاب غيرما ما مرة من حلم بجلد الناس في الشوارع، لحملهم على هذا أو ذاك من أمور دين للجميع ،وليس للسياسة .
وسيظل التدين المغربي – كما كان في هذه المملكة – فاعلا في المجتمع، والمجتمعُ فاعلا في الدين ؛وهذا من سنن الله في خلقه ،وليس من سنن من يضيقون موسعا، ليتوسعوا في كراسيهم السلطوية والعلمية.
هذه إحدى جارات « أبي توفيق » الموفق ؛في انتظار جارات أخرى يحملن هم ترقية الوطن ،وقوفا فيه ،وبأعين ناظرة إليه وليس إلى خرائط وهمية أخرى.
Aucun commentaire