المختار أعويدي

تساؤل بريء:
هل يستقيم إنتاج فيلم، على قدر محترم من الشجاعة الأدبية، التي من شأنها ملامسة الحقائق التاريخية كما وقعت، بكل جرأة وتجرد وتفاصيل، حول شخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي. في قالب فني إبداعي، تَحكمه ضوابط السينما المتعددة كتوظيف الخيال، والإبهار الجمالي والإبداعي، ومختلف التقنيات السينمائية. وتُوجهه حقائق التاريخ والمادة التاريخية المتوفرة حول المرحلة، في بلد لا يزال يَخشوْن، بل يَمنع استعادة ودفن رفات الزعيم الخطابي في ارض وتراب وطنه..؟؟!!
هل يستقيم فَهم هذه الإزدواجية الغريبة، المتمثلة في فرض المنع على استعادة رفات الزعيم، وفي نفس الوقت، الترخيص بتصوير وعرض فيلم يتناول حياته وجهاده..؟!!
بتعبير أوضح، هل تَوفَّر للمخرج محمد بوزاكو ما يكفي من مساحة لحرية التعبير، من أجل إخراج فيلمه الشائك « أنوال »، حاملا وملامساً لكل تفاصيل الحقائق التاريخية لحرب الريف أو بعضها، بدون قيود أو سدود. وبنفس القدر من مستوى التحفظ والمنع، الذي يُفرض على استعادة ودفن رفات بطل الفيلم، في أرض وتراب بلده وبلدته.

ملحوظة:
حتى البحوث والكتابات التاريخية، التي تناولت حرب الريف وزعيمها، أكثرها لم يتحلى بالشجاعة الأدبية الكاملة والكافية، في تعقب الحقيقة التاريخية وكشفها، والغوص في كل تفاصيل أحداث المرحلة. ما جعل الكثير من حقائق وخبايا المرحلة، إما هي في حكم المجهول، أو في حكم المسكوت عنها.
وعليه، فحتى أكثر المؤرخين الذين كانوا أكثر جرأة في ملامسة تاريخ الحدث والمرحلة، لم يعالجوا المناطق الشائكة والملغومة منه، ولم يتجهوا رأسا ومباشرة إلى عين الحقيقة التاريخية، بل ظلوا يحومون حولها، ويشيرون إليها تلميحا لا تصريحا. من جهة، تحسبا لرقابة السلطة وخطوطها الحمراء. ومن جهة أخرى، تحسبا للرأي العام، خاصة الريفي منه، وغضبه في حال تم وضع الأصبع على جوانب تخدش صورة الزعيم. والحال أن هذا الرأي العام المحلي، لا يقبل بغير الصورة الأسطورية الخارقة، حتى لا أقول المقدسة لزعيمه.
‏بما يعني أن أكثر من بحثوا وكتبوا ونشروا في تاريخ هذه المرحلة، فعل أكثرهم ذلك تحت تأثير الرقابة الذاتية، والإلتزام بمبدأ التقية بشقيه المذكورين. هذا إذا علمنا أن أكثر من بحثوا في تاريخ المرحلة هم من أبناء المنطقة.
‏ولا يخفى ما لذلك من أثر بالغ السلبية، على سلامة الكتابة التاريخية وتجردها وصدقيتها، وكذا ما قد يلحق النتائج والحقائق المتمخضة عنها من عطب وعتب. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، ما قد يتجاذب أهواء وميول المؤرخين، الذين بحثوا وكتبوا في تاريخ الحدث المعني، من مشارب إيديولوجية، وخلفيات سياسية، وإنتماء ثقافي وحتى عرقي، تبدو صعوبة ووعورة الخوض في تضاريس البحث التاريخي ومسالكه، المتعلقة بحرب الريف، الموصلة إلى الحقيقة كاملة. وهو ما يعني بالتأكيد، برغم كل هذا الزخم والركام المتوفر من البحوث التاريخية التي تناولت الحدث، وجود الكثير من الثقوب والفراغات والمساحات البيضاء، فيما كتب حتى الآن.

مصداقية سيناريو الفيلم التاريخي من مصداقية المادة التاريخية المتاحة..
إذا كان النص التاريخي المتاح، والحالة هذه، أصلا منقوصا أو معطوبا أو تعوزه تفاصيل الحقيقة التاريخية كاملة، أو تكتنفه بعض الثغرات والفراغات. فلا يمكن للسيناريو الذي يَستمد مادته السينمائية منه، أن يكون كاملا مكتملا متكاملا. على الأقل في جانب مضمونه التاريخي، حتى لا أقول خصائصه الفنية والإبداعية. وعليه، لا يمكن بالتأكيد محاسبة كاتب السيناريو (السيناريست) في هذا المستوى، بجريرة ما وفره المؤرخون حول تاريخ المرحلة والحدث، من نص قد تنقصه حقيقة وتفاصيل ما حدث فعلا. هذا إذا افترضنا جدلا أن السيناريست والمخرج، يمتلكان قسطا من الشجاعة الأدبية، في التعاطي بجرأة مع ما بين يديهما من مادة تاريخية، حول تاريخ الزعيم والمرحلة. من دون حواجز الرقابة الذاتية وقيود مبدأ التقية.

التاريخ والسينما.. الرقابة الذاتية ومبدأ التقية..
إذا كان البحث التاريخي يتم تحت تأثير قسط غير قليل من الرقابة الذاتية ومبدا التقية، بفعل غياب مساحة كافية من الحرية. علما أن النص التاريخي مهما كانت قيمته العلمية، في أكثر مستوياته، هو نص غير مقروء بشكل واسع، ولا متداول من عامة القراء والناس. حتى لو كانت مادته ونتائجه تنضح بحقائق تاريخية مجلجلة. بل هو نص تكاد تكون قراءته وتداوله، حكرا وقصرا على الباحثين والأساتذة المختصين. وعليه، فهو عمليا محدود الإنتشار والتأثير، والقدرة على صياغة الرأي العام، قياسا مع ما للوسائل السمعية البصرية، وتحديدا السينما، من قدرة على فعل ذلك. خاصة في زمن ثورة الإتصال والتواصل والتكنولوجيا الرقمية.. وهو ما يعني أن المخرج الذي جازف بطَرق هذا الموضوع، قد لا يكون أقل تقية ورقابة ذاتية، من المؤرخين، الذين لامسوا الحدث من زاوية تاريخية. بالنظر إلى أن مساحة الحرية التي يتحرك في ظلها الجميع تبقى هي ذاتها، سواء في مجال البحث التاريخي أو الإبداع السينمائي. بل قد يكون الأمر أشد وانكى وأكثر ضيقا بالنسبة للسينما. بالنظر لما لها من قدرة على التأثير وتشكيل المواقف وصيانة الرأي العام. وهو ما قد يسحب من الفيلم « أنوال »، إن حصل هذا الأمر، أي خضع لمبدأ التقية وللرقابة الذاتية للمخرج، قسطا هائلا من القوة والجاذبية والتأثير والإنتشار. هذا إذا علمنا أن الفيلم يتعرض حتى قبل استكمال تصويره وعرضه لنقاش ولغط واسع. بما تعنيه هذه الموجة من الجدل، التي سبقت تصويره وتواكبه اليوم، مدى صعوبة ووعورة مسالك معالجة مثل هذا الحدث التاريخي سينمائيا. إن لم يكن على المستوى الفني والإبداعي والتقني وحجم التمويل والإمكانيات المرصودة، فبالتأكيد سيكون على مستوى المعالجة والمضمون، الذي هو على قدر كبير من الحساسية والتأثير. ومن هذه الزاوية، فالأمر قد يُحسب لصالح المخرج، مهما حمل الفيلم من نقاط خلل وزلل.

حصيلة الكلام:
إن مواصفات الجودة التي يتوق الجميع، أن تتوفر في فيلم « أنوال »، هي في الحقيقة رهينة من جهة، بالإضافة إلى مستلزمات الإبداع الفني السينمائي، وما يستوجبه من حشد لإمكانات مادية وبشرية وتقنية كبيرة وكافية، خصوصا أن موضوع الفيلم تاريخي، ويغطي أحداثا تاريخية كبرى، على قدر كبير من الأهمية. ومن جهة أخرى، إلى سلامة ومتانة وصدقية النص والمادة التاريخية، التي ارتكزت عليها كتابة السيناريو. وكلا الشَرطان لا يستقيمان، ما لم تتسع مساحة الحرية التي يتحققان في ظلها.
فالأمر يتطلب بل ويستوجب أساسا توفر شرط الحرية غير المقيدة. من جهة حرية المؤرخ والباحث في تاريخ المرحلة، طبعا الحرية المتحررة من قيود الرقابة الذاتية ومبدأ التقية، التي مبعثها تأثير رقابة السلطة. مع ما لذلك، كما سلف، من أثر بالغ السوء على حصيلة البحث التاريخي، وبالتالي على المادة التاريخية، التي يُستمد منها السيناريو، أس البناء السينمائي للفيلم التاريخي. ذلك أن إنجاز البحث التاريخي والعلمي ككل، في ظل مناخ حرية واسع، تكون له انعكاسات جد مهمة على نتائجه وحصيلته العلمية.
ولا تقل أهمية مساحة الحرية وتأثيرها أيضا، في بناء إبداع وإنتاج سينمائي محترم، على قدر من الأهمية والجودة والصدقية والتأثير الإيجابي.
وعليه، يبقى نقاش مساحة الحرية المتوفرة، وما يرتبط بها من ضرورة إقرار حقيقي للديموقراطية في مجتمعنا، تقاشا مشروعا، بل هو عين الإشكال ومركزه. لما لذلك من دور أساسي وحاسم، في أي بناء ثقافي وفني حقيقي ومجدي. بما في ذلك الإبداع السينمائي، وقدرته على تحقيق الإبهار والإمتاع وتصريف الرسائل الإيجابية، من جهة. ومن جهة أخرى أهمية نتائج البحث التاريخي، ومصداقية ما قد يتمخض عنه من نتائج ملامسة للحقائق التاريخية بكل حرية وتجرد وأمانة.
إن مبعث هذا الحديث في الحقيقة، بمناسبة تصوير الفيلم التاريخي أنوال لمخرجه محمد بوزاكو، اقتضته الرغبة في أن يخرج هذا العمل على الأقل بالحد الأدنى من الجودة والإبداع والإقناع والإمتاع. لا على مستوى البناء السينمائي وما يرتبط به تقنيات وتفاصيل. ولا على مستوى المضمون والمحتوى التاريخي، الذي ينبغي أن لا يشوبه تحريف أو تخريف أو عطب، على الأقل قياسا مع ما هو متاح من مادة تاريخية حتى الآن حول الموضوع.
فلا يخفى على الجميع،٠ أن « التاريخ تاريخان.. ما يُروى، وما حدث..! ».. ولا يخفى كذلك أن فصولا عديدة من تاريخنا الوطني، تندرج في باب « ما يُروى »، وهو ما ينزع عنها رداء الصحة والمصداقية. وذلك نظرا لعوامل واعتبارات عديدة. بعضها يرتبط بصعوبات البحث التاريخي، الناتجة عن شح المصادر التاريخية وندرتها. وبعضها يتعلق بمدى جرأة الباحث في التعاطي مع أحداث فترات معينة، تحت تأثير الرقابة الذاتية، الناتجة عن ضيق مساحة التعبير في ظل رقابة السلطة.
‏ولذلك نتوق إلى أن يتم إعادة كتابة بعض الفصول من تاريخنا الوطني، التي يكتنفها الغموض، ويحشرها بالتالي في باب « ما يُروى ». عل ذلك يمكننا من أن ننجح ونفلح في نفض الغبار عنها، والإنتقال بها إلى باب « ما حدث » فعلا وحقا.
وهو ‏ما يعني أنه فيما يخص تصريف فصول تاريخنا الوطني لمواطنينا وأجيالنا الصاعدة، مهما كانت أدوات التصريف، سواء تعلق الأمر بنشر نتائج البحث التاريخي، أو من خلال الإبداع السينمائي أو غيرهما من الوسائل. نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نُلقنهم مَرويات وهرطقات وأوْهاماً تاريخية، تدخل في باب « ما يُروى »، مُجانبة لحقيقة ما حدث فعلا في مختلف محطات تاريخنا. وإما أن نُطلعهم على أحداثٍ وحقائقَ وقعت على الأرض فعلا. تحكمت في وقوعها وحدوثها شروط وظروف معينة، تخص كل فترة على حدة، تندرج في باب « ما حدث » فعلا. ذلك لأن الحقائق التاريخية، ليست أبداً مَدعاةَ خوف أو وجل أو خجل أو عار. بل هي مَدعاةُ فخر واعتزاز. صحيح أنها قد تكون أحيانا مزعجة ومقلقة، ولكن هذا لا يقوم أبدا مبرراً لحجبها أو طمسها أو تشويهها أو تحريفها. فالشعوب المحترمة لا تخجل ولا تخشى من تاريخها.
‏ومن هذه الزاوية تحديدا، فإن فيلم « أنوال » الذي يتم تصويره اليوم، يوجد في مفترق هذين التوجهين. فإما أن ينحو في اتجاه تصريف حقائق تاريخية عن أحداث حرب الريف وزعيمها، على الأقل في حدود ما تتيحه المادة التاريخية المتوفرة حول المرحلة. حتى لو كانت مزعجة أو مؤلمة، فيكرس بذلك انخراط السينما التاريخية المغربية، في نفض الغبار عن جوانب من تاريخنا الوطني. أو ينحو في اتجاه تكريس مرويات وحكايا تاريخية، لا تساهم سوى في ذر الرماد في العيون، ولا تقدم أو تؤخر في مجال إماطة اللثام، عن حقيقة حدث كبير في تاريخنا الوطني، في حجم حرب الريف وقائدها الكبير محمد عبد الكريم الخطابي. وبين هذا وذاك لا توجد أبدا منطقة رمادية.