Home»Débats»طانطان في جرادة

طانطان في جرادة

1
Shares
PinterestGoogle+

محمد شحلال


عرفت مدينة جرادة تحولات كبيرة خلال العقود الأخيرة، لا سيما من حيث النيسج الاجتماعي،الذي عرف انصهارا لم يسبق له مثيل.
حصل هذا التغير الإيجابي كنتيجة حتمية لتزايد منسوب الوعي بين الشباب الذي قطع أشواطا بعيدة في التحصيل المعرفي مدفوعا بقسوة الظروف المشتركة.
لعل ساكنة مدينة الفحم ،أبرز نموذج في التضامن والتآزر،حتى إن الجميع يتقاسم حبها عبر نعتها ب ،،الجوهرة السوداء،، بكل ما في هذه التسمية من إيحاءات لا تجتمع إلا في أذهان هذه البلدة المكافحة من أجل البقاء.
من حق أبناء جرادة أن يرفعوا مدينتهم فوق رؤوسهم، عساهم يعيدون بعض الاعتبار للآباء والأجداد الذين تعايشوا مع المحن، حتى تحول الموت بينهم إلى زائر لا يختار روحا ولا زمنا.
وإذا كنت قد ابتعدت عن مدينة جرادة مثل العديدين من مجايلي منذ عقود،فإن ذكرياتي في هذه المدينة ما زالت سجينة ذاكرتي التي تواجهني بمشاهد وأحداث عشتها هناك قبل وبعد الدراسة الإعدادية.
كان العمال في مناجم جرادة عبارة عن فسيفساء بشري يمثل جل جهات الوطن،لكن السواد الأعظم من هؤلاء ،كان يتشكل من القبائل المجاورة ثم من أبناء سوس.
كان سكان جرادة الأوائل قد تمثلوا بعض التقاليد الحضرية التي اقتبسوها من الفرنسيين والأطر المغربية ،مما سمح بتشكل قواعد سلوك يميز بين ،،الأصيل،،والوافد.
وهكذا،فإنه لم يكن من الصعب أن نلاحظ ما كان يتعرض له العمال الجدد القادمين من،،سوس العالمة ،،من مضايقات، بمجرد أن يتحدثوا بطريقتهم الخاصة التي تجر عليهم التندر المجاني والاستفزاز،بل إن البعض كان يستغل مناسبة استئجار هؤلاء الغرباء للدراجات الهوائية المنتشرة يومئذ،ليشرعوا في السخرية منهم وهم يسقطون أو يرتطمون بأول مانع خلال محاولة التعلم.
لم تمر إلا سنوات معدودة حتى ظهرت آلات التسجيل الموسيقية،فصارت إحدى أبرز رغبات أبناء،،سيدي احماد أوموسى،،أن يقتنوا هذا الجهاز الذي يضيفون إليه حزاما يسمح بتعليقه على أكتافهم ليتماهوا مع أشرطة ،،الروايس،،وهم يذرعون الأزقة أو حواشي المدينة تجنبا لملاحقة الصبايا واستفزازاتهم.
إن أبناء سوس،مواطنون مسالمون ،يحبون العمل وبناء الثروة التدريجية، اعتمادا على سواعدهم،لذلك كان غير المتزوجين منهم يقيمون في حي يسمى،،حي الزوفريا،،حيث كانوا يمارسون هواياتهم بعيدا عن كل استفزاز.
لم يكن أبناء سوس وحدهم من عانى من سلوكات عنصرية،بل إن كل شخص لا يتكلم الدارجة بطلاقة ،أو يرتدي لباسا غريبا عما هو سائد، كان مرشح لينال حظه من الاستهزاء المقرف،وهو ما ترتب عنه تصنيف متدرج لمكونات النسيج الاجتماعي في المدينة(سوسي،حياني،ات
لقد كانت ظروف التفاوت الطبقي وانعكاساته قد وجدت تربتها الخصبة فيما صنعه المحتل الفرنسي،ذلك أنه قسم المدينة إلى نمطين من العمران المتباين :
لقد أنشأر حيا راقيا خاصا بالأجانب وبعض الأطر المحلية، وقد عرف هذا القسم من المدينة بالحي الأروبي،ويقابله حي وضيع للعمال لا يضمن الحياة الكريمة للأسر،وهو ما عرف بالحي المغربي الذي لم يحل دون إنجاب أطر عالية في كل القطاعات.
في أواخر الستينات من القرن الماضي،خاض عمال جرادة إضرابا لم يسبق له مثيل،ذلك أنه طال أكثر من اللازم حتى أصبحت الشركة مهددة بالإفلاس ولم تجد أي من المساعي التي قامت بها الجهات المعنية.
عندما فشل الحوار،وقامت شبه حرب بين الصامدين من العمال و،،الخونة،،لجأت الدولة إلى حل لم يخطر على بال أحد،ذلك أنها وأمام تعنت العمال،فقد جلبت من مدينة طانطان عدة حافلات من أبناء هذه المدينة ليكسروا إضرابا تجاوز كل التقديرات.
استؤنف العمل وعاد،،الدبو،،لإعلان أوقات العمل الرئيسية،بينما كنا -معشر الصغار-نسعى للتعرف على ،،طانطان،،وهو اللقب الذي أطلق على من وفد منها من عمال ليعيدوا الحياة إلى أعماق الأرض.
سادت بيننا قناعة بأن طانطان هم رجال يختلفون عمن سواهم ببنيتهم القوية وتخلفهم الذي تعكسه طريقتهم في المشي واللباس،وما هي إلا شهور حتى تحول أبناء طانطان إلى مادة للتندر بين أبناء جرادة القدامى لينضاف هؤلاء العمال إلى خانة أبناء عمومتهم من سوس.
لقد نسجت أفكار غير مؤسسة عديدة حول بعض أطياف النسيج الاجتماعي في مدينة جرادة،وكان الباحثون عن تميز وهمي يكلفون أنفسهم عنا إيجاد،،إيتيكيت،،مشبوهة في مصامينها
يلقصونها بهؤلاء البسطاء الذين جابوا مئات الكلمترات للبحث عن لقمة خبز مضمخة بالدم.
لم نكن نعرف عن طانطان إلا أنها مدينة ،،أقل شأنا،،من جرادة،دون أن نعرف موقعها!
كان يلزمني-شخصيا-عقود طويلة لأزور هذه المدينة التي ما إن رسمت فيها أولى خطواتي،حتى تمنيت لو يتم حذف كل ما علق بذهني عنها عبر خطاب يقطر اندفاعا وبعدا عن الحقائق.
حسبك من طانطان الأنيقة أن تصادف إحدى نسائها الساحرات بجمالهن المتفرد ولباسهن اللافت لتعتذر لأولئك الرجال الأشاوس من أبنائها الذين أنقذوا مدينة الفحم من موت مبكر.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *