الاعتداء على الأستاذ داخل القسم همجية داخل المدرسة العمومية،

لو حدث الأمر في بلد آخر، للتعليم فيه قيمة أخلاقية وجمالية، لتوقفت عقارب الزمن و »مادتْ بنا الأرضُ » و »مادتْ رواسيها »
أي رؤية استراتيجية؟ أين غابت الوزارة؟
لم أشعر يوما بالأسى كالذي شعرت به وأنا أنظر للأستاذ يتعرض للجلد من طرف مجرم داخل حجرة الدرس على مرأى من شلة مجرمين من أبناء الشوارع. أنا الذي اعتقدت طوال 36 سنة ممارسة في مجال التدريس بالمؤسسة العمومية تدريسا ونضالا نقابيا وسياسيا، ولا فخر، أن لا أحد يمكنه زحزحة اعتقادي وقناعتي في أن مجال التعليم هو السبيل لرقي الأمم، لكن مع سلسلة الاعتداءات التي أضحى يتعرض لها الأستاذ الممارس، تحولت قناعتي إلى خيبة تنضاف لعدد من الخيبات السياسات المنتهجة في شتى القطاعات العمومية، التي سأحملها معي إلى الثرى، فيبقى التعليم حرقة في القلب وغصة في الحلق، عزائي أن إيماني بالتغيير راسخ، لأنه قادم و »دوام الحال من المحال »، ثم وعيي تماما الوعي أن الاختيارات السياسية القائمة ببلد كالمغرب هي التي لا تريد لسفينة التعليم أن تمخر عباب اليم ليغترف أبناء المجتمع من بحر العلم والمعرفة والفكر والتربية، لاستشراف المستقبل وبلوغ الركب الحضاري، فكانت النتيجة ما هو عليه البلد الآن .. شعب لا تنطبق عليه هذه الصفة، لأن الشعب حمال لمفاهيم ثقافية تنم عن وعي وقابلية للتطور، أما هذه الكتلة التي تحتل الشوارع والملك العمومي والتشرميل وتبيع أصواتها للجلادين وتمتهن السمسرة وتنتج المجرمين وقطاع الطرق والمفسدين والمرتشين وناهبي أموال القطاعات العمومية والباثين للفوضى والمحتالين ومن لا غيرة لهم على البلد والخنوعين والصامتين واللامبالين والانتهازيين والوصوليين والمسؤولين منعدمي الضمير … كل هؤلاء لا تنطبق عليهم مواصفات شعب، لأن الانتماء للبلد لا تؤكده بطاقة الهوية وشهادة السكن، باعتبار أن التاريخ تصنعه الشعوب.
أما مسلسل إهانة نساء ورجال التعليم، فهو مشروع بزغ مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين كان يزج بهم في المعتقلات بسبب نشاطهم السياسي وحراكهم داخل المجتمع، ثم تضييق الخناق على العمل النقابي والحريات العامة، والأجر الزهيد، وبعدها الانتقال إلى سياسة « النكتة »، وهي تلك الصورة الكاريكاتورية التي عمد المخزن إلى الترويج لها بشتى الوسائل وسط مجتمع يعيش الفراغ وتنتشر فيه المقاهي بشكل لا ينتهي، والفراغ كما هو معلوم حافز على النميمة والغيبة والتنكيت والافتراء واقتفاء عورات الآخرين والتدخل في شؤون الغير ونقل الأخبار « تشكامت »، وغيرها من السلوكات التي أضحت ظاهرة في حاجة لمقاربة سوسيوثقافية، لأن الأمر يتعلق بعلة يعاني منها المجتمع. ثم طفق المخزن يرتب للاقتطاع من الأجر بسبب الإضراب وبعدها بسبب نهب صندوق التقاعد … والخطير في كل هذا، انتهاج المخزن سياسة تأليب أفراد المجتمع على فئة المدرسين وجعلهم عرضة للسخرية وإثارة الضغينة والحقد تجاههم، باعتبار أن هيئة التدريس تتقاضى أجرا ولها تقاعد وتستفيد من كذا وكذا من الامتيازات … وهذا الخطاب دفعني لإجراء بحث ميداني بسيط على عينة من ساكنة وجدة خلال صيف 2017، تختلف من التاجر المتوسط إلى الصغير إلى الفلاح أو الكساب المستقر بالوسط الحضري وبعض المتقاعدين من قطاعات أخرى، إناثا وذكرانا، وكانت الأسئلة متنوعة وبداخلها سؤال جوهري عن نظرتهم لموظفي قطاع التعليم، فصدمتني النتائج، بحيث أن أزيد من 90% من الفئة المستجوبة تعتبر نساء ورجال التعليم عالة على خزانة الدولة وأنها تأخذ رواتب « خيالية »، على حد تعبير بعضهم، دون فائدة ترجى، وهم يستفيدون من العطل، وعملهم لا يتجاوز 3 أشهر خلال السنة وووو خطاب غير بريء أنتجه المخزن وبثه بين شرائح المجتمع، ورافقتها سياسة محاربة العنف داخل المؤسسة التعليمية ونبذ استعمال العصا أو الضرب عند التدريس، ثم انتقل الأمر لنبذ العنف الشفوي أو المعنوي أو النفسي وغيرها من التسميات، وصولا إلى إرساء ما اصطلح عليه « مراكز العنف » داخل المؤسسات التعليمية بين الناشئة، ليتحول الأمر إلى ممارسة يومية بين جدران المؤسسات، بعد أن تخلت الأسرة عن دورها في التنشئة، وتقهقر دور المدرسة العمومية، وتشكلت مجالس ومجالس تتدخل في شأن تدبير المؤسسة التعليمية، ناهيك عن البرامج المفرغة من أي قيمة أخلاقية أو جمالية، لتكون النتيجة التطاول حد الإجرام على الأستاذ الذي كاد أن يكون رسولا، بعد أن عمد المخزن إلى تبخيس دوره ودحض شخصيته والاستخفاف بمردوديته وتشويه صورته وتقديمه في وضع من ينهب المال العام بشكل غير مباشر، لدرجة أضحى معها مثل هؤلاء، أقصد عينة البحث، يحملون الضغينة لنساء ورجال التعليم، كل هذا في غفلة عن قطاعات أخرى غير التعليم ومن يحصل على دبلوم من الخارج، خاصة روسيا وأروبا الشرقية، وما أداك ما تلك الديبلومات، ليأخذ له موقعا داخل المجتمع دون حسيب ولا رقيب ويصبح هو ذاته ينهش في سمعة وقيمة رجال ونساء التعليم، ثم هناك عامل آخر، هو التوجه نحو التعليم بالمؤسسات الخصوصية التي ليست في متناول عامة أفراد المجتمع، بمن فيهم ذوي الدخل المتوسط، ونحن لا نبغي هنا التقليل من أهمية التعليم الخصوصي لأنه أضحى يشغل مساحة لابأس بها من جغرافيا المؤسسات التعليمية، وله حضور قوي، ويحقق نتائج عالية، فقط أوردت الأمر للتذكير بأنه إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي كانت المؤسسة الخصوصية والدروس الخصوصية للفاشلين، باعتبار أن المدرسة العمومية ظلت، رغم كل السياسات المنتهجة لإقبارها، تخرج الأطر والمتفوقين وتضطلع بدورها كمرفق اجتماعي يستقطب اهتمام أفراد المجتمع ومحط ثقة، لكن مع توالي الإحباطات والتقزيم الذي تعرضت له المدرسة العمومية، لم يعد هناك متسع للتستر على ما دبر بليل لهذا المرفق الذي من دونه لن يستقيم شأن أي مجتمع، ومن هذه العينة من أعرفهم عن قرب، فمنهم من يمتلك أزيد من سكن، ومنهم من يستغل أرضا فلاحية وله أزيد من دخل أسبوعي، ومنهم من يمتلك أزيد من محل تجاري وما إلى ذلك، ومع ذلك فقد كنت أصغي لبعضهم وهو يندب حظه ويشكو بلواه، لأنه لم يحصل على وظيفة في القطاع العام، ومن بين الحالات الكثر الذين يمثلون أزيد من %35 من العينة المستجوبة، أصحاب سيارات الأجرة، فهم يحملون غلا كبيرا ضد رجال ونساء التعليم، فما إن تفسح لهم المجال إلا وينبرى الواحد منهم يعدد مناطق الخلل، لتكتشف في الأخير أن الأمر يتعلق بفشل دراسي، وأن السائق يعوض عن نقص تركب لديه تجاه كل موظف …
واقعة، أو لنقل جريمة الاعتداء على المدرسات والمدرسين، نتيجة طبيعية لسنوات من زرع الجهل بين أفراد المجتمع، وتخريج أجيال من الفاشلين وتضبيع أفواج من أبناء هذا البلد، ويمكن اعتبار الأمر من وجهة نظر متواضعة، غياب المحاسبة والاكتفاء بالإعفاء والبحث عن سبل جبر الخاطر وسياسة لفشوش، لدرجة تخال فيها المسؤولين في هذا البلد لا يقضون الحاجة في Le petit coin، كبقية خلق الله من البشر والأنعام والهائمة على وجهة البسيطة.
المسؤول الفاشل عدو للثقافة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن منظومة تعليمية بين مسؤولين لا يتمثلون طبيعة القطاع وحساسيته، فالتعليم أيضا قضية وطنية، تستلزم الشعور بالانتماء للمؤسسة وللمنظومة، من هنا نتساءل عن جدوى صباغة المؤسسات وهي منخورة من الداخل، حيث يبدو الأمر كمن يضع « لعكر على لخنونة »، فيطرح السؤال أولا عن نوع المسؤولين مركزيا، الكاتب العام والمفتش العام نموذجا، ثم المدراء الجهويون والإقليميون؟؟؟ من يحاسب من؟؟ جميعهم يمتحون من معين واحد… ثم الكم المهمل من رؤساء الأقسام والمصالح، ما الجدوى؟؟ ناهيك عن تنزيل مشروع « رؤية » الذي ذهب صاحبه؟؟؟ أعتقد أنه آن الأوان ليتوقف هذا العبث، لأن الأمر يتعلق بمصير أجيال قادمة، فجريمة الاعتداء على أستاذ داخل حجرة الدرس بتلك الطريقة الهمجية لا تقل خطورة عن اغتصاب فتاة الحافلة، لأن الفوضى العارمة التي يظهرها الشريط المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد غياب رئيس المؤسسة والحراسة العامة والمعيدين والأمن الخاص ووو، إذ لا يعقل ان يحصل كل ذلك الصراخ دون أن ينتبه الطاقم الإداري؟؟ ثم لماذا لم تبادر الوزارة المعنية لإصدار بيان تدين فيه الجرم المشهود، أم هو الـ weekend ؟؟؟ أما نهيق من برر ودافع عن المجرم فهو مردود عليه لأن المخلوقات كثيرة ومنها من لا اسم له وهو يدخل في نظام الهائمة، أي تلك التي تهيم على وجه الأرض دون وجهة، ولله في خلقه شؤون!!! فالجريمة لا يمكن تناولها معزولة عن واقع المؤسسة العمومية وتفشي العنف بها حد الظاهرة…
كان الناس ولا زالت القلة منهم تحب وتقدر المعلم بالفطرة، فجدتي الحاجة رقية بنت خرباش البويحياوية، كانت كلما شاغبت في البيت تقول لي بلسان أمازيغي جميل: » آذ ياس بباك أذيراح غار إيمسرمد نك » (سوف يعود والد ويراجع معلمك)، فالمعلم ظل يحتل مكانة خاصة في قلوب هذا الجيل من الآباء والأمهات، بل الواحد إذا أقدم على الزواج كان يلتمس من المعلم مرافقته لخطبة فلانة، وكان المعلم بأناقته ومظهره ومصداقيته، رمزا للنبل والخلق الحسن وقدوة للأجيال، وهذا يجعلنا نختم بالقول، إن المدرس نفسه رضي بالوضع الذي آل إليه وتراجع عن مكانته وحظوته داخل المجتمع وعن دوره الريادي … فحمدا لله الذي حشرني ضمن زمرة رجال التعليم ونسائه.
د. محمد حماس(باحث في التاريخ والتراث) وجدة





1 Comment
مقال رائع جامع مانع.ربما لهذه الاسباب جل نساء و لرجال التعليم البالغين سن التقاعد النسبي هربوا من مهنة أصبحت رمزا للذل و الانبطاح و الظلم في نظام الاجور و مقاييس الترقيات والعذاب و الاعتداءات على الأساتذة…أين النقابات و الجمعيات الحقوقية و الاعلام المرئي و المسموع الرسمي ؟تبا لمذكرات البستنة أو ما سموه العقوبات البديلة. نعم للزجر و الردع و السجن و المحاكمة و و لان الاوباش تخاف و لا تستحيي.