Home»Correspondants»إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية: ومضات في طريق التدبير الانتقالي والاستراتيجي

إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية: ومضات في طريق التدبير الانتقالي والاستراتيجي

0
Shares
PinterestGoogle+

                                                                              بلقاسم الجطاري
قليلة هي المحاولات الرصينة التي تناولت موضوع اللغات والثقافات المغربية بحياد وتجرد وموضوعية؛ بل ونادرة هي الدراسات التي قاربت الموضوع دون السقوط في مهاوي الإيديولوجية وبريق السلطة. ليس في الأمر طبعا ما يدعو للاستغراب إذا استحضرنا الشروط التاريخية التي وجد فيها المثقف المغربي نفسه بُعَيد الاستقلال، وكذا إذا استشعرنا تعدد قوى الجذب (المحلية والإقليمية والدولية) التي لم تكف عن ممارسة الغواية بما يحقق مصالح ومنافع جماعات الضغط المختلفة.
معظم الدراسات والبحوث التي جرت في هذا المضمار هي صدى تصورات تنظر إلى هوية البلد الثقافية من منظور الهيمنة والاستيعاب، أي من منظور يعطي لبعض المحددات الثقافية أهمية أسمى وأرفع عن غيرها، مبررة بذلك وضعا سوسيوثقافيا يتم فيه احتضان لغات وثقافات وتبخيس أخرى، مع ما يستوجبه هذا الاحتضان من الدعم والتشجيع المادي والرمزي والتشريعي إلخ.
هذه الدراسات الاختزالية كانت تجد لنفسها دائما منفذا إلى المنابر الإعلامية، العمومية والخاصة، ومن ثم إلى المؤسسات المختلفة، أولا لما يوفره الاحتضان المذكور من فرص للانتشار، وثانيا لما تقوم عليه هذه الكتابات من التبسيط الذي يصل إلى أفهام ذوي التعليم المحدود، و »الحماسة » التي تدغدغ مشاعر الانتماء الجماعي (القومي على نحو غالب) وتستثيره.
يمكن القول إن وضعا كهذا صار إلى انحسار، لاعتبارات عديدة، منذ بداية الألفية. وتم عوضا عنه تشكيل وضع ثقافي-أكاديمي جديد، وبخاصة في ما في يتصل بطرق تدبير قضايا اللغة والهوية. غير أن المسار الجديد الذي انطلق منذ الخطاب الملكي التاريخي (أجدير 2001)، وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سرعان ما اعتورته الصعاب والعراقيل، سواء ما تعلق بالمعيقات الموضوعية الناتجة عن فداحة المهاوي التي كان يتوجب ردمها في هذا الصدد، أو ما تعلق بظهور مقاومات تحكمها إرادة العودة إلى الوضع السابق، لتبرير خيارات وقرارات.
ولأن الشعوب والأمم تسير دوما إلى أمام، مستفيدة من عثراتها وأخطائها بفعل منطق التجربة والتراكم، فقد عرف المغرب حراكا اجتماعيا وسياسيا بداية العشرية الثانية، تم تتويجه بتعديل دستوري وضع نصب عينيه مواكبة الهموم الاجتماعية والسياسية القديمة والطارئة، ورسم خارطة طريق جديدة لمغرب الألفية الثالثة. وفي هذا السياق تحديدا، وكما كان منتظرا، تمت دسترة عدد من الهئيات والمؤسسات، إحداها المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية. وهو المجلس الذي سيكون على رأس مهامه (بناء على مشروع القانون التنظيمي 04.16) اقتراح التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال السياسات اللغوية والثقافية، والسهر على انسجامها وتكاملها (المادة 3 من الباب الثاني)، وهو ما يعني أن أهم مهام المجلس اقتراح صيغ تدبير الشأن الثقافي واللغوي بالبلد، في إطار علمي وأكاديمي وسوسيوثقافي شامل، بعيدا عن المزايدات والحسابات الظرفية وخيار الترضيات.
مهمة بهذا الحجم ليست سهلة على الإطلاق، لذلك ينبغي توفير حدود قصوى من شروط العمل المؤسسية الكفيلة بإنجاح التجربة. يمكن الاستئناس في هذا الصدد بما أنجزته هيئات مماثلة أو ذات صلة، بغية تجنب الأخطاء والمنزلقات التي فرملت عمل هذه الهيئات، ثم توضيح أنواع الإجراءات العملية وعرض شروط التدخل وملابساته، وشكل العلاقات البينية مع المؤسسات ذات الصلة بالشأن الثقافي واللغوي بالبلد. واعتبارا لحساسية الموضوع وأهميته الشديدة فقد ارتأينا المساهمة بهذه الورقة التوجيهية التي نعرض من خلالها تصورنا لبعض مرتكزات المشروع العلمي والسوسيوثقافي الذي ينبغي أن يؤطر هذه المؤسسة.
على المستوى التدبير الآني والانتقالي:
ينبغي التنويه بداية إلى الطابع العرضاني (كثافة العلاقات الأفقية مع مؤسسات وهيئات ذات مهام متباينة) الذي يميز وينبغي أن يميز عمل مؤسسة من هذا القبيل، ولهذا السبب تحديدا ينبغي مباشرة عمل مؤسسي يضع هذا المعطى على رأس مرتكزاته. هذا الطابع العرضاني يستلزم عملا واجتهادا خاصين، وبخاصة في مرحلة البناء، ذلك أن الشأن اللغوي والثقافي، لاعتبارات وقوعه في دائرة المشترك على مستوى مؤسسات تدبيره، يستدعي تعاملا استثنائيا، بحيث يكون لزاما على المجلس موضوع الحديث أن يحدد بدقة شديدة طبيعة المهام والصلاحيات المسنودة إليه، أي أن يحول الاختصاصات والصلاحيات التي سترد في قانونه التنظيمي (وليس في مشروع القانون طبعا) إلى مهام ذات طبيعة إجرائية صريحة، وأن يرسم حدود العلاقات التي ستجمعه ببقية المؤسسات، في إطار رزنامة التزامات واضحة بين كل الأطراف قوامها التعاقد، على نحو لن يُسمح فيه بفتح باب التأويلات والاجتهادات المتضاربة التي تؤدي في الغالب إلى تداخل الاختصاصات، مع ما يستتبع ذلك من صعاب على مستوى الحكامة والمحاسبة.
على مستوى التشخيص، لا بد من القول إن عملا جبارا ينبغي إنجازه في هذا الشأن، ذلك أن المؤسسة لن تنطلق من فراغ، بل ستواصل عملا تم الشروع فيه منذ عقود (لكنه يفتقر إلى العلمية والرصانة اللازمة)، ولذلك يفترض إجراء مسح علمي شامل للوضع اللغوي والثقافي بالبلد، سواء من زاوية تداولاته التعبيرية المختلفة، أم من زاوية طرق تدبيرها من قبل المؤسسات الموكول لها القيام بذلك (وزارة الثقافة- وزارة السياحة- وزارة التربية الوطنية والتعليم المهني- وزراة التعليم العالي- المجلس الأعلى للتعليم- المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية- أكاديمية محمد السادس للغة العربية (المؤسستان الأخيرتان من المرجح دخولهما تحت لواء المجلس الوطني موضوع المقال حسب ما ورد في مشروع القانون المذكور آنفا)…).
ينبغي القول أيضا أن خصوصية السؤال الثقافي واللغوي تتطلب من المجلس مباشرة مشروع تدبيري انتقالي يتم بموجبه اعتماد قاعدة التمييز الإيجابي في حالة التعبيرات اللغوية والثقافية التي لم تستفد من الدعم الدولتي منذ الاستقلال، أو تلك التي تم تبخيسها لاعتبارات إيديولوجية. وعلى هذا الأساس يجب البدء بإنشاء أطالس ثقافية ولسانية وجمع المتون والتعابير القولية وغير القولية، وأرشفة هذه المواد ورقمنتها إلخ. وذلك بالاستعانة بجديد الحوامل والمناهج والطرائق، والانفتاح على التجارب الدولية في هذا المجال، وبخاصة تجارب اليونيسكو وبعض الدول التي عمدت خلال العقود الأخيرة إلى دمقرطة حياتها الثقافية.
في هذا السياق الانتقالي دائما يجب المسارعة إلى إنقاذ بعض أشكال التعبير الثقافي المغربي التي تعيش مرحلة الاحتضار بسبب التحولات الاجتماعية الكونية وتأثيرات العولمة، وذلك عن طريق سن سياسة ثقافية مقاومة لحالة الذوبان والاستلاب، بابتكار آليات ومشاريع ومخططات تنموية شاملة تكتسب معها الأشكال المذكورة شروط حياة جديدة مواكبة لمستجدات العصر.
  على مستوى التدبير الاستراتيجي:
يشكل البعد الاستراتيجي حجر الزاوية في كل مشروع مؤسسي، وذلك لقيامه على قاعدة التخطيط البعيد المدى، وهو التخطيط الذي تتوفر له في العادة شروط الاشتغال الهادئ الذي ينأى عن الضغوطات والإكراهات المجتمعية الآنية المختلفة. يحتاج البعد المذكور عموما إلى شروط مادية وبشرية وكفاءاتية خاصة جدا. لذلك لا بد أن تتوفر لهذا المجلس هذه الشروط والكفاءات، لأن من شأن ذلك أن يجنب البلد نقاشات هوياتية مغلوطة كثيرة (طرح كثير منها منذ الاستقلال إلى اليوم)، وأن يسمح ببناء الهوية الثقافية المغربية على أساس متين يجعل من قبول الاختلاف قيمة القيم.
قاعدة العمل الاستراتيجي هي رسم صورة دقيقة للمغرب الثقافي الذي نريده في أفق عشرين أو خمسين عاما. وهذه الصورة المأمولة هي التي تحدد، من خلال اعتماد الكفايات الاستشرافية، ما ينبغي فعله ومباشرته منذ اليوم. بمعنى أن مغربا تخفت فيه مراكز الجذب الثقافي أو تتوزع على نحو عادل بين الجهات المختلفة، يحتاج منا مباشرة سياسة ثقافية وإدارية قوامها اللامركزية أيضا. وعلى هذا النحو مثلا سيكون من المفيد جدا أن يمتلك المجلس فروعا ومراصد جهوية تتولى دور الوساطة الأفقية والعمودية، بما يضمن توزيعا متساويا للمشاريع والأنشطة الثقافية المختلفة.
يحتاج المغرب أيضا إلى تدبير عقلاني ورشيد لعلاقاته الثقافية واللغوية بمحيطه المغاربي والإقليمي، وعلى هذا النحو ينبغي تشبيك العلاقات وتجسيرها مع كل المؤسسات الإقليمية ذات الصلة، بغية تقليص الجهد وتكثيفه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بأشكال تعبير ثقافية عابرة للأقطار، من قبيل التراث الصوفي الذي يشد المغرب شرقا وجنوبا، أو التراث الحساني الذي يربط البلد بموريطانيا الشقيقة، أو التراث الأندلسي الذي يشد المغرب شمالا وشرقا أيضا. وقبل ذلك كله طبعا يتقدم المكون اللغوي الذي يربط المغرب بالبلدان المغاربية والعربية. وفي هذا الإطار يجب تفعيل الرؤى الاستراتيجية التي تتجاوز الخلافات السياسية الظرفية المحكومة بالتوازنات غير المستقرة وقوى الضغط المتقلبة، وعوضا عنه تمتين الصلات والعلاقات بما يسمح بتقوية النسيج السوسيوثقافي، بما يخدم خيار الوحدة المغاربية.
ختاما، يمكن القول إن المؤسسة الثقافية موضوع الحديث مكسب ثقافي على درجة كبيرة من الأهمية، لكنه يحتاج إلى ذهنية تدبيرية غير تقليدية (غير محافظة بالمعنى التراثاني)، وإلى جرأة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، بعيدا عن الخطاب الشعبوي الذي يدغدغ عواطف الجماهير. كما يمكن القول إن تأسيس هذه المؤسسة من شأنه (إن توفرت له شروط العمل الدنيا) أن يعيد سؤال اللغة والثقافة إلى محضنه العلمي الطبيعي المكين، بعدما تفرقت به السبل، لردح من الزمان، سؤالا مباحا تتلقفه المؤسسات والأفراد بغير علم وإدراك، جاعلة منه شبحا مخيفا حينا، وسؤالا نافلا لا فائدة ترجى منه حينا آخر. هذا منتهى الرجاء، بيد أنه ليس بعيد المنال متى توفرت له الإرادة والعمل الجماعي.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *