Home»الوسائط الثقافية في تاريخ الثقافة المغربية المدرسة نموذجا

الوسائط الثقافية في تاريخ الثقافة المغربية المدرسة نموذجا

5
Shares
PinterestGoogle+

تقديم:
إن الثقافة بمفهومها البسيط هي « السمات الروحيّة والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون، والآداب، وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسيّة للإنسان، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات »وهي ظاهرة طبيعية، تتضمن مجموع العناصر الإنسانية التي تشكل فكر الإنسان وسلوكه وتضبط علاقاته مع غيره، أي مع الكون والحياة والناس. فيدخل فيها المادي، كالعمارة وما إليها من منشآت واللا مادي كالأفكار والقيم وما يرتبط بها من أنماط سلوكية وممارسات واعية أو عفوية، وما تعكسه من عادات وتقاليد وما إليها من نظم اجتماعية وغيرها، تكتسب بالتعلم والممارسة
وفي تاريخ المغرب يلاحظ الباحث أن المجال الثقافي تأثر عبر تاريخه بمشاريع الدولة و تدخلها في توجيه الثقافة، كما تأثر بقابلية المجتمع على قبول أو رفض هذه المشاريع. و قد تأتى لهذه المشاريع أن تستفيد من وجود آليات منتجة للثقافة او مساعدة على تطويرها، كما استطاعت أن تبدع وسائط ثقافية وعلمية أخرى جديدة، ساهمت بشكل مباشر في ترسيخ محددات ثقافية، وسمات فكرية، وعلوم معرفية، واختيارات مذهبية صنعت للمغرب شخصيته الثقافية بتعبير أدق هويته الثقافية.. هوية انصهرت فيها المؤثرات الثقافية الخارجية، وكل المؤثرات الثقافية المحلية القائمة… و نعني بالوسائط الثقافية هنا الوسائل المختلفة لتمرير الثقافة او عرضها او اكتسابها او نقلها او بناء المثقف و صانع الثقافة
و من أهم هذه الوسائط و هي كثيرة(المساجد، الرباطات ،الزوايا ،المدارس، الرحلات، الصلات. الكتب، المخطوطات، الفهارس…) تبرز المدرسة كمؤسسة منتجة للثقافة و موجهة لها .. و الحديث عن المدرسة هو جزء من الحديث عن تأثير هذه المؤسسة حين اصطبغت بصبغة التصوف (/الزاوية) على الشخصية المغربية و كذا تأثير الشخصية المغربية في ظهور هذه المؤسسة.. ولذلك نحتاج ان ننبه الى اهمية ان نستوفيها حظها من البحث و الدراسة لأنها وسائط أنتجت ظواهر ثقافية.. بل شكلت هي نفسها ظواهر ثقافية ما يزال امتددها حاضرا في ثقافتنا..
كتب André Colliezفي كتابه (حمايتنا) Notre protectorat marocain ما معناه عقب التوقيع على الحماية: » وجدنا أنفسنا أمام حالة واقعية، إذ وجدنا أمامنا بفاس جامعة القرويين التي زودت دول الإسلام الإفريقية طوال عشرة قرون بقادة الفكر، و التي لا يزال فيها سبعمائة طالب مغربي يتخصصون في القضاء أو العدالة كما وجدنا أيضا في الحواضر و البوادي عددا كبيرا من الكتاتيب القرآنية يمدها السلطان و الأوقاف أو مطلق الناس بما تحتاج إليه. نعم وجدنا أنفسنا أمام مجموعة زاهرة بديعة من المدارس صغرى و كبرى، تعمل تحت ظلال الأحياء الحضرية أو تحت خيام المداشر ».
ليس يهمنا هنا ضبط تاريخ ظهور المدرسة بالمغرب بل مستويات هذه المدرسة و دورها في نشر الثقافة و بناء المثقف.. يقول صاحب المدارس العتيقة و اشعاعها الادبي و العلمي : »قد تدرجت اسلاك ا التعليم ما بين الاولي المحلي في المدشر او القرية و المتوسط و العالي الجهويان في مدارس اقليمية كبرى و النهائي الوطني في جوامع عتيقة كجامع القرويين بفاس و جامع ابن يوسف بمراكش »
فنستشف من كلامه ان المدرسة اخذت أشكالا عدة روعي بها في الغالب المستهدف بعملية التثقيف فكان:
1 المدرسة / الكتاب: وهي كما قال ابراهيم بركات « عادة ما تتألف من قاعة واحدة غالبا ما تكون كبيرة و لكن قد تتعدد القاعات نادرا، كما قد يلحق بها ميضأة و مكان للشرب و قد يكتفى في ذلك بالمسجد المجاور » (، مدخل الى تاريخ العلوم ج1 ص15 ) كان يستقبل فيها الأطفال، ليحفظوا القران و ليتعلموا كتابته على الالواح الخشبية و يتعلموا أيضا الخط…
و المعتاد ان يكون الإمام للصلوات هو نفسه معلم الصبيان و أجرته على سكان القرية يؤدي كل منهم قدرا معلوما بحسب عقد المشارطة بينه و بين القرية. و قد حفلت كتب النوازل بمسائل كثيرة تتعلق بتعليم الصبيان و أجرة المعلم وما يجب عليه و حدود وظيفته و المادة المدرسة و أوقات تسريح الصبيان و معاقبتهم، و النزاع حول الأجرة.. وغيرها من القضايا التي نشـأت حول المدرسة/ الكتاب…فابن هلال في نوازل مثلا وجدناه يسأل رحمه الله عن تأديب الصبيان و ضربهم عن أفعال قاموا بها خارج المحضرة،و عن جواز ضرب المعلم الأولاد على التعليم، وعما يجب على المعلم، وهل يأكل مما يقدم للصبيان من الطعام عند ختم بعض السور،و مما حبس على الصبيان…و قد بدا جليا أن ابن هلال- في معالجته لهذه القضايا- كان متأثرا بالإمام أبي الحسن علي بن محمد بن مخلوف القابسي (324هـ 403هـ) صاحب كتاب الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين والمتعلمين، و بآرائه في التربية التعليم، لذلك وجدناه يأخذ بآرائه و يحيل عليها في أكثر من نازلة. كما يتضح من كلامه هذا…وأما ضرب المعلم الأولاد فالصبيان مختلفون فان فيهم القوي والضعيف فيضرب كلا على قدر طاقته وعلى قدر جرمه. قال القابسي رحمه الله -في كتابه المشار اليه- زجر المتخاذل في ضبطه أو في صفة كتبه بالوعيد والتقريع لا بالشتم، فان لم يفد القول انتقل الى الضرب، والضرب السوط من واحد الى ثلاثة ضرب إيلام فقط دون تأثير في العضو، فان لم يعد زاد الى عشر، ومن ناهز الحلم منهم، وغلظ طبعه فان لم يردعه العشرة فلا بأس بالزيادة. فالحاصل اعتبار حال الصبيان . وقد كان الصلحاء من المعلمين يضرب الصبي نحو العشرين وأزيد. قال القابسي: ومن اتصف منهم بأذى أو لعب أو هرب من المكتب استشار وليه بقدر ما يرى من الزيادة في ضربه قدر ما يطيق… »
2 المدرسة / المسجد: قامت عملية التثقيف بالمساجد لفترة طويلة على اساس اختيار الطالب لشيوخه و حلقات الدروس و انواع المعارف و المصنفات التي يرغب في دراستها منتقلا من حلقة إلى حلقة. و لا يوجد حد في الزمان للدراسة و لا للتدريس ; و يكفي الرجوع الى كتب الفهارس المغربية لنجد تكرار مثل هذه العبارات: جالسته كثيرا… حضرت مجلسه..
3 المدرسة / الرباط و الزاوية: و الرباط هو مكان يرابط به شخص او مجموعة من المؤمنين للعبادة و ربما للجهاد و حماية التخوم الإسلامية المجاورة للعدو (انظر ابراهيم حركات ص24) و الاصل في الرباط ان يكون محصنا ..يقول محمد المازوني: »استطاع أبو عبد الله بفضل سمعته الصوفية أن يحول رباط تيط إلى حاضرة علمية مصغرة، جمعت بين الشروط العلمية الضرورية و المستلزمات العمرانية لاستيعاب الطلبة و الوافدين.و تحت دواعي حماية الرباط شرع ابو عبد الله في تحصينه بسور ضخم … لربما كان الباعث مرتبطا بعوامل أخرى منها فكرة الجهاد المفتوح و ما يفرضه من على المرابط من يقظة و احتراس لحماية مكاسب المرابطة الروحية والمادية » (انظر: رباط تيط من التأسيس الى ظهور الحركة الجزولية ، ضمن: الرباطات و الزوايا في تاريخ المغرب منشورات كلية الاداب الرباط ص26) و للتأكيد على أهمية الرباطات نحيل على ما كتبه Henri Basset و Henri Terrasse: رباط تيط دراسة اركيولوجية ترجمة محمد الشياظمي ضمن كتابه تاريخ تيط.. » تمتد بقرب البحر جنوب غربي مدينة الجديدة و على بعد اثني عشر كيلومترا منها: أثار اسوار بساحة واسعة الارجاء و ما تزال اهمم نشأت هذه الاسوار من ابواب و حصون و ابراج قائمة البنيان في أغلبها، بينما لم يعد يميز بعض جدرانها إلا بعض النتوءات الظاهرة في الارض. اما وسط الساحة فتنتصب مئذنة ما فتئت شاهدة على ان مسجدا كان موجودا فيما مضى، في هذا المكان، كما ان مئذنة ثانية اوجد في مكان آخر اقرب الى البحر و هي المئذنة التي تشرف على زاوية مولاي عبد الله »(تاريخ تيط ص95)
فمعظم الرباطات بالمغرب لم تقطع الصلة بما يجري في المجتمع فكان » يرابط بها الشيوخ وطلبتهم للدراسة مع الوفاء بحاجات المجتمع في الوعظ و الإرشاد و التوثيق ..قام المجتمع و السلطة المركزية بدعم هذه المدارس و تقويتها إلى ان ظهرت الزوايا لتجمع بين الوظيفتين التعليمية التكوينية و التربوية الصوفية.. »و اهمية الرباطات و الزوايا كما نستنتج مما كتبه المؤرخون تكمن في تنشيطها للحركة الثقافية و التوعية الدينية خصوصا بالبوادي و المناطق النائية عن الحواضر و في احتضانها لغالبية الفئات القاعدية للمجتمع (انظر: مدخل إلى تاريخ العلوم، ابراهيم حركات، ص24).
و لعل من اشهر الرباطات رباط اجلو الذي أنشأه وجاج بن زلو اللمطي انشئ في القرن الخامس ، و منه تخرج على الخصوص عبد الله بن ياسين: المؤطر الروحي للدولة المرابطية (انظر: مدخل إلى تاريخ العلوم، ابراهيم حركات، ص24).
4 المدرسة / المدرسة : يعني لفظ المدرسة بناية مخصصة للدراسة أو للتخصص في علوم معينة .. والمؤكد أن اهتمام المغاربة بالمدارس يعود إلى زمن بعيد .. يذكر محمد المختار السوسي في كتابه سوس العالمة عن المدارس بالبوادي المغربية ان » أول مدرسة عرفت في بوادي المغرب الإسلامي هي مدرسة أجلو بضاحية تزنيت و ذلك في اواخر القرن الخامس و ربما كانت قبلها مدارس اخرى و ان كنا لا نعرفها الان ثم تتابعت القرون و المدارس تتكون في السهول و النجود الى اتجاوزت المائتين »( سوس العالمة).
و نميز في هذا الاطار بين مدارس شعبية على حد تعبير المختار السوسي هي التي » يقوم بها الشعب بجهوده الخاصة و لم تعرف قط إعانة حكومية و كثيرا ما تكون في كل قبيلة مدرسة او مدارس متعددة ان كانت القبيلة كثيرة الافخاذ فتبني كل فخذ مدرستها على حدة » و هذه المدارس كما يشرح المختار السوسي تسمى مدارس علمية تمييزا لها عن كتاتيب القران التي لا يخلو منها كل قرية قرية و ان صغرت. : و مدارس رسمية يعود وجودها حسب ابراهيم حركات الى القرن السادس »و ما قبل ذلك على ما يظهر عبارة عن مؤسسات خاصة لا تخضع بالضرورة لتوجيه رسمي او لاعتبارات هندسية مضبوطة » ( مدخل الى تاريخ العلوم: إ. حركات ص25)
ويُسجل الى جانب هذه المدارس مدارس علمية اخرى تقوم عليها اسر علمية يتوارث مشعل التدريس بها ابناؤها وحفدتهم و قد ينتقل الى غيرهم من تلامذتها ان استوفوا الشروط العلمية التي تؤهلهم لذلك .. يقول المختار السوسي عن مدرسة تامنارت: » ناهيك بها مدرسة كان سيدي محمد بن الشيخ مدرسها و اولاده و احفاده، ثم كان امثال عبد الله بن يعقوب السملالي احد تلاميذها و قد بارك الله في هذه المدرسة و في احفاد مؤسسها.. » (ص156 ) و قد احصى المختار السوسي من هذه المدارس ما يناهز الخمسين مدرسة (انظر سوس العالمة ص 154 / 167) و في سبتة كما جاء في اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سَنِيِّ الآثار لمحمد بن القاسم الأنصاري السبتي: »و عدد المساجد الف مسجد من جملة العدد المدرستان: مدرسة الشيخ المحدث الراوية المعتني بالعلم و اهله المنفق ماله في نشره و اقتناء كتبه…علي الشاري الغافقي السبتي.. »
و حفلت كثير من المدن و الحواضر المغربية مثل فاس و سبتة و مراكش بمدارس اخرى يعود فضل انشائها الى امراء و سلاطين الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.
انشأ الموحدون على يد المنصور الموحدي المساجد والمدارس في بلاد افريقية و المغرب و الاندلس » (كما ذكر صاحب القرطاس، ابن زرع ص217)، من ذلك مدرسة الطالعة بسلا و مدرسة الحفاظ بمراكش و هي اهم المدارس و انشئت اول مدرسة مرينية بفاس عام 679هـ على يد يعقوب المنصور المريني و هي مدرسة الحلفائيين، و انشأ ابو سعيد عثمان (710 ـ 752) مدرسة بفاس الجديد سنة720 و اخرى غربي جامع الاندلس في السنة الموالية ثم مدرسة العطارين بجوار القرويين في حي العطارين سنة723 جاء في كتاب الاستقصا ما يلي: »في فاتح شعبان منها، أمر السلطان أبو سعيد ببناء المدرسة العظمى بإزاء جامع القرويين بفاس وهي المعروفة اليوم بمدرسة العطارين، فبُنيت على يد الشيخ أبي محمد عبد الله بن قاسم المزوار، وحضر السلطان أبو سعيد بنفسه في جماعة من الفقهاء وأهل الخير حتى أسست، وشرع في بنائها بمحضره، فجاءت هذه المدرسة من أعجب مصانع الدول بحيث لم يبنِ ملكٌ قبله مثلها، وأجرى بها ماء معينًا من بعض العيون هنالك، وشحنها بالطلبة، ورتب فيها إمامًا ومؤذنين وقَوَمة يقومون بأمرها، ورتب فيها الفقهاء لتدريس العلم، وأجرى على الكل المرتبات والمؤن فوق الكفاية، واشترى عِدَّة أملاك ووقفها عليها احتسابًا بالله تعالى » الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 3/ 112.و يعتبر أبو الحسن المريني (731 ـ 752) من اكثر ملوك المرحلة بناء للمدارس بنى مدرسة المصباحية قرب القرويين و مدرسة الوادي بفاس، و مدرسة بكل من تازا و مكناس و سلا و طنجة و سبتة و أنفا و ازور و آسفي و اغمات و مراكش و القصر الكبير..و على عهد السلطان ابي عنان بنيت المدرسة العنانية ..عن مدرسة التي بناها بسبتة نعثر على الوصف المقتضب التالي: »و المدرسة الجديدة العظيمة البناء المتسعة الزوايا ذات الصنائع العجيبة و اعمدة الرخام و الواحه المتعددة الغالية الثمن »( اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سَنِيِّ الآثار ص28)و اكبر المدارس و اجملها المدرسة العنانية التي بناها السلطان ابو عنان من 751 الى 757
استمر بناء المدارس على عهد الدولة السعدية على الرغم من أن الوضع التعليمي في تلك الفترة كان كاسدا بسبب الجمود والاجترار والتقليد وحشو عقل المتعلمين بالمنظومات والمختصرات العقيمة، ليعرف نشاطا أوسع في العصر العلوي من خلال عصر انتشار المدارس العتيقة وبناء المساجد والمعاهد الدينية والروابط والكتاتيب واتساع شأن الزوايا في التهذيب الروحي والتثقيف الديني.

سير الدراسة من خلال مخطوط:
 » الرسالة المجازة في معرفة الإجازة  » ابن ميمون ( 854هـ – 917 هـ )
و هو احد الطلاب الذي انتسبوا لجامع القرويين..
علي بن ميمون (854 ـ 917 هـ) صاحب الرسالة المجازة  » الرسالة المجازة في معرفة الإجازة ا.. كتب يصف يومياته بجامع القرويين قائلا: لتي نقتطف منها ما يلي : » … بعد ذلك دخلت إلى هذه المدينة المباركة المذكورة فاس، والتزمت علماءها المذكورين المدة المذكورة إلا قليلا والله أعلم. فبقيت في المدرسة متجردا نحوا من سبعة أعوام والله أعلم…وكنت في حال التجريد في المدرسة وهو الشتاء أكلنا فيه من وقت العشاء إلى وقت العشاء. لا يمكن الأكل في النهار لكثرة المجالس في أنواع العلوم. فأول ما يستفتح يومنا بمجلس شيخي الذي أخذت عنه معظم ما يسر الله لي فيه من الفقه والحديث، وله ثلاثة مجالس في مجلس واحد. يبدأ أولا بالحديث، بالنقل الغزير الكثير مما يحتاجه الحديث من معرفة نسب الراوي ومكانته، واللغة والإعراب، والفقه، وغير ذلك. ثم بعده مجلس في رسالة ابن أبي زيد بالنقل الكثير أيضا من شارحيها، ومعظمهم الشيخ الجزولي… ثم بعده مجلس المدونة باللفظ الكثير المفرط من كلام مشايخ المدونة من أولهم إلى آخرهم. فيشرع عند شروق الشمس ويفرق أحيانا قرب الزوال. فنخرج في الحين إلى مجلس الأستاذ القارئ السبع نحضر عنده التفسير ثم الإعراب الكبير والصغير ثم ألفية ابن مالك الطائي في النحو، ثم يأتي بالفور مدرس هذه المدرسة التي الأستاذ المذكور يعلم فيها يجعل مجلسا في المدونة ينقل كلام شيوخ المدونة وعلماء المذهب، كما كان عمل شيخنا المذكور قبل، إلى أذان الزوال ننصرف من ذلك ونأتي مجلس أستاذ آخر… فنحضر عنده مجلسين في النحو أولهما في كتاب يقال له المدخل للإمام الصالح الأجرومي المصمودي، وبعده في ألفية ابن مالك المذكور قبل إلى أن يقرب آذان العصر فننصرف ونأتي خزانة الكتب التي يطالع طلبة العلم فيها على ما يحتاجون إليه المشايخ وغيرهم كل واحد على ما يشتهي، وذلك لأن فاسا المذكورة فيها خزانتان بل أكثر لكن خزانتان عظيمتان مشهورتان لهذا الأمر، في جامعي الجمعة وهما المسجدان الأعظمان، بل ثلاثة، كل خزانة فيها كتب موقوفة على طلبة العلم للمطالعة كل يوم، على يد وكيل ناظر على ذلك، حافظ له. يجلس المطالعون بين يديه في موضع خاص حتى إذا قضى كل واحد غرضه يرد الكتاب إلى الوكيل ويرده الوكيل إلى الخزانة، من صلاة الظهر إلى صلاة العصر. والكتب كثيرة لا تكاد تحصى إلا بمشقة في كل فن من فنون العلم… فنقعد في الخزانة للمطالعة إلى أن تقام صلاة العصر فترد الكتب إلى خزانتها وتسلم بيد الوكيل وننصرف بعد صلاة العصر إلى بيوتنا بالمدرسة نتسبب فيما نأكل فنفرغ منه أحيانا بعد المغرب ثم نأتي بعد لمجلس شيخي المذكور الأول فنقعد عنده في مجلس قراءة موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه في الحديث بنقل مشايخ العلم من مذهب مالك، إلى آذان العشاء الآخرة ثم نأكل أحيانا بعد المجلس وأحيانا قبل المجلس والله أعلم. أعني بعد صلاة العشاء الآخرة، ثم نشتغل بعد ذلك بتعلم الحساب، وله وللفرائض مجلسان في كل يوم خميس وجمعة، نستمر على ذلك حتى لا ننام إلا غلبة، ونستيقظ آخر الليل بوقت كل واحد على قدر همته.هكذا أيام الأسبوع كله إلا يوم الخميس ويوم الجمعة فنحضر بثلاثة مجالس غير مجلس الفرائض والحساب المذكورين. من أراد غير ذلك وكان مجتهدا. هذا الأمر في زمن الشتاء كله. فإذا فرغ يخف هذا الكد شيئا ما ».
فالدراسة إذن كانت تأخذ من يوم الطالب معظمه، وكانت مجالس التعليم تتعدد بتعدد العلوم المدرسة. وكان على الطلبة أن يحضروا جميع المجالس، كما كان لبعض الشيوخ أكثر من مجلس يلقن فيها علوما مختلفة، كما يتضح مما جاء في فهرسة ابن غازي – و هو يتحدث عن شيخه أبي عبد الله الصغير-. يقول: »لازمت مجلسه سنين في تفسير القرآن العزيز… ولازمت كذلك مجلسه في تجويده الممزوج بالإعراب والبيان والتفسير وأحكام القراءات وتوجيهها. ولازمت مجلسي إقرائه لألفية ابن مالك… وكان يعول في الدراسة على حفظ النصوص، ولا يقدر – طالبا كان أو أستاذا- من لا يحفظ النصوص يقول ابن ميمون: » ما رأيت بلدا مثلها ( فاس ) ومثل علمائها في حفظ ظاهر الشرع الغزير، بالقول والفعل، وغزر الحفظ لنصوص مذهب إمامهم الإمام مالك رضي الله عنه، وحفظ سائر العلوم الظاهرة من الفقه والحديث والتفسير وحفظ نصوص كل علم مثل النحو والفرائض والحساب وعلم الوقت والتعديل والتوحيد والمنطق والبيان والطب وسائر العلوم العقلية. كل ذلك لا بد فيه عندهم من حفظ نص ذلك الفن، ومن لم يستحضر عندهما لنص على مسألة في علم ما إن تكلم فيه لا يلتفت إلى كلامه، ولا يعبأ به، ولا يحسبونه من طلبة العلم ».بل كانوا – أكثر من ذلك – يعتبرونه لصا، إذ كان شعارهم  » من لم يحفظ النص فهو لص « يقول ابن ميمون: » ولا يحسب عندهم من طلبة العلم إلا من يأتي بالنص في كل مسألة يتكلم فيها عن ظهر قلب، يحفظ النص كما يحفظ الآية من القرآن.وإن كان على غير هذه الصفة بحيث يقول من الكتاب أويقرأ ويقرئ من الكتاب يسمونه وراقا. وعبارتهم في حق من لا يحفظ النص حسبما ذكر « من لم يحفظ النص فهو لص  » ووجه الجمع بين هذا وبين اللص: المعلوم أن اللص يأخذ ما يجده من هنا ويأخذ من هنا ويأخذ من هنا، على نحو ما يجد الفرصة في الخلق، وليس له مقر ولا مأوى ولامسكن معلوم، فهذا الذي لا يحفظ النص، بل يأخذ مسألة من هنا ومسألة من هنا ومسألة من هنا ولا يحفظ الكتاب الذي يأتي منه بهذه المسائل فهو لص مثل الآخر إلا في الأحكام الشرعية لا يشبهه ». لذلك كان يشترط- كما يلاحظ من هذه الرسالة – فيمن يلتحق بالقرويين أن يكون حافظاً للقرآن والرسم والتجويد حافظاً للمصنفات والمنظومات وهي ذلك منظومة في الفرائض والحساب، ورسالة أبي زيد القيرواني.
فالنص يصف الحياة اليومية لطالب في النصف الثاني من القرن التاسـع الهجري، وهو يصور بكل وضوح معاناة الطالب في تحصيل الدروس المتصل بعضها ببعض تبتدئ من بعد صلاة الفجر، لتنتهي بعد صلاة العشاء!! وحتى تهيئ الطعام، وتناوله، لا يكون ومرة واحدة في اليوم!!
و أن المجلس الواحد كان يضم عدة دروس، وأن هذه الدروس تبدأ بعد صلاة الصبح مباشرة، ويذكر النص : أن الدرس الثالث يبدأ عند طلوع الشمس.
ويذكر ابن ميمون أن يومي الخميس والجمعة ـ وهما عطلة الأسبوع ـ لا يدرس فيهما إلا خمسة دروس فقط !!
و دعما لما حصل من الفنون و ترسيخها كان الطلاب يترددون
على المكتبات العلمية التي كانت متوفرة بفاس في هــذا العهد، ويذكر أنها كانت تتوفر على عدد كبير من المجلدات في مختلف العلوم والفنون، مجلدات يصعب عدها وإحصاؤها…
ثم يذكر أن عمل الطالب كان يخف ـ شيئا ما ـ في فصل الصيف. ومعنى كلامه أن الدراسة لا تنقطع في هذا الفصل، وإنما تخف فقط.
ومما هو جدير بالملاحظة من خلال يوميات هذا الطالب، أن المادة الواحدة تدرس بعدة كتب وبمستويات مختلفة، فالمادة الواحدة يدرها الأستاذ المبرز، ويدرسها الأستاذ المعيد قصد الاستيعاب التحصيل، وبشروح مختلفة، ليهضم الطالب المادة العلمية، ويستوعب مضمونها وجزئياتها.
و المواد التي ورد ذكرها في النص : الطب، والحساب، وعلم الفلك، والفرائض ـ علم المواريث ـ بالإضافة إلى التفسير، والحديث والقراءات بالسبع، والتجويد، والفقه، والبلاغة والنحو…وعلى الرغم من كثرة هذه العلوم وتنوعها فإنها لم تحظ جميعها بنفس الاهتمام والعناية، التي حظيت به العلوم الشرعية- فالفقه المالكي مثلا كان يعقد له أكثر من مجلس في اليوم- كما ورد في رسالة أبي الحسن بن ميمون- ( مجلس في رسالة ابن أبي زيد ومجلس في المدونة…)- و هذا يسمح بالقول إن( غلبة العلوم الشرعية وعلوم الآلة) ر.
نماذج من الكتب المدرسة .
وأما الكتب المعتمدة في التدريس فكانت تتنوع بين كتب المغاربة وكتب المشارقة، ولم تخرج عن مجال الكتب المعروفة المتداولة قبل هذا العصر، و التي ظلت تشكل المحور الرئيسي التي تدور حوله حلقات العلم في المساجد و المدارس لعصور كثيرة. نذكر منها:
أ – في القراءات:حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع للإمام الشاطبي //التيسير للحافظ أبي عمرو الداني//رجز أبي زكرياء الهوزي في مخارج الحروف وصفاتها. //الدر النثير والعذب النمير في شرح مشكلات وحل مقفلات اشتمل عليها كتاب التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني ـ تأليف عبد الواحد بن أبي السداد المالقي /الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع لأبي الحسن علي بن محمد بن علي الشهير بابن بري التازي(ت 731هـ)//مورد الظمآن فى رسم أحرف القرءان ) و معه متن( الذيل فى الضبط ) للأمام المقرىء محمد بن محمد بن إبراهيم الشريشى الخراز (ت645)
في الحديث وعلومه:موطأ الإمام مالك / كتب الصحاح ( صحيح البخاري خمخوصحيح مسلم وصحيح ابن حبان )/ كتب السنن المعروفة ( سنن أبي دواد والنسائي والترمذي… وغيرهم ). بالإضافة إلى كتب أخرى في علوم الحديث من أهما:/علوم الحديث لابن الصلاح./ألفية العراقي وشرحها له أيضا. /الإلماع إلى معرفة أحوال الرواية وتقييد السماع للقاضي عياض./ الفصل بين الراوي والواعي لابن خلاد .
في الفقه: مدونة الفقه المالكي لسحنون. /كتاب التهذيب للبرادعي./ الرسالة في الفقه المالكي لابن ابي زيد./مختصر الإمام ابن الحاجب الأصلي والفرعي./مختصر الشيخ خليل
في النحو: لامية لأفعال لابن مالك ,/ كتاب سيبويه./تسهيل ابن مالك./مغني ابن مالك./شرح ابن عقيل على الألفية
ان هذه المدارس بالمغرب بمن كان يتولى التدريس فيها و بما كان يدرس و بتوجيه و تشجيع من الانظمة المركزية للدول المتعاقبة على المغرب ساهمت بشكل مباشر في ترسيخ محددات ثقافية، وسمات فكرية، وعلوم معرفية، واختيارات مذهبية معينة كرست ثقافة المذهب الرسمي الواحد المذهب المالكي فقها و الاشعري عقيدة، باستثناء فترات قصيرة

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *