الأسس النفسية لتحقيق السلم في الفكر الإسلامي

الأسس النفسية لتحقيق السلم في الفكر الإسلامي
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،وجدة ،المغرب
أولا: الإسلام و عقيدة التقعيد للسلام
1) مسألة السلام في العالم هي قضية وجود قبل أن تكون مطلبا اجتماعيا وسياسيا دوليا .فهو له مقدمة وحدود بشروط ونتائج لا بد من تعقبها لملامسة الموضوع والاقتراب منه رويدا رويدا.
كما أنه مبدئيا يمكن، بل ينبغي القول، بأن تحقيق السلام على الأرض قد كان وسيبقى عبر الأزمان يدخل في حكم النسبية المتوسطة أو الضعيفة ولم يحاذ الأغلبية أو الإطلاق أبدا، مهما حاول المصلحون جهدهم وبالرغم من توالي الأنبياء والرسل على رأس قائمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم وسيدهم بل سيد الخلق أجمعين، وبالرغم أيضا من بعثته برسالة هي أعظم الرسائل في باب السلام وكمال الدين عبر كل العصور.
في هذه الرسالة بالذات نجد مقدمة وجودية تحدد لنا العلاقة الجدلية بين تدافع العناصر وتوافقها ومن ثم تأرجحها بين التآلف والتنافر وبين الحرب والسلام والتقارب والتباعد العنصري والنفسي والسلوكي معا.
فتعريف الدين وتحديده في الإسلام هو قول الله تعالى: »إن الدين عند الله الإسلام »و »من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخر من الخاسرين » ومن حيث تحديد سلوك المتدين فهو : »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ».
بحيث عند هذه القواعد الجملية سيتأسس مركز السلم والسلام وشروطه التي ستبقى دائما كما قلت تدخل في حكم النسبية ،ولكنها مع ذلك نسبية إيجابية مهما تضاءل حجمها وعددها نوهي أيضا حاسمة لا يمكن تحقيق غيرها أو الاستغناء عنها لتحقيق التوازن في الكون والمجتمع وبين الدول والأمم.
فالدين هو الإسلام ،مشتق من السلم والسلام ،وغيره مما لا يقر السلم والأمن في البشرية والعالم لا يمكن أن يكون دينا ولا يستحق اسمه أو وصفه ،كما أن المتدين لا يجوز أن ينسب إلى الدين ويحمل وسام شرفه إلا إذا وافق سلوكه جوهر هذا الدين وغايته ألا وهو السلم المقصي كليا لكل أسباب الإذاية وإحداث الضرر في المجتمع البشري والبيئة أو إهدار وتدمير المساكن الآمنة والممتلكات.
وهذا التدمير واختراق قواعد السلم لا يتم إلا بآلتين حادتين ليس هناك أخطر منهما :ألا وهي أولا: آلة اللسان بالتحريض والاستفزاز والكذب والبهتان والنميمة والغيبة والطعن واللعن ،وثانيا : آلة الإعلام المرتبطة باللسان أو الكتابة والصورة أو بالكل وذلك عبر الوسائل العادية من جرائد ومنابر وكذلك الوسائل المتطورة والأسرع انتشارا من النار في الهشيم كالقنوات ومواقع التواصل في الإنترنيت وما إلى ذلك.
وللحيلولة دون هذا الصدام بين المؤهل للسلم وغير المؤهل بحكم التناقض الواقعي في المواقف والقناعات والسلوك فلابد من وجود قاعدة علمية تنبني على عنصري التكوين والتوعية في بث للأصول العلمية للسلام ،ثم عنصر العلاج المبدئي والجزئي القائم على قمع وتحييد العارض حتى يمكن تنفيذ بنود السلام من غير عوائق أو فساد أو قطع لعرى الأرحام والمواثيق والعهود .
هذان العنصران قد نستلهمهما من أول خطاب إلهي يخص الإنسانية ومبدأ وجودها المتمثل في هذا الحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته المقربين حول خلق آدم وتحديد وظيفته وطبيعته كما يقول الله تعالى: »وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟.قال:إني أعلم ما لا تعلمون.وعلم آدم السماء كلها … ».
وكأني عند هذا الحوار أن الله تعالى قد أعطى للملائكة جزء من الكشف عن العيِّنة الأولى من بني آدم ،وعلى الخصوص قصة قابيل وهابيل التي ستمثل نقطة البداية في التأسيس للحرب والعنف والتدمير وتكريس قاعدة الظالم والمظلوم وهضم الحقوق: حق الخالق وحق المخلوق.
إذ لولا تضييع حق الخالق لما ضُيع حق المخلوق ،وعلى رأس هذا الحق الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم بمجرياته التي تقتضي التزام كل مخلوق بما قدر له من نصيب قار ومن دون التطلع بغير حق إلى مزاحمة الآخر في حقه وحيزه من غير ضرورة ولا استحقاق معتبر .
وهنا ستتأسس جدلية الحلال والحرام واحترم أو اختراق المقدس وأيضا اعتبار السلطة العليا عند توظيف السلطة الدنيا،بحيث ستكون الأولى هي الضامنة للانتظام في الأرض والتساوق في الحقوق والواجبات على قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2) يقول ابن عطاء الله السكندري كتقريب للمعنى: »منعك أن تدعي ما ليس لك من المخلوقين أفيبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين « .
ويشرح ابن عباد الحكمة بأنه » لا حظ للعبد من صفات مولاه إلا التعلق بها فقط وأن ادعاء شيء منها من كبائر معاصي القلب ومن مشاركة المربوب للرب ومن مقتضى الغيرة التي اتصف بها وأعلمنا بشأنها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: »لا أحد أغير من الله تعالى ،ومن غيرته أنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ».تحريم ذلك على العبد والتسجيل عليه باستحقاق الطرد والبعد ،ومن أفحش الفواحش عند العارفين وجود شيء من الشركة في قلب العبد بادعاء شيء من أوصاف الربوبية لنفسه عقدا أو قولا،لأن ذلك منازعة له وتكبر عليه ،وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: »قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :قال الله عز وجل : »الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحدة منهما ألقيته في النار ».
ومعنى المنازعة الدعوى قولا وعبارة والإضمار فعلا وإشارة،ومعنى الغيرة في حقه تعالى أن لا يرضى بمشاركة غيره له فيما اختص به من صفات الربوبية وفيما هو حق له من الأعمال الدينية.وإذا كان الحق تعالى مانعا لك ومحرما عليك أن تدعي ما ليس لك مما أعطى المخلوقين من الأموال ومسميا ذلك ظلما وعدوانا فكيف يبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين لا شريك له في ذلك لا أنت ولا غيرك ،فهو إذن من أعظم الظلم وأشد العدوان « [1].
والحرب أو العنف المتطرف هو المظهر الأجلى للعدوان والظلم لكنه في الحقيقة لم يأت من فراغ وإنما المحرك له ذاتي ونفسي يحتاج معه المرء فردا كان أو جماعة إلى استبطان مركز وملاحظة داخلية عميقة لاستخلاص الشعوري من اللاشعوري والمعقد من المبسط في أعماق النفس الإنسانية ،والتي في جلها إن لم نقل في كلها خطابات تغلي في الباطن الإنساني أو باطن باطنه كما يعبر الصوفية عنه،قد تحتاج إلى استخراج وإفراغ باستدراج وذلك على مبادئ ثابتة يصطلح عليها بالمراقبة والمحاسبة والمجاهدة والرياضة ،والتي تبدو عند الوهلة الأولى كأنها مصطلحات تقليدية ونفسية محضة ولكن عند التمحيص والتدقيق ستكون الأدعى والألح في التطبيق القانوني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي .
ثانيا:الخلفيات النفسية والتداخل السببي في تكريس العنف
1) هذه القواعد ستكون مركزة النظر في العقل الباطن كما يسمى في علم النفس الحديث وأثره على التوجيه السلوكي وتحديده،في حين سنجد في الفكر الإسلامي مقابلا لها وأكثر موضوعية وخاصة ما يعرف عند الصوفية بعلم الخواطر الذي ، يقسمونه إلى أربعة في الغالب وهي :الخاطر الرباني والملكي والنفساني ثم الشيطاني .بحيث إن كل خاطر له خاصيته ودلالاته وموضوعه بل باعثه وغايته،وهو قد يعني مبدأ الحركة والفكرة الأولى الواردة على الذهن قبل الشروع في عمل ما ،وهو مأخوذ من خطرات الريح التي تهب ثم تنكفئ أو تتوقف بسرعة فتترك أثرها على النفس واستقرارها وتوجهها.
وعند تحليل هذا الخاطر وضبط مصدره فقد يتأتى علميا وموضوعيا استخلاص الأسباب الرئيسية وراء هذا السلوك أو ذاك ،وذلك باستقراء علمي قار ودقيق كما نجد هذا النموذج عند أبي حامد الغزالي في سبره لأسباب الحسد والصدام بين الأفراد والجماعات وكذلك الدول ،فيقسمها من حيث الجملة إلى سببين رئيسيين وأساسيين يتلوهما سبب مزيج بينهما :
أـ السبب الموضوعي للصراع والعنف الواقعي والمحتمل:
وهذا ينبني على شعور الخوف من فوت المقاصد، أو بلغة العصر ضياع المصالح ،وهو يختص بمتزاحِمِين على مقصود ومطمع واحد،فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عونا في الانفراد بمقصوده ومن هذا الجنس – كما يقول الغزالي-« تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية ،وتحاسد الإخوة في نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه ، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم ، وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهة محصورين ، إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له ».
وهذا السبب الموضوعي والمحدد بحسب مجاله وطبيعة المصالح المتوخاة منه قد يمكن معالجته موضوعيا وواقعيا بإزالة مظاهره وتعقب كل سبب على حدة دراسة وتحليلا أو تطبيقا وتعليقا وتدرجا وموازنة،وبالتالي يمكن الحصول على تحقيق توافق اجتماعي وسياسي وأيضا دولي حينما تكون النزاعات على هذا المستوى وواضحة الخلفيات والأهداف والمطامع وذلك بتقديم تنازلات أو تراضي وحوار جدي ومبني على معطيات واقعية تحول دون الصدام المدمر والمؤسس على السلاح وتهديد السلم والأمن العام.
ب – السبب الذاتي والمرضي العنصري :
وهو قد يكون قائما على خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى « فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه،وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به ،فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ،ويبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة ،وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة ،ومعالجته ،في رأي الغزالي أيضا،شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها ،وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته ،إذ يستحيل في العادة إزالته »[2].
وهذا النوع من الأمراض يؤكد على أن السلم قد يبقى دائما في خطر وعلى تهديد مستمر مهما وضعت الأسباب واجتهد في تحقيقه على مستوى المداومة والاستمرار.
إذن فالبطالة وتفشي مظاهرها على المستوى النفسي والاقتصادي والاجتماعي قد تكون العامل الخطير في حدوث الصدام والسعي بغير هوادة نحو تدمير الذات والغير،خاصة إذا استعمل هذا السبب الذاتي النفسي من طرف صناع القرار في الحروب والمنازعات الدولية والإقليمية ووظف على أقصى مستوى من ترسيخ الاحتقان وتحريك الجبلات والطبائع المريضة من بينها : مسألة العرقيات والأقليات واختلاف اللغات،وهنا ينشأ الإرهاب والتطرف والانزلاق في حروب وعنف مدمر لا غاية ومقصد له، قد لا يستطيع ذوو القرار في السياسات العامة والخاصة التحكم في مساره،بل قد ينقلب عكسا على مرادهم وأهدافهم وتكون على نفسها جنت براقش !
إذن فالسبب الموضوعي والذاتي متلازمان على خيط رفيع قد يصعب فصلهما أو قمع أحدهما على حساب الآخر. بحيث حينما يحرك الأول يتحرك معه الثاني كمعول ووسيلة لتحقيق أهداف محدودة ،إذ المسؤولية ستعود أولا وأخيرا على أصحاب القرار السياسي والأخلاقي وأيضا على العلماء،وخاصة ذوي الصفة الدينية والتخصص كمسئولين مبدأ ونهاية وسلوكا عن السلم والأمن الاجتماعي والعالمي.
وهنا يكمن دور العلماء والتربويين في مبادراتهم الاستباقية للحيلولة دون تداخل السبب الموضوعي مع الذاتي واستعصاء الحل،وأيضا دون ترسيخ قواعد الكراهية والصراع وأسبابها وتثبيت مبادئ المحبة و العدالة والتواضع والحلم والتآلف مع إحداث جو من التغير الثقافي والتوعية السلوكية والصحة النفسية الإيجابية ،وهم بهذا قد يحولون دون طفو السبب التواضعي المتراكم عبر ثقافة وأعراف الأجيال على الساحة العامة والرسمية فتختلط الأوراق ويصعب معها الحل.
ج – السبب التواضعي والتغير الثقافي واللغوي :
إذ من أشد البواعث على الغضب والعنف والخصومة والصدام عند أكثر الجهال : »تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة،وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلا حتى تميل النفس إليه وتستحسنه ،وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح والشجاعة ،والنفس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه،وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل ،وهو لضعف النفس ونقصانها ،وآية ذلك انه لضعف النفس أن المريض أسرع غضبا من الصحيح ،والمرأة أسرع غضبا من الرجل الكبير ،والشيخ الضعيف أسرع غضبا من الكهل ،وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضبا من صاحب الفضائل .
فالرِّذْل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة ،ولبخله إذا فاتته الحبة،حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه،بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : »ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ».
بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن من كظم الغيظ فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء،وضد ذلك منقول عن…الجهلة والأغبياء والذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم »[3].
وعلى العكس من هذا فإن ذم الحسد والعنف أو النقد الصريح حيث يستوجب وجوده هو أيضا قد يكون مساهما في استمرار الظلم طالما أن المترفين يلعبون بالمال العام ويفسقون كيف يشاءون وينثرون الثروات عبر كل الجهات ولا محاسب ولا مراقب ولا معاقب !
هذا السلوك غير المسئول سيكون قالبا للمفاهيم الأخلاقية وواضعا المصطلحات في غير محلها،وحينئذ لا يسمى الحسد حسدا ولا المزاحمة مزاحمة طالما أن الحق مغتصب والمصالح مفوَّتة من غير وجه قانوني ولا أخلاقي أو اقتصادي معقول.فحينما يتمنى الفقير المدقع والمعطل المحبط زوال النعمة لمثل هؤلاء المسرفين وتميل نفسه إلى هذا الترجيح والرغبة في انتزاع حقه الضائع والمشاع بالقوة أو العنف فإنه يكون حينئذ واقعيا مع نفسه وحاجته ومظلوما في تموضعه حيث : »لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم « .فليزل الظلم ولتعد بعدها المفاهيم الأخلاقية إلى حقيقتها ووضعها المناسب واقعا وعرفا وثقافة،وليس هذا معناه إعطاء المبرر لهؤلاء المستضعفين أو المحبطين لكي يمارسوا القانون بأيديهم عنفا وقوة،إذ الصبر قد يكون مفتاح الفرج وليعلم عقيدة وقناعة أن »الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ».ولكن هذا فيه تنبيه لمن يرد أن يتفطن لحاله و ويتفقد خلفيات خواطره التي قد ترديه في خسارة الدنيا والآخرة معا.
فنحن هنا أمام تحديد ثقافي وسلوكي وتنميط علمي واجتماعي ضروري لتحقيق السلم الاجتماعي وذلك بمعالجة أسباب العنف والصدام في العالم من أجل تحقيق نسبي للنتائج الإيجابية المرجوة.
2) إن تحقيق السلم ينبغي أن تتعاون عليه هذه العناصر الثلاثة برمتها حتى يمكن أن يرى على أرض الواقع،إذ من حيث السبب الموضوعي فإن الخوف من فوات المقاصد سيؤدي بالضرورة إلى المزاحمة والمدافعة فيها وهذا هو مبدأ الصراع ،لكن الحيز لا يحتمل إلا كائنا واحدا فإذا تزاحم عليه اثنان أو أكثر فإنه لا يخلو أن يسطو عليه واحد غير الذي كان فيه أولا أو أن يدفعا عنه بتدافعهما فيبقى الحيز خاليا،وبالتالي سيصبح الآخرون على غير مأوى وعلى غير قابلية للاحتواء ،ومن هنا يحدث الانفلات الأمني وتنزلق الكائنات في التصادم المسترسل مع تهديد الاستمرار ، لأن من مظاهر استقرار الكون وأمنه الوجودي أن يكون كل جرم في فلكه »وكل في فلك يسبحون ».
إذ الكون قائم بالقسط والإنسان جزء منه فلابد إذن أن يخضع لهذا الميزان وإلا تكسر وتهدم « ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ».
وأهم ما ينبغي أن يعالج كسبب موضوعي لتحقيق السلام هو مبدأ العدالة النفسية والاجتماعية ثم بعدها السياسية والدولية : »يأيها الناس كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ».
فليس الغنى في حد ذاته أو الفقر قد يكون السبب الرئيسي في الصراع والعنف الاجتماعي والدولي لأن هذين الزوجين المتضادين والمتناقضين ضروري حضورهما واقعا لتحقيق عجلة التقدم والنمو وتأسيس المجتمع المدني المتكامل .لأنه لولا الفقر المؤدي إلى طلب الكسب وتحقيق الضروري والحاجي والكمالي من متطلبات الحياة العامة لما تم التعاون وقدمت الخدمات للناس ولما كان هناك إنتاج وفائض قد يتصرف فيه البعض بحرية سوف تختلف عن البعض الآخرين،فهم إما مستهلكون ومكتفون بما تحصلوا عليه وإما مستثمرون ومنميون لثرواتهم بالتجارة أو الصناعة والفلاحة وغيرها من طرق الكسب والمعاش.
كما أن الغِنى لا ينبغي أن يبقى حكرا على طائفة وأسر وسلالات معينة إلى الأبد وإنما ينبغي أن يكون متداولا بين الشعوب والأفراد والطبقات ،فمن لم يكن غنيا اليوم قد يصبحه غدا طالما هناك أسباب العدل وتكافؤ الفرص في الاستثمار قائمة به وغير محتكرة بالتوارث أو المحاصصة ومنطق الإقصاء.
ثالثا: النموذج النفسي من التاريخ ومقارعة الواقع:
1) يقول أبو حامد الغزالي حول مبدأ التكامل الوطني والمحبة والتواصل الاجتماعي لتحقيق السلم ،وهو بهذا الوصف قد سبق ابن خلدون ونظريته الاجتماعي: »اعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد (قد يتقارب هنا مع رأينا في الحيز وضرورة أحادية المتحيز كاستقلال وجودي).
فانظر كيف ألف الله بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم « لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ».
فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة ومتجاورة ورتبوا الأسواق والحانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه.
ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة ،وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر « [4].
فالأصل في العلاقة هو المحبة والتآلف لكن التعارض يبقى عارضا متى أزيح عاد الأمر إلى أصله ،ومن أعراضه الطمع كما يذهب إليه ابن حزم الأندلسي دراسة وتحليلا في كتابه »الأخلاق والسير في مداواة النفوس » باعتباره المحرك الأساسي للسلوك الإنساني والذي قد يكون فرديا واجتماعيا أو دوليا في صورة استعمارية وإمبريالية،لكن الأصل فيه واحد وهو وجود التهيؤ النفسي لدى الإنسان في السعي نحو تحقيق ما تشتهيه نفسه وتتمناه من غنى وجاه وحب للسلطة ورئاسة…
وهذا كله يدعو إلى الأثرة بدل الإيثار ويكرس حب الذات والأنانية والاستكبار مما يستدعي ممارسة استبطان دقيق ومتواصل وتأصيل وعي أخلاقي ونفسي عميق لتحصيل القناعة بما هو حق الشخص وما هو للغير كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : »ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس « ،الشيء الذي جسده الصحابة رضوان الله عليهم كأعظم مدرسة محمدية في الوجود لتحقيق السلم الاجتماعي ومعه الوطني والعالمي ،وذلك فيما وصفهم به الله تعالى : »ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة « .
بحيث ستصبح القاعدة عندهم هي أن »حسنات الأبرار سيئات المقربين »وذلك بإقامة الإحسان في العدالة لا مجرد طلب المساواة فيها والتكافؤ المؤسس للندية والمحاسبة على القطمير والنقير أو الفتيل.
هذا الإحسان قد يتجلى في أن يجعل الحاكم وغير الحاكم من نفسه سعيدا في قمة السعادة حينما يرى غيره قد تخلص من آلامه وازدهرت حياته ونجحت دراسته وأصبح سويا في المجتمع يعول ولا يعال .
وبهذا يتهيأ القضاء العملي على السبب الذاتي المتمثل في خبث النفس وجعل الآخر مرآة للذات أقرب للمنال كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : »المؤمن مرآة أخيه »و »لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».
2) هذه الصورة النموذجية عقيدة وسلوكا قد نجد بعضا من أمثلتها عند الصحابة الكرام وكذلك لدى شريحة مهمة من أفراد الأمة عبر التاريخ والواقع.
ففي السيرة النبوية وخاصة في مرحلة الحصار الظالم ،حصار الشعب ،شعب مكة: »لما رأى عثمان ابن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال:والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي !.فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:يا أبا عبد شمس وفيت ذمتك وقد رددت إليك جوارك »[5].
فعبارة « لنقص كبير في نفسي » تأكيد على ما صبونا إلى تأسيسه باعتبار أن المبادرة والحركة ينبغي أن تكون مبنية على ملاحظة الفكرة الأولى الصادرة من الداخل الإنساني وتحديد باعثها ثم وضع المقارنة الموضوعية بين واقع الذات والآخر وتوظيف وحدة الشعور لاتخاذ القرار الصادق .
كما أن هذا الموقف فيه درس لأولئك الذين يغررون بالشعوب نحو الثورات والتهديم الذاتي والوطني وخاصة في البلدان العربية والإسلامي،ثم هم يقبعون في فنادق خمسة أو سبعة نجوم ويتشدقون عبر القنوات خارج الأوطان ويغردون في قفص تويتر والفيسبوك، وهم مع كل هذا تحت حماية الأعداء والمتآمرين على الأمة والوطن يتفرجون في الحريق والمحروق لكي عودوا باستغلال البناء على الهدم مع مزاعم نجاح الثورات وتحرير البلاد ،ولكن أية بلاد هاته ؟
بلاد قتل فيها البشر ودمر الحجر وأحرق الثمر وبقي الجرذان يعيثون ويصولون لسلب الجثث و اغتصاب البنات واجتثاث النبات ،والأفظع منه ما هو آت إذ الكل أصبح في سبات !!!
في هذا السياق من عرض لنماذج أخلاقية وسلوكية عن رجال الأمة الذين كانوا يؤسسون للسلم من منطلق نفسي نجد هذه القصة عند بعض الصوفية كما يحكى : »عن السري السَّقطي أنه قال :منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي :الحمد لله مرة !!! قيل:وكيف ذلك؟.فقال:وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال:نجا حانوتك .فقلت:الحمد لله ! فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين « [6].
وكتعليق على نفَس أقول: كيف بمن يأسف على قوله :الحمد لله مرة ! لأن حانوته نجت من الحريق ويرى في نفسه أنه قد آثرها على غيرها في حادث لا دخل له فيه عمليا أو نية وإيماءة وتحريضا وبين من يسعى شعارا وجهارا وبمبررات لا علاقة للدين بها ولا العقل والفطرة السليمة إلى إحراق بغداد بل المنطقة بأسرها ومعها العالم أجمع ،مع إغراق الكل في بحور الدماء والدمار والنيران المشتعلة تعريضا وتحريضا وتفيضا وبالنيابة؟…
إن هذا الوعي الإسلامي بالمسؤولية الباطنية قبل الظاهرية لمن الضروري والملح أيما إلحاح بأن يصير النموذج الأرقى والرسمي في التكوين التربوي والاجتماعي والسياسي للأمة وأجيالها الصاعدة من أجل تحقيق الإحساس الحقيقي بالحياة وقيمتها الوجودية والغائية التي لا تعوض ،ولكي تجعل من المجتمعات مظاهر إنسانية كريمة ومتقدمة في باب التواصل والخدمة مع الاستعداد للتضحية بالمطامع الذاتية والتفاني بلا حدود ولا تطرف في إسعاد الذات والآخر عاجلا وآجلا.
ولهذا فإن الإسلام ،ومذاهب المؤمنين به، في صورته النموذجية الأخلاقية والروحية بالمعنى الذي ألممنا به سيبقى دائما في ممانعة من التطرف والعنف والإرهاب بشتى أشكاله وألوانه ،كما أنه يبقى دائما وأبدا المرجعية السليمة لإصلاح كل الطوائف التي ربما انزلقت من حيث لا تدري أو تريد في مهاوي السبب الذاتي الظلامي القابع في باطن الباطن أو عالم اللاشعور . هذا الهويُّ قد سبب للبعض اختلالا وغياب الرؤية عن تشخيص الأسباب الموضوعية تلتها ضرورة تراكمات عرفية وتواضعية فأدى بها إلى حسابات خاطئة من لا تربط بين التغيرات التربوية ووتيرة التغيرات الاجتماعية الجارفة في طل هذا الزخم المعلوماتي المهول « والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ».
[1] ابن عباد النفزي:شرح الحم لابن عطاء الله السكندري ،مكتبة نبهان ج1ص94
[2] الغزالي:إحياء علوم الدين ج3ص174
[3] الغزالي:إحياء علوم الدين ج3ص154ي العالم
[4] الغزالي:إحياء علوم الدين ج3ص104
[5] ابن كثير:السيرة النبوية ،دار الفكر ط2ج2ص60
[6] القشيري:الرسالة القشيرية ص10




Aucun commentaire