Home»Régional»حول آراء أدونيس المناصرة لاضطهاد المحجبات في فرنسا

حول آراء أدونيس المناصرة لاضطهاد المحجبات في فرنسا

0
Shares
PinterestGoogle+

بقلم: محمد شاويش

اشتهرت في الأدبيات الإنتروبولوجية قصة ذلك الباحث الذي تبنته قبيلة من قبائل الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية وحين أراد توديعهم والعودة إلى بلده طفقوا يبكون للآلام التي سيتلقاها في تلك البلاد التي لا تعيش حياتهم هم التي هي وحدها تستحق أن تعاش.

ويذكر كلود ليفي شتراوس في كتيبه الشيق: "العرق والثقافة" أنه عند "اكتشاف" أمريكا

كان الإسبان يرسلون بعثات للتحقق مما إذا كان الأهالي يملكون أرواحاً أما الأخيرون فكانوا يغطسون الأسرى البيض في الماء لمعرفة إن كانت جثثهم تتفسخ!، وعدد كبير من الشعوب كانت تطلق على نفسها ببساطة اسم "الناس" إذ أن الشعوب الأخرى في نظرهم لم تكن من الناس!

ومن الجدير بالتأمل كلمة "بربري" التي أطلقها اليونان على لغات الشعوب الأخرى فهي –كما يرى شتراوس- قد تعود إلى تشبيه هذه اللغات بزقزقة العصافير غير المفهومة. (وأعتقد أن هذا هو أصل تسمية "البربر" التي يظهر أن الرومان أطلقوها على الأشقاء الأمازيغ)

ويستخلص شتراوس بشكل قاطع: "عندما ننكر الإنسانية على أولئك الذين يبدون أكثر ممثليها "توحشاً" أو "همجية" لا نفعل شيئاً سوى استعارة أحد مواقفها النموذجية. الهمجي هو أولاً الإنسان الذي يعتقد بالهمجية".(كلود ليفي شتراوس-"العرق والثقافة" في "الإنتروبولوجيا البنيوية" –الجزء الثاني-ترجمة الدكتور مصطفى صالح –منشورات وزارة الثقافة السورية-دمشق-1983 عن النسخة الفرنسية عام 1973)

وأقول: في مثال تسمية اللغات الأخرى بالبربرية هناك شيء نمطي في النظرة المتمركزة على الذات (والتي العنصرية تجليها العملي) ألا وهو إنكار المعنى على مكونات ثقافة الآخر، فكل ما يخالف مألوفنا نراه "غير منطقي" "لا معنى له" وأكثر من ذلك،كما في مثال الأهالي الذين بكوا لآلام ابنهم المتبنى الذي غادر مجتمعهم ، كل ما يخالف مألوفنا الذي نراه كمعيار هو شيء مؤلم، وربما "اضطهادي". وهذه الصفة بالذات نراها بوضوح في التخيلات الغربية عن الحجاب.

هذه النظرة المبسطة ثمة جهود مشكورة في الغرب لتجاوزها ،تقوم بهذه الجهود قوى مجتمع مدني وحتى أحزاب سياسية، مدعومة طبعاً بأعمال نظرية للتيارات الجديدة في العلوم الإنسانية التي تنتقد تاريخ الظاهرة الإمبريالية وملحقاتها الثقافية (كالاستشراق التقليدي)

ولكن مع الأسف فإن كل هذا النقد الجديد لا يبدو أنه وصل إلى قطاع مهم من الثقافة العربية الحديثة، هذا القطاع الذي استمر ملكياً أكثر من الملك وداوم على الرؤى الاستشراقية القديمة وعلى تبن غير مشروط للتمحور الغربي القديم حول الذات وهذا ما نراه في مثال مقال أدونيس الذي هو موضوعنا.

كتب أدونيس في جريدة الحياة مقالاً بعنوان "حجاب على الرأس أم حجاب على العقل؟- لمناسبة المشكلة المتواصلة التي تثيرها مسألة الحجاب في فرنسا، بخاصة، وفي البلدان الغربية ، بعامة" (الحياة-26/6/2003) كنت دوماً أرى ان أدونيس قد يكون شاعراً جيداً ولكنه منظر سيء جداً ولا أفهم سر الاحتفال بتنظيراته عند شريحة من شعراء وكتاب الموجة الجديدة التي يطلق اهلها عليها اسم "الحداثة" ولا أرى له تفسيراً إلا سطحية هؤلاء الفكرية وكونهم ممن "يغرق في شبر ماء" ولا أتجنى عليهم في ذلك فقد خبرتهم خبرة لا بأس بها.

ولكن تنظيرات أدونيس التي أعرفها، على سوئها، لم تصل قط في الحقيقة إلى مستوى السوء الذي وصله هذا المقال الذي أنا بصدد التعليق عليه وسيرى القارىء ذلك بنفسه فوراً.

ومن البديهي أنني في هذا المقال، كما في غيره، لا أعير الاهتمام للنص الذي أرد عليه بالذات وإنما للعقلية والمنطق التي كانت وراءه والتي تمثل عقلية ومنطق شريحة واسعة من العاملين في الثقافة العربية الحديثة، فهو والحالة هذه مجرد مثال ونموذج عياني استخرج منه ملامح عامة في مشروعي للدراسة التحليلية الشاملة للثقافة العربية المعاصرة.

من المعروف أن العلمانية الغربية لم تكن منذ نشوئها متماثلة في جميع البلاد ولا هي الآن كذلك.(أمثال أدونيس ينطلقون من مصادرة يتبنونها لا شعورياً تقول إن النسخة الفرنسية من العلمانية هي النسخة الوحيدة!) هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بد من أن نذكر أن هذه العلمانية التي رافقت الحداثة ليست شيئاً ثابتاً لا يتغير، فهي تشهد في السنوات الأخيرة تغيرات مهمة مع تغيرات الحداثة نفسها التي انقلبت إلى "ما بعد حداثة"، والمجتمع الغربي نفسه يتحول على نمط يبدو أن المثقف العربي الحديث لا يدرك ملامحه الرئيسة ولا اتجاهات تطوره الكبرى، إذ أن هذا المثقف لم يزل يتعامل مع نموذج مجرد خيالي للغرب أخذت ملامحه الرئيسية من بعض غرب القرن التاسع عشر (وليس حتى كل هذا الغرب -الماضي!)

الغرب نفسه يتغير ولم تعد ترضيه تلك المنظومة الفكرية التي تأسست على الإيمان الساذج المطلق بفكرة التقدم التي نجدها في أوضح أشكالها في نظرية كونت الوضعية ونسختها الهيغلية المقلوبة مادياً المتمثلة في الماركسية، والذي يعيش في الغرب يرى ذلك بوضوح لا في ما يصدر من إصدارات فلسفية جديدة فقط بل أيضاً في البرامج السياسية لأحزاب شعبية كأحزاب الخضر التي تغلغلت أفكارها حتى في الأحزاب الكبرى التقليدية. وفي هذه الأفكار التي تكاد تصبح شعبية بل تكاد تصبح أيديولوجيا مسيطرة ومرجعاً أخلاقياً اجتماعياً تشغل أفكار مثل الحفاظ على البيئة والدفاع عن مبدأ التسامح في المجتمع مع المختلفين (في الشكل وفي الفكر!) والدفاع عن مبدأ التعددية الحضارية،موقعاً جوهرياً. وهو اتجاه يناقضه بالتأكيد اتجاه عنصري يميني يرفض هذه التعددية ويسير في اتجاه محاولة بعث النزعات القومية الشوفينية التي كانت قوية في النصف الأول من القرن العشرين.

ولا شك أن الغرب في اعتقادي أمام خيار تاريخي بين اتجاهين: إما أن يطور منظومته اللبرالية إلى الأمام لتشمل مفهوم التعدد الحضاري وتقبله (ولهذا الخيار مشجعون أقوياء في الغرب)، إذ أن المفاهيم التي بني عليها النظام الديمقراطي الغربي كانت إلى الآن تشكو من تناقضها حيث تنظم هي العلاقات داخل المجتمعات الغربية على حين أن مفاهيم معاكسة لها تنظم العلاقات بين المجتمع "الديمقراطي" والمجتمعات الأخرى، وعلى حين يعترف بحرية التعدد الفكري ضمن المجتمع الغربي بوجه عام –ونسبياً لا بصورة مطلقة- لم يكد يعترف بحرية التعدد في الثقافات على مستوى الكرة الأرضية ولم تظهر بوادر لقوى وأفراد تدفع باتجاه هذا الاعتراف والإكمال للمنظومة الديمقراطية إلا في العقود الأخيرة وهذا الاعتراف ما زال لا يحظى بتأييد كثيرين في الغرب طبعاً. وليس في هذا ما يدعو للعجب مبدئياً. ما يدعو للعجب هو عدم الاعتراف بمشروعية التعدد الثقافي من قبل مثقفينا نحن من أمثال أدونيس وغيره! أو أن ينكص إلى خيار يحجّم الأساس اللبرالي للديمقراطية الغربية الحالية ذاته عبر التعصب للرؤية الحضارية الأحادية الجانب والسير قدماً في النزعة المركزية الأوروبية-الغربية وعدم الوقوف بحزم في وجه الاتجاهات العنصرية ولهذا التوجه الأخير أنصار أقوياء في الولايات المتحدة خصوصاً.وللمسلمين عموماً وللعرب خصوصاً في اعتقادي دور يمكن أن يلعبوه في ترجيح واحد من الخيارين. وممن يلعبون دوراً سلبياً في ترجيح خيار القوقعة والتمركز على الذات في الغرب تياران مسلمان عربيان: الأول هو تيار الغلو الإسلاموي الميال إلى العنف والصدام الذي نشهده ونشهد التركيز المغرض على دوره وتضخيمه وإعطائه أكثر من حجمه بكثير، والتيار الثاني هو التيار الحداثي العربي الذي يتبنى النسخة العلمانية المغالية لفرنسا العجوز ويدافع عنها مما نجد له نموذجاً في مقال أدونيس.

وهؤلاء المثقفون الذين كانوا ذات يوم قريبين من اليسار لم يحتفظوا على أقل تقدير بالحسنة التي كانت تتوقع من اليسار ألا وهي دفاعه عن المظلومين والمضطهدين والمستغلين (بفتح الغين) إذ نجدهم في موقفهم من الحجاب مثلاً يشنون الحملة في الحقيقة على الغالبية العظمى المسحوقة من شعبهم. هذه الغالبية العظمى التي الحجاب جزء من تراثها ولباسها ويدافعون بشكل مستهجن عن قمع هذه الغالبية على أيدي الأقلية من النخب المسيطرة في الوطن الأم أو أيدي النظام العلماني المتطرف في فرنسا.

وفي هذا السياق يتجلى مدى اغتراب هؤلاء عن الناس.ليس الحجاب هو لباس أقلية سياسية كما يظن هؤلاء مرددين أوهام الدعاية الرخيصة التي لا تستند إلى علم بمجتمعاتنا وإنما تستند إلى خلاصات استشراقية مبسطة يساهم أغبياء غلاة الحركات الإسلاموية في ترسيخها وإعطائها مصداقية.

ظاهرة الهجرة لم تعد مجرد ظاهرة هامشية في أوروبا الغربية فالجالية المغربية (أي القادمون من المغرب العربي الكبير) في فرنسا مثلاً هي في الحقيقة جزء لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي وإن كانت إلى الآن لها مشاكل في هذا المجتمع فإن من السطحية الاعتقاد بأن هذه المشاكل هي مشاكل "أجانب"، إذ أن القسم الأكبر من هذه الجالية يتألف من جيل لا يكاد يعرف له وطناً غير فرنسا، والأمر كذلك في البلدان الأوروبية الأخرى إذ تنشأ أجيال مستوطنة ولم تعد في الحقيقة تشكل جاليات أجنبية بالمعنى المألوف للكلمة. ومشاكلها هي مشاكل شريحة اجتماعية وطنية لا مشاكل مهاجرين غرباء! إن الثقافات غير الغربية لم تعد "خارجية" كلياً في الغرب إذ أن الظاهرة الكولونيالية أولاً ثم ظاهرة الهجرة من الجنوب أخيراً حولت هذه الثقافات إلى شيء داخلي في المجتمعات الغربية، ومما لا شك فيه ان النخب السياسية والفكرية الأوروبية تعرف هذه الحقيقة وتتعامل معها. فقط المثقفون العرب من أمثال أدونيس يبدو أنهم لا يعرفونها كما يتضح في المقال الذي نحن بصدده، إذ هو يتحدث في الحقيقة لا عن مواطنين ولا حتى عن ضيوف عليهم احترام أصول الضيافة و إنما عن مهاجرين عرضيين شبه مؤقتين يجب أن يخضعوا إلى كل نزوات المتعصبين القوميين، أو في حالة فرنسا، المتعصبين العلمانيين الذين يشكلون حقاً وفعلاً نوعاً من الأصولية العلمانية المتطرفة التي لا تقل تطرفاً وغلواً عن الأصولية الدينية التي يكثر الحديث عنها.

كاتب هذه السطور يرى بداية أن على الأقسام الإسلامية من المجتمعات الغربية أن تشكل مكملاً خلاقاً لهذه المجتمعات، وأن تشكل نموذجاً يحتذى من الجماعة الإسلامية المندمجة في المحيط اندماج التعدد لا اندماج الذوبان، ومن البديهي أن عليها بصفتها جزءاً من المجتمع الذي تعيش فيه أن تبذل قصارى جهدها للسير بهذا المجتمع في اتجاه يخدم مصلحته الحقيقية في الرفاهية لا المادية فقط بل الروحية والاجتماعية أيضاً، وهذا يعني بالتأكيد التعامل بالروح الحضارية المتسامحة المتقبلة للاختلاف العقائدي وهي كما هو معلوم روح الإسلام وروح حضارته، وللقارىء أن يراجع النموذج الأندلسي الباهر للتعايش بين الأديان المختلفة الذي يعرفه كثير من مثقفي الغرب، وعلى المسلمين أن يتبعوا قواعد النظام الديمقراطي الغربي حين يتوجهون في مسعى لتعديل المواقف السياسية الغربية في اتجاه أكثر عدلاً فيما يخص العلاقة مع الجنوب عموماً والمسلمين خصوصاً. ولا شك أن الأقليات الزهيدة المتعصبة من المسلمين التي يركز عليها الإعلام المغرض تلتقي في مسعى واحد مع الاتجاهات المتعصبة في الغرب ومع الحركة الصهيونية العالمية للسير بالغرب في اتجاه الصدام مع الإسلام. ولكن لأجل العدل يجب القول أن الغالبية الساحقة من مسلمي الغرب تتألف من مواطنين مسالمين بعيدين كل البعد عن نية التصادم مع المجتمعات التي أصبحوا جزءاً منها.

لنأت الآن إلى موضوع الحجاب في فرنسا وفي الغرب عموماً:

إن الحجاب أقل ما يقال فيه أنه أمر شخصي يخص صاحبه والمرأة التي ترتديه تفعل هذا لأسباب مختلفة منها بالتأكيد الديني ومنها ببساطة أنه زي وطني وأياً كان سبب ارتدائها للحجاب فإنه أمر لا يخص أحداً غيرها فبأي حق تتدخل الدولة أو المدرسة أو أي مؤسسة أو شخص في موضوع شخصي محض كهذا!

من صفات المنظر السيء أنه سريعاً ما يسقط في التناقض مع ذاته ولننظر كمثال على هذا إلى الجملة التالية في مقال أدونيس الذي نحن بصدده "في كل حال، تبقى مسألة الحجاب خلافية. فبأي حق أو بأية سلطة يفرض بعضهم تأويله الخاص على الناس كلهم، ويجيز لنفسه أحياناً أن يستخدم العنف من أجل ذلك،لا ضد المرأة وحدها، وإنما كذلك ضد الأشخاص الذين يخالفونه الرأي، وضد المجتمع كله؟"

أليست هذه الجملة بالله عليكم طريفة وتثير الابتسام وقد يمكن اعتبارها نكتة إذا تذكرنا هاهنا أن أدونيس لا يقصد بمن يريد أن يفرض رأيه في مسألة الحجاب بالعنف، وهي مسألة خلافية كما يقول، أولئك الناس في فرنسا الذين يحرمون فتاة من حقها المقرر في الشرائع والقوانين أن تدخل المدرسة، وإنما يقصد على العكس ضحايا هذا المنع والقمع!

هل سمع أحد إلى الآن أن المسلمين في أوروبا فكروا في فرض الحجاب بالقوة على النساء؟ أم أن الأمر هو بالعكس أي أن هناك من يريد حشر أنفه في هذه المسألة الشخصية فيمنع المسلمات بالقوة من لبس الحجاب؟ وفي وجه هؤلاء قامت كثير جداً من المنظمات الغربية المدافعة عن الحريات الفردية وهي المنظمات التي لا تبني دفاعها طبعاً فقط على أساس رغبتها في الدفاع عن هؤلاء الضحايا بالذات لهذه المعاملة التمييزية، وإنما تبني موقفها أساساً على أساس الدفاع عن قيمة الحرية الفردية التي ينبني عليها المجتمع الغربي بالذات! وإنه لمن الصعب عليك أن تدافع عن حق "البانكا" أن يصبغوا شعرهم بالأخضر ويملؤوا أجسادهم بالوشم وآذانهم وأنوفهم بالحلقات المعدنية ثم "تناضل" لمنع امرأة من حقها في ارتداء منديل على رأسها!

يقول أدونيس:"لا بد من أن يعرف المسلمون الذين يتمسكون بالحجاب أن تمسكهم هذا يعني أنهم لا يحترمون مشاعر الناس الذين يعيشون معهم في وطن واحد، ولا يؤمنون بقيمهم، وأنهم ينتهكون أصول حياتهم، ويسخرون من قوانينهم التي ناضلوا طويلاً من أجل ارسائها، ويرفضون المبادىء الديمقراطية الجمهورية في البلاد التي تحتضنهم، وتوفر لهم العمل والحرية" في الحقيقة إزاء مثل هذه الأقوال لا يخطر على بال المرء إلا أن يضع إشارات تعجب ويكثر منها وقد تكفي إشارات التعجب كتعليق ولكنني مع ذلك سأقول:

هل تستطيع يا سيد أدونيس أن تفهمنا كيف يكون ارتداء المرء لزي ما تعبيراً عن أن الشخص لا يحترم مشاعر الآخرين، وكيف يكون هذا الفعل الشخصي انتهاكاً لأصول حياة هؤلاء الآخرين وسخرية من قوانينهم ورفضاً لمبادئهم الديمقراطية الجمهورية؟ (بالمناسبة يبدو أن أدونيس نسي أن أغلب البلاد الغربية أو نصفها على الأقل ملكيات! بريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والدنمارك والسويد والنرويج! هؤلاء الفرانكوفونيون في اللاشعور يدمجون الغرب مع فرنسا و "تلقطهم" في عثرة لسان فرويدية مثل عثرة لسان أدونيس هنا!)

الحقيقة أن أدونيس وأمثاله يأتون كشهود زور من الخارج ليدعموا وجهة نظر التيارات اليمينية العنصرية في الغرب، وأعتقد أن زميل أدونيس في الفكر هنا ليس هو تلك الطلائع الغربية المفكرة التي رأيناها في الأشهر الأخيرة بمناسبة الحرب الأمريكية المعولمة تنزل إلى الشوارع متحولة إلى حركة مليونية مناصرة للسلم والعدالة في العالم، وإنما زميله في الفكر هو "جان ماري لوبان" و الحركات الفاشية والشوفينية المتطرفة في الغرب. ينتقل أدونيس بعد ذلك إلى حجة كثيراً ماسمعتها هنا في أوروبا وليسمح لي أدونيس بأن أقول بأنها سخيفة بما فيه الكفاية. إنه يقول: "هناك زعم بأن المرأة المسلمة في الغرب هي التي تختار الحجاب، وهي التي تضعه بملء حريتها، وهو زعم يحتاج إلى كثير من النقاش ليست هذه الزاوية مكاناً له. لكن عندما نرى في باريس، على سبيل المثال، فتيات صغيرات بعضهن لا تتجاوز الرابعة من عمرها، فهل يمكن أن نقول إنهن يضعن الحجاب بملء الحرية؟ وما تكون حرية طفلة في مثل هذه السن؟"

لست متأكداً من تلبيس الحجاب لبنات الرابعة وأزعم أنها حالة نادرة ومع ذلك أقول:

هذا المثال سخيف ببساطة لأنه يتجاهل حقيقة بسيطة للغاية ضرورية بالتعريف لكل مجتمع اسمها عند السوسيولوجيين "التربية الاجتماعية للفرد socialization" إذ أن الطفل بصورة حتمية يتم تدريبه على قيم الوالدين وهذا لا يجري في سن الرابعة بل يجري منذ الولادة على الأقل حين يعطى الطفل اسماً ثم يعامل بطريقة خاصة تميز كل ثقافة. ولو شاء أدونيس لذكرت له أمثلة من المجتمع الفرنسي تتعلق بالطفلة الفرنسية ابنة الرابعة كيف "تجبر" في هذه السن على سلوكيات ثقافية تناسب مجتمعها من قبل أهلها والمجتمع المحيط ! (على طريقة أدونيس أقول له: ما حرية طفل في السادسة في الذهاب إلى المدرسة وهو أمر يسمى "تعليماً إلزامياً" بمعنى أنه لا خيار في الامتثال له، لا خيار للأهل ناهيك عن الطفل!). وتصور طفل "لا يجبر" على تبني سلوك معين هو تصور مستحيل ربما جان جاك روسو ذاته ما كان ليتخيله، أما العلم الاجتماعي والأنثربولوجي اللاحق فهو سيزدريه بكل بساطة إذ ان الإنسان مخلوق اجتماعي لا أكثر ولا أقل! ومن حق أدونيس طبعاً أن يكون ضد الحجاب فهذا خياره الشخصي ولكن ليس من حقه أن يفرضه على مجتمع يراه جزءاً من تقاليده وقيمه! وهذا هو أقل ما يمكن للمرء أن يقوله له ومن وجهة نظر علمانية وحتى "ديمقراطية جمهورية"! وبالنسبة إلي ثمة في هذه الحجة المتعلقة بإجبار الطفلة على ارتداء الحجاب ما يستحق بعد بعض المزيد من التوقف: محاججة أدونيس إذا نظرنا إليها عن كثب تشير إلى أنه بدون أي نقد يعد الحجاب من بين جميع حالات السوكيات التي يعلمها المجتمع للطفل حالة خارجة عن الطبيعة هي وحدها التي لا يمكن فرضها إلا بالقمع، السؤال الذي أتوقف عنده هنا هو التالي: كيف لم يستطع أدونيس أن يرى القرابة بين ظاهرة تعليم المجتمع للطفل على تغطية رأسه و تعليمه أشياء أخرى؟ (كتعليمه مبدأ عدم السير بلا ثياب مثلاً!) وكيف لم يكتشف أنها كلها أشياء يتعلمها الطفل لا تلقائياً بل بفرض خارجي من المجتمع؟

في اعتقادي أن السبب الذي يجده المرء بلا عناء هو أن "غير الطبيعي" عند المثقف العربي المستلب هو "غير الغربي" فقط وحسب وبإمكاني أن أعد للسيد أدونيس طائفة كبيرة من أشياء يجبر الطفل في المجتمع الفرنسي على فعلها ولا يجبر في المجتمع العربي مثلاً وأشياء يجبر على تعلمها وممارستها الطفل في المجتمعين المسلم والغربي معاً ولايجبر في مجتمعات أمريكا الأصلية وأنه لم يكتشف طابع هذه الأمور المتعلمة النسبي رغم ذلك لأنه في اللاشعور عنده معيار التعلم "الطبيعي" وبالتالي الذي لا يتم عبر القمع (أو القمع فيه مبرر؟) هو تعلم قيم المجتمع الغربي! وأي قيم تخالف هذا "المعيار الطبيعي" (كأنه القيم الطبيعية للجسم التي يسير عليها الأطباء وعلى أساسها يحددون الصحة والمرض!) هي قيم لا يمكن أن يرضاها لنفسه "الإنسان الطبيعي" وبالتالي فهي حكماً مفروضة عليه وهي تناقض حريته.

لا شك أن الإنثربولوجيا الغربية تجاوزت هذه الرؤية المتمركزة على الذات منذ زمن لا بأس به ولكن هذه المركزية لم تزل موجودة عند مثقفنا الحديث نحن!

ينتقل أدونيس بعد ذلك إلى نقد المسلمين الذين يضعون لأنفسهم علامات فارقة في المجتمع الغربي ويقدمون الدين بطريقة شكلية استعراضية مسرحية وهو محق في ذلك، بل أزيد عليه إن الحرص على المظهر المختلف بصورة مبالغ فيها يتعارض مع السنة النبوية التي تنهى عن "لباس الشهرة"، ولا شك ان كثيراً من المسلمين يشدد على نفسه في أمر يسره الدين ولم يأمر بتعسيره إذ لم يأت الإسلام بزي موحد للمسلمين على طريقة الجيش، ويكفي التزام مواصفات عامة في الزي (مثل أن لا يكون اللباس يشف أو يصف) ولكنني لا أرى أن المجتمع الغربي نفسه يسير في طريق الالتزام المتزمت بزي واحد فلماذا يكون أخونا أدونيس ملكياً أكثر من الملك؟ ومن المألوف في هذا المجتمع الغربي كما رأيته ان يقدم البرفيسور محاضراته الجامعية وهو يرتدي خفاً منزلياً في رجله فلماذا نصر على تزمت تركه أهله هذا ونحن نقدم أنفسنا (إن كنا مثل أدونيس) على أننا دعاة تحرر و أعداء لكل قولبة وجمود؟ يرى أدونيس في ختام مقاله أن حجاب المرأة يمنح الحق لبعض من في الغرب أن يروه "عملاً لتقويض الأسس التي أرساها نضال الغرب في سبيل الحرية والعدالة والمساواة وأن يروا فيه مطالبة بإلغاء دور المرأة في الحياة العامة الاجتماعية والثقافية و السياسية مما يتناقض كلياً مع مبادئ الحياة المدنية في أوروبا والغرب".

هذا القول يدل على غربة أدونيس عن واقع مسلمي أوروبا إذ أن المسلمات المحجبات موجودات في كافة مواقع العمل عملياً فهن في المتاجر والمصانع والجامعات والمستشفيات إلخ فمن أين جاءت هذه الأسطورة أن الحجاب يلغي دور المرأة في الحياة العامة! ومن الذي يريد حقاً إلغاء دور المرأة المحجبة في الحياة العامة؟ أهو هذه المرأة التي تريد أن تدرس مثلاً أم ذلك الذي يريد أن يمنعها من الدراسة ما لم تخلع الحجاب؟!

على أن مقال أدونيس الذي يشكو من علل مزمنة في المنطق وحتى في المعرفة العيانية والنظرية يفيدنا مع ذلك كشهادة على حالة الغربة المطلقة التي تعاني منها شريحة من المثقفين العرب عن مجتمعها بحيث أنها ماعادت قادرة على فهم هذا المجتمع من الداخل وهذا واضح من خلال تبني هؤلاء لأنواع من الخلط يقدم عليها الإعلام في الغرب غالباً إما للجهل بمجتمعاتنا أو للتجاهل المغرض المقصود، ومن هذا الخلط الدمج بين المجتمعات المسلمة والأقليات المتطرفة التي لا تشكل إلا حالات هامشية في هذه المجتمعات. إن أدونيس مثلاً كما هو واضح يعتقد ان ظاهرة الحجاب لا توجد إلا عند هؤلاء المتطرفين ولا تعبر إلا عنهم، وهو بكل جرأة يزعم أن "هؤلاء الذين ينادون بفرض الحجاب، يمثلون أقلية بين المسلمين في الغرب، وبين المسلمين في العالم العربي كذلك. ولو وضع الحجاب موضع اختيار ديمقراطي لسقط سقوطاً كاملاً" لا أعرف من أين جاء أدونيس بهذا الإحصاء! والمألوف المشاهد أن غطاء الرأس كان ولا يزال هو زي غالبية النساء في بلادنا ليس عند المسلمات فقط بل كان كذلك حتى وقت قريب عند نساء الأديان الأخرى، و غطاء الرأس كان متعارفاً عليه في بلاد أخرى غير إسلامية ولا يزال محافظاً عليه عند النساء هناك كما أن غطاء الرأس كان مألوفاً عند الرجال أيضاً في بلادنا ولا يزال شائعاً في الخليج والسودان وغيرهما وزال بصورة غير كاملة في البلاد التي تبنت الزي الغربي كبلاد الشام ( وأحيل بالمناسبة أدونيس إلى زي نساء الهند وسيريلانكا!)

وسأقول ليس لأدونيس بل لعلي سعيد قبل أن يأخذ اسمه الفني: يا ترى لو جاءت أم علي لتزورك في باريس مثلاً و أنا متأكد أنها مثل أمي رحمها الله ترتدي غطاء رأس أبيض. أكان يحق للغربيين حين يرون غطاء رأسها أن يفسروه بأنها بارتدائها له "تتحدى شعورهم العام، وذوقهم العام، والثقافة العامة، والأخلاق العامة، وأنهالا تحترم مشاعرهم وتنتهك أصول حياتهم وتسخر من قوانينهم التي ناضلوا طويلاً من اجل إرسائها، وترفض مبادئهم الديمقراطية الجمهورية "؟
عن : الخيمة.كوم

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *