برلمان باليما.. لا قرايا لا خدما

صـــابون تـــازة
يكتبه : بوجمعة العوفي
e.boujema@gmail.com
برلمان باليما.. لا قرايا لا خدما
الآن وقد مرت زوبعة الانتخابات البرلمانية على الطريقة المغربية. و " فاز " من " فاز" بالمقعد المريح في القبة العجيبة : قبة " باليمان ". على اعتبار أن مقر البرلمان المغربي يوجد قبالة مقهى " باليما " المعروف بشارع محمد الخامس بالرباط. وخصوصا عند أهل تازة الذين يقصدون الرباط العاصمة. إذ يكاد يقصد هذا المقهى كل مسافر من تازة إلى العاصمة. وإن تاه عنك تازي من " أولاد البلاد " فإنك حتما تجده جالسا أو مسترخيا بباحة مقهى " باليما " ذات الأشجار الباسقة والظلال الوارفة. خصوصا إن كان الزائر من النوع الذي يرغب في " التفجيجة " و " التفويجة " وتخضار لعوينات ". هذا المقهى الذي ـ بحكم وجوده قبالة قبة البرلمان ـ أصبح كلاهما يعرف بالآخر ودليلا عليه : يعرف البرلمان بباليما، وتعرف باليما بالبرلمان. لذلك يصح هنا أن نجمع بين التسميتين في كلمة واحدة هي : " باليمان " اختصارا للمعنى وتعميقا للمطابقة والمشابهة ( وهذا توصيف تبقى حقوق تأليفه مكفولة للعبد الضعيف إلى ربه كاتب هذه السطور ).
وقد يتساءل القارئ الكريم ـ هنا ـ عن جدوى الكتابة اليوم عن هذه الزوبعة وإعادة النبش في ذاكرتها المثقلة بأغرب الأقاصيص ( زوبعة الانتخابات الأخيرة )، واستحضار كل تلك المشاهد الساخرة التي حفلت بها الحملات الدعائية لهذه الانتخابات ؟ من المشاهد المكرورة والبئيسة للدعاية إلى المسرحية الهزلية ليوم الاقتراع وإعلان النتائج وتنظيم مواكب أو " كورطيجات " الاحتفال بالعرسان / الباليمانيين الجدد / القدماء في شوارع المدينة ( بلغة " داها وداها..والله ما خلاها.. ). هذه النتائج التي كانت شبيهة أيضا ـ في نظرنا ـ وإلى حد كبير بالنتائج المدرسية لنهاية كل سنة دراسية : حتى أن هناك من المرشحين من " نجح " وانتقل إلى " القسم الأعلى " من قبة " باليمان " بمعدل أو بمجموع نقط محترم، سواء بالمال أو بالغش في الامتحان. كما كان هناك من كرر القسم لأسباب وجيهة أو لأسباب أخرى تتعلق بنقص في السيولة أو لجهل بقواعد الامتحان. المهم هو الفوز. وهناك من المرشحين من كانت نتائجه مسنودة بالمال والجاه لينعم الله عليه بفرصة الالتحاق مباشرة بـ" كلية " الحكومة أو بأحد معاهدها الراقية. ومن ثم، الظفر بحقيبة محترمة لإحدى الوزارات. المهم أيضا هو " الحقيبة " أو " الصاكادو". لا فرق. مادامت كل النتائج وكل الوسائل وكل الطرق تؤدي إلى القبة أو إلى استراحة " باليمان ".
والحقيقة أن هذه الانتخابات نفسها، مهما كانت كمية المداد التي أسالتها أطوارها على صفحات الجرائد والمجلات المغربية، ومهما كانت قدرة العديد من كلمات ومناظرات محللي " آخر الزمان " أو " آخر ساعة " على جعل المغاربة يقبلون بنتائجها ويعتقدون في نزاهتها وأهميتها بالنسبة لموعد المغرب مع " انتقاله الديمقراطي"، فإن الحقيقة الراسخة التي ظهرت للعيان هي أن العديد من المرشحين الباليمانيين " نجحوا " في الانتخابات وانتقلوا إلى امتيازاتهم العليا. لكن المغرب لم ينجح ولم ينتقل إلى ديمقراطيته المنشودة أو المحلوم بها في هذه الانتخابات على الأصح. والدليل على ذلك نسبة التصويت المتدنية ورسائل العزوف والمقاطعة التي وجهها المغاربة إلى من يهمهم الأمر. الأغلبية الصامتة فقط هي من بقي لها الحق في التعليق على ما جرى. وهي وحدها الجديرة بطرح موقفها للتحليل والدراسة واستنباط الدروس والعبر. على اعتبار أن المغرب أخلف مرة أخرى موعده الأساسي مع انتقاله الديمقراطي الحق. والآتي أسوء بطبيعة الحال.
ماذا تبقى لنا نحن عباد الله الصامتين والمغلوبين على أمرهم سوى الانتظار ومواجهة الأمر الواقع بالسخرية. هذا السلاح الرمزي الذي وحده فقط له إمكانية ووظيفة التنفيس عن كرب المغاربة في مثل هذه الأزمات وهذه الملمات. ومن حسن حظ المغاربة ـ عكس شعوب الأمم الغربية الأخرى ربما ـ أنهم يتفننون في التنفيس عن مصائبهم وأحزانهم وإحباطاتهم السياسبة والاجتماعية والاقتصادية باللجوء إلى سلاح النكتة والسخرية. إذ تنشط مخيلة الإنسان المغربي في إعادة ترتيب المشهد السياسي وإعادة توزيع أدوار ممثليه، ومن ثم الانتقام رمزيا لنفسه من كل هؤلاء السياسيين الذين تعاقبوا منذ أمد طويل على خداعه وإعادة تمثيل نفس المسرحية. فقط يتم تغيير الأدوار والديكورات والمناظر والمساحيق والألوان والأقنعة. أما اللعبة فهي هي. والعائدون إلى المقاعد " الباليمانية " والحقائب الوزارية هم الأشخاص أنفسهم أو أصهارهم أو بنو عمومتهم أو بنو جلدتهم في جميع الأحوال.
إن تسمية " باليمان " المركبة من دمج كلمتي " باليما ‘ المقهى و " البرلمان " القبة، بإمكانها أن تحيلنا أيضا على العديد من التأويلات والاشتقاقات والدلالات التي لا حد لها : كأن نقول مثلا باللسان الدارج المغربي بأن المرشح الفـلاني " بلى" ( بتسكين الباء ) في البـرلمان : يعني أنه أصبح قديما فيه ـ قـدم المادة ـ على حد قول بعض الفلاسفة. وأن نقول كذلك بأن المرشح العلاني " بلى " ( بفتح الباء ) في البرلمان : يعني أنه عفريت وذكي و " مطور " ما شاء الله و "حافظ قويلبات " السياسة ويعرف دائما كيف يحافظ على مقعده تحت القبة الظليلة. إلى درجة أن العديد من " الباليمانيين " المغاربة قد حجزوا مقاعدهم تحت القبة العجيبة إلى الأبد. كأنهم خلقوا ليكونوا " باليمانيين ". ولن نجد هنا مثالا لذلك أحسن مما فعله الزعيم / المنظر العقيد القذافي حين أعطى تعريفه الخاص للديمقراطية بكونها هي " كثرة أو ديمومة الجلوس على الكراسي ". كراسي المقهى أو كراسي البرلمان. لا فرق كذلك في بلاد " باليمان" العجيبة. وربما يكون هؤلاء الجالسون أبدا على المقاعد المعلومة هم أول من تنبه إلى قولة الأخ العقيد القذافي وقاموا بتطبيقها كما يجب وعلى أحسن وجه.
وعلى ذكر القبة، فلهذه الكلمة العجيبة نفسها أيضا ـ في الحياة السياسية المغربية الهجينة وقاموسها ـ ما يكفي من الدلالات أو يزيد عن حاجة هذا المواطن أو الإنسان المغربي إلى المزيد من الاستعمالات الخاصة للمكان وللزمان السياسي المغربي. هذا " الأجمل بلد في العالم "، المتفرد أيضا وحده دون غيره من الأمم في منح دلالاته الخاصة للسياسة وأمورها التي لا يفقه فيها إلا " الجالسون تحت القبة " أو " الراسبون في العلم ". إذ بإمكاننا أيضا أن نشتق من كلمة " القبة " ـ على غرار ما يفعله نحاة السياسة والبلاغيون الجدد عندنا تحديدا ( أصحاب البلاغي ). حيث يوجد عندنا في المغرب أيضا ما يسمى بـ" الرئيس القبي" و " المستشار القبي " و البرلماني القبي " أو " القبان " ( الأمي الذي لا يحسن حتى كتابة اسمه الشخصي أو فقيه بـ " قب " الجلباب فقط بتعريف الفقهاء أنفسهم ). وهناك من عامة الشعب أيضا من يعفي نفسه بالمرة من وجع الرأس وتوليد الدلالات من هذه الكلمة أو الصفة العجيبة : " القبي " أو " القبان " ويربطها مباشرة بـ " الفقيه مول القب " أو بـ " قب الحمام البلدي ". هذه الأداة الصامتة التي كانت فيما مضى من خشب عتيق، نستعملها للجلوس أو لجلب الماء من " برمة الحمام البلدي ". التسمية لا تهم. المهم هو الوظيفة التي يقوم بها " القب " في الجلباب المغربي وفي السياسة والحمام. نفس المعنى لنفس الصفة. ونفس الوظيفة لنفس الأداة. دائما ثمة من يقول لك : " اجلس هنا ـ في الحمام أو في البرلمان. " دير قبك " أو " دبر لقبك " أو " عمر " الما " أو " المال " على خاطرك أمولاي.
تلك هي بعض مفارقات المشهد السياسي المغربي وفلتاته العجيبة. إذ كيف يصل إلى قبة البرلمان أو " باليمان " " الطاشرون " و " الباطرون " و " مول الهامر " ولا يصل الطبيب والأستاذ الجامعي والمثقف وغيرهم من نخبة المجتمع وزبدته ؟ من يملك جوابا لهذا السؤال ؟
ربما " الراسبون في العلم " ـ من أهل القبة ـ هم وحدهم من باستطاعتهم أيضا أن يسعفونا بجواب نافع ودليل قاطع على أن المغرب ( أجمل بلد في العالم بلغة الإشهار طبعا ) يتقدم، وأننا فقط نحن القلة القليلة من الصامتين والمتشائمين اليائسين الذين لا نستطيع أن نرى هذا التقدم ونلمس إنجازاته الباهرة ؟ وأن " القبان " و " القبي " و " باليمانيي " " الشكارة " و السيارة " و " العمارة " و " التجارة " هم الأفيد لنا في هذا الوقت العصيب بالذات من غيرهم، نحن أصحاب: " الحارة " و " البيصارة " و " الدوارة " ؟ من بوسعه أيضا أن ينكر بأن هذا الانتخابات قد خيبت أفق انتظار المغاربة ( ليس بالمفهوم الذي تمنحه نظرية التلقي لأفق التوقع، إذ يكون التخييب بالنسبة لهذه النظرية إيجابيا : حين يستطيع إبداع أو إنتاج فكري ما خلق حساسية جديدة وطرق جديدة ومغايرة للتفكير والإبداع ) ؟ وأن هذا الذي كنا ننتظره أو نشتهيه كرر نفس الواقع والوجوه والمواقع وأشكال إعادة إنتاج نفس البضاعة ؟ إذ سواء جلس مرشحك " الباليماني " المفضل في مقهى " باليما " بالعاصمة أو تحت قبة البرلمان أو حتى في " الحمام البلدي " ، فالأمر سيان. ومسألة تشبيه " جلسات " البرلمان الحالي بـ " جلسات " " السخون ديال الحمام البلدي " ( وخصوصا في ملاسنات النساء وعراكهن داخل الحمام ) أكدته وقائع إحدى الجلسات الأخيرة حين تلاسن أو اشتبك " باليمانيان " معروفان تحت القبة العظيمة، وتبادلا الشتائم علنا بعبارات من قبيل : " سكت أنت غير شفار " و " أنت غير كراب كتبيع الشراب ". ونحمد الله على أن قاعة البرلمان " ما فيهاش لقراقب ولقباب ديال لخشب القاسح "، إذ كانت الأمور ستذهب إلى أبعد من تبادل الشتائم، وتصل إلى " فلقني نفلقك ".
الفرق الوحيد الذي يوجد بين جلوسنا في المقاهي وجلوسهم في " الباليمان " هو : أننا دائما نجلس لندفع وهم يجلسون ليقبضوا الملايين.
***
برلمان باليما..
لا قرايا لا خدما
شوف شنو تما ؟
آجي عمر الما..
البرمة غاديا تحمى
ديما بلاصتي تما..
Aucun commentaire