حوار مع الكاتب الكولومبي كارسيا ماركيز(Le courrier de l’Unesco, Fev. 1996)

س: هل في استطاعتنا حماية الثقافة؟
ج: إن السؤال الأهم الذي يجب على الحكومات والمهتمين بالثقافة طرحه هو: ما هي نوعية الحماية التي يمكن للدولة تقديمها للثقافة دون أن تتقوقع داخلها أو تعمل على تسييسها. إن مشكل وزارة الثقافة بأمريكا اللاتينية هو تبعيتها لكل أهواء السياسة الوطنية؛ تصبح أزمة مكتب الوزارة لها تأثير على الحركة الثقافية، ومشاكسات وتطلعات بين مختلف الاتجاهات داخل حكومة ما تفضي إلى تعيين وزير لا علاقة له بالثقافة أو له وجهة نظر معاكسة تماما لوجهة نظر الوزير السابق، وخلاصة القول إن الثقافة هنا جردت من جوهرها (الثقافي) لتجد نفسها بين سندان السياسة ومطرقة الأهواء الحزبية.
لا بد من تفعيل الثقافة وذلك بخلق ظروف للتطور الحر، لكن هذا يثير عمليا مشاكل كبيرة. إنه من المستحبل التنبؤ بالمسار الذي يأخذه الإبداع، وتسجيل أيضا أية برمجة في هذا المجال، ثم كيف يمكن معالجة الثقافة في غياب تعريف لها؟
بالنسبة لليونسكو، فإن الثقافة هي ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة، هي كل نتاج خاص بالكائن الإنساني، بالنسبة إلي فإن الثقافة هي بصفة خاصة الاستعمال الاجتماعي للذكاء الإنساني في الواقع. نعرف جميعا ما تنطوي عليه كلمة ثقافة، لكننا غير قادرين على التعبير عليه في بضع كلمات. في اعتقادي، إن الثقافة – هذا ما قاله على ما أظن الوزير الفرنسي السابق للثقافة، جاك لانك- هي الكل؛ الطبخ، طريقة العيش، طريقة الحب، وجميع الفنون. داخل هذا كل شيء يعتبر ثقافة، وكل فعل يحتوي على شرط ثقافي؛ لكن حذار، كلما توسع هذا المفهوم، كلما صعبت كيفية حماية الثقافة.
س: هل بالإمكان تعليم الثقافة؟
ج: في هذه الآونة أتساءل أنا شخصيا حول الأشكال التي يجب على تعلم الفنون والآداب وتعلم الصحافة – التي هي في نظري نوع أدبي – وكذلك تعلم السينما أن يأخذانها. إن تعلما كهذا، يجب عليه أن يكون خارج ما هو معياري خاص بدون شكل.
لدي ورشة تحمل عنوان: كيف تحكي الحكاية، في المدرسة السينمائية بسان أنطونيو بلوس بانيوس في كوبا، أجمع حول طاولة عشرة من الشبان الذين لديهم تجربة في كتابة السيناريو، نحاول معرفة إذا كان بالإمكان خلق حكايات جماعية، وتحقيق الإبداع العجائبي. لقد نجحنا في بعض المرات. تظهر فكرة وتنمو شيئا فشيئا بمشاركة الجميع. إن نقطة الانطلاق مهمة جدا. إنها تتجلى في سؤال أوجهه إلى أحد المشاركين: ما هو الفيلم الذي شاهدته مؤخرا؟ أي فيلم. إحكه لنا. هناك من يتمكن من الحكي وهناك من لا يتمكن. فمنهم من يجيب مثلا: هذا الفيلم هو حكاية بنت قرية في مواجهة تناقضات المدينة العصرية، وآخر يقول: بنت قروية تسأم داخل عائلتها، وفي يوم من الأيام تركب أول حافلة تمر بالقرية، وتهرب مع السائق، وتتلقى… وهكذا يبدأ يستحضر حياة الفتاة فصلا بعد فصل. إن المتدخل الأول له بدون شك قدرة على أشياء كثيرة، لكنه لن يستطيع أبدا أن يحكي حكاية، ذلك أنه لم يخرج للوجود بملكات الحكي. أما بالنسبة للثاني، ذاك الذي باستطاعته أن يحكي، فعليه أن يقطع أشواطا ليصبح كاتبا. ليستوعب التقنية والثقافة الأساسية أيضا، التي هي جد مهمة. لا أفهم كيف يتجرأ شخص ما على كتابة رواية دون أن تكون لديه فكرة حول العشرة آلاف من السنين للآداب التي سبقت عصره، على الأقل حتى يتمكن من تحديد مكانته. يجب في الأخير الالتزام بالعمل اليومي، لأن الإبداع لا ينزل من السماء. يجب أن نعي بأن العمل المداوم والدؤوب كلمة بكلمة هو الأصح.
إن الكتابة عمل، وعمل صعب يفرض الكثير من التركيز والانضباط كما بالنسبة للفنان التشكيلي أو الموسيقار، بشرط أن نتعلم هذا العمل، ومن يستطبع أن يحكي يصبح كاتبا، والآخر حتى ولو عمل جاهدا فلن يكون أبدا كاتبا. نفس الشيء بالنسبة للموسيقى، إذا أسمعنا لأطفالنا ميلوديا، فهناك من يعيدها كما هي وهناك من لا يستطيع.
س: هل تعتبر نفسك مثقفا؟
ج: لا أعتبر نفسي كمثقف بصفة كاملة – أظن أن للمثقف أفكارا مسبقة يحاول دائما مجابهة الواقع بها… في الحقيقة إنه يحاول تأويل الواقع استنادا إلى أفكاره المسبقة. فبالنسبة إلي، فإني أعيش على الحكايات وعلى الأحداث اليومية، أحاول تأويل العالم وخلق فن من خلال تجربتي في الحياة اليومية ومعرفتي بالعالم التي أحصل عليها شيئا فشيئا دون أية أفكار مسبقة، لهذا فالحوارات التي تفرض علي أسئلتها أجوبة غير ملموسة، تستعصي علي. يجب أن تكون نقطة انطلاقي من حادثة ملموسة، حيث أجد نفسي ككاتب. أظن أنني أستطيع إظهار أن أي سطر من كتبي إلا وفيه تأثير لحادثة حقيقية، حادثة إما حكيت لي وإما عشتها أو عرفتها…
س: صحيح أن المعرفة بالنسبة إليك تشمل عدة أشياء؟
ج: صحيح. لقد قيل لي إن "مائة سنة من العزلة" (رواية من أشهر روايات الكاتب)، تحتوي على أشياء عجيبة لا يمكنها أن تكون قد وقعت، غير أن هاته الأشياء بالنسبة إلي توازي تجارب حقيقية. هناك بعض القراءات التي تركت في بصماتها مدى الحياة، مثلا هناك كتاب مجلد، عثرت عليه داخل حقيبة، ولم أكن أعرف حتى عنوانه، كتاب ألف ليلة وليلة. عشت السنوات الأولى من حياتي منبهرا بالسجاد الطائر، والجن الذين يخرجون من القنينات. كان ذلك شيئا عجيبا، لكنه كان حقيقيا بالنسبة إلي. الفصل الذي أبهرني كثرا والذي أعتبره أكثر عجائبية مع العلم أنه محتمل جدا، هو حكاية الصياد الذي طلب من جارته تزويده بالرصاص لشبكته، وفي المقابل يهديها أول سمكة يصطادها. فأعطته الرصاص، وفعلا أهداها أول سمكة، وعندما فتحت بطن السمكة، وجدت بداخلها ألماسا. إن الحياة مليئة بالأشياء الطبيعية التي لا يدركها الإنسان العادي. وذكاء الشعراء يتجلى في تشخيص العجيب الموجود في الحياة الواقعية. ولهذا أتساءل: لماذا لا يثق أولئك الذين قبلوا فكرة السجاد الطائر في ألف ليلة وليلة بأننا نطير أيضا في قريتي… في قريتي ليس هناك سجاد وإنما هناك حصائر. إذن فلنجعلها تطير. وهناك أشياء أخرى عجيبة عشنا في كنفها. أظن أنني أخذت القرار، ليس لخلق واقع جديد ولا لإبداعه، لكن لإيجاد الواقع الذي أجد فيه نفسي وطبعا الواقع الذي أعرفه. هو ذا نوع الكاتب الذي هو أنا.)يتبع)




1 Comment
من الصعب جدا أن نصف لوحة رائعة للغاية أو نتخدث عن تخقة ناذرة دون أن نبخسها حقها و ربما هذا ما يحصل عندما نود الحديث عن كتاب عالمين أعطوا أكثر مما أخذوا ،و لعل كارسيا ماركيز واحد من هؤولاء