Home»Régional»في الفكر التربوي للحركة الإسلامية – الحلقة الثانية -: مفهوم التربية وأهدافها.

في الفكر التربوي للحركة الإسلامية – الحلقة الثانية -: مفهوم التربية وأهدافها.

0
Shares
PinterestGoogle+

تقديم:
إن التربية تعني في دلالاتها التوجيه والتنمية والبناء والتنشئة والرعاية…وهذه الكلمات تحمل إشارة إلى إحداث تغيير إيجابي في سلوك الفرد المندرج في سلك التربية. وهذا يعني أن التربية إذا ترجمت إلى عمل وممارسة لا بد أن تكون هادفة إذ لا يمكن أن نربي فردا ما دون أن نكون على علم بما نريد التوصل إليه من خلال عمليتنا التربوية هاته.. إننا نبني وننشئ ونرعى ونربي من أجل تحقيق هدف ما. وكما يقول العالم التربوي الفرنسي " دولان تشير Deland sheere ": " أن تربي معناه أن تقود، أي ترشد إلى مرمى معين"
إن التربية إذن فعل هادف يرمي إلى تحقيق هدف وغاية وقصد، فيصبح الحديث عنها – حتما وبالضرورة – حديثا عن أهدافها إذ لا معنى لوجود تربية بدون أهداف تسعى جادة إلى تحصيلها وتحقيقها.

– I أهم تعريف للتربية عند الحركة الإسلامية:
لقد عرفت الحركات الإسلامية المشتغلة في حقل الدعوة التربية بتعريفات كثيرة مختلفة ومتباينة حسب طبيعة تصورها وظروف بيئتها، وتماشيا مع ما تطمح إليه من آفاق مستقبلية في إطار مشروعها التغييري المجتمعي. وذلك من أجل صناعة طبيعة الطاقات البشرية التي تعتمد عليها أثناء تنزيل تصوراتها ورؤاها في الواقع([1]) إن من أهم التعريفات التي عرفت بها التربية والتي تمتاز بالشمولية و الانتباه إلى أهم الجوانب المتفاعلة داخل الإنسان التعريف الذي نتخذه نموذجا وهو التالي:
" هي تعهد في مدة محددة، وفق منهج إسلامي، لإنسان مسلم، يرجى نفعه للإسلام بما يتمكن به من التحكم في دوافعه، وبما ينمي إيمانه، وهمته، ووعيه، واستعداداته للخير والعمل الصالح، وبما يطور مواهبه تطويرا صحيحا، حتى يكون صالحا مصلحا على نحو مطرد."

1- معنى " تعهد":
جاء في معظم المعاجم في مادة تعهد: إلزام النفس بالشيء ورعايته. فنقول: تعهد شيئا ألزم نفسه به. وتعهد شخصا: عني به. ونقول: هو في عهدته: في رعايته.
إذن التربية عندما نقول أنها: تعهد" معناه أنها رعاية الفرد، ووضعه تحت العين والتتبع قصد تقصي ما ينقصه وما يحتاج إليه من ترشيد وتوجيه على المستوى التربوي.

2- في مدة محددة:
عندما نقول: في مدة محددة. فالأمر إذن لا يتعلق بتربية قصد تخريج صالح فحسب. بل تخريج صالح مصلح: " صالح لنفسه مصلح لغيره"
فالتربية عموما لا حد لها. لأن الإنسان لا يزال يتعهد نفسه بالتربية والرقي في مدارج الإيمان إلى أن يلقى الله. لكن التربية التكوينية لا بد أن تنتهي بتكوين الفرد، وتخرجه، ليتحمل المسؤولية. والوظيفة وليصبح منتجا بعدم كان – تقريبا – متلقيا. والمدة التربوية – في حقيقتها – محددة ضمنيا فقط. لأن الفرد المتخرج من السلك التربوي، عندما يشرف على مجموعة من إخوانه كمربي فهو يبدأ التربية الحقيقية لأنه يعطي – حينها – لنفسه أكثر مما يعطي للآخرين. ويربي نفسه بموازاة مع تربيته لغيره.

3- وفق منهج إسلامي:
يقول رسول لله صلى الله عليه وسلم: " لا عقل كالتدبير" ويقول الدكتور محمد علي رزاز: " عندما يتم الانفصام بين القول والعمل فتلك طامة كبرى، وعندما يخلو العمل ن سمة التخطيط فقد زهقت روحه"
إذن فالتخطيط روح العمل وعمل بلا برمجة أو تخطيط عمل بلا روح. وإذا كان هذا شأن أي عمل. فما بالنا بالتربية التي تعد من أدق المسائل الحساسة وألصقها بسلوك الفرد. فهي إذن أحوج إلى الضبط والبرمجة والتخطيط.

4- لإنسان:
عندما نقول: إن التربية تعهد في مدة محددة وفق منهج إسلامي لإنسان مسلم، قد يطرح إشكال، وهذا الإشكال هو تعلق التربية أصلا بالنشإ، بالطفولة. قال الله تعالى على لسان فرعون: ( قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) وقال تعالى: ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
والحركة الإسلامية تستعمل التربية هنا على سبيل القياس في تعهد البالغ الراشد. وذلك لما بين الطفل والمستجيب للدعوة من صفات مشتركة، وهي النشوء، والاحتياج للغير، والاستعداد لاكتساب الصفات، وللتعلم والنمو.
فالمستجيب للدعوة، المندرج في التربية، هو في حالة نشوء في الإسلام واستعداد لتنمية دينه واحتياج لمن يوجهه في ما يحصن دينه، ويحفظ إيمانه. وقد ربا الله نبيه، ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم في مختلف الأعمار. وما نزول القرآن منجما حسب الأحداث إلا لتربية الجماعة المسلمة وترشيدها إلى المنهج الذي كان لزاما عليها أن تتبعه في كل جوانب الحياة.

5- لإنسان مسلم يرجى نفعه للإسلام:
إن الفرد الذي يدرج في سلك التربية هو ذلك الذي يرجى نفعه للإسلام، ويؤنس فيه القدرة على خدمة دعوته. وبعبارة أخرى إنه الذي يملك من المؤهلات ما يمكن التربية من أن تجعل منه إنسانا مفيدا للحركة الإسلامية، وقد جاء في الحديث المتفق عليه: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منه طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجاذب أمسكت الماء، فنفع الله بها فشربوا، وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبث كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به."
على احتمال أن يكون المستجيب نافعا لحركة الإسلام. ليس أمرا متروكا لتقدير كل داعية على حدة بل هو تقدير قائم على ملاحظة مدى اشتمال المستجيب على صفات محددة. حتى تحفظ للحركة الإسلامية طاقاتها أن تدفق فيما لا ينفع.

8- بما يتمكن به من التحكم في دوافعه:
فمما تهدف إليه التربية هو تزويد الفرد بالأدوات والآليات العلمية والتربوية التي يقدر بها على ضبط نفسه، وجعل هواه تبعا لما جاء به رسول الله صلى لله عليه وسلم. والتي عن طريقها يؤسس لنفسه شخصية مستقلة، تميز بين ما ينفعها وما يضرها.
ومن هذه الآليات: اعتماد الحوار داخل العملية التربوية، وفتح المجال للفرد في المطارحة والحوار حتى يتدرب على تأسيس قناعاته بنفسه، فيساهم في تكوين شخصيته وبناء ذاته. وهنا يظهر دور المربي الذي هو فقط دور وظيفي يقتصر على التوجيه والتتبع والعناية والتحفيز دون أن يجثم بشخصيته وتفكيره على الفرد فيصير الفرد نسخة من مربيه..يفكر بفكره ويتكلم بلسانه. فإذا غاب عنه المربي تجمد وسكن ولم يستطع سبيلا إلى التقدم والإبداع والاقتحام، فضلا عن التحكم في دوافعه ونزواته ورغباته بمفرده.
إن هذا ما يصنع في الحركة الإسلامية ما يسمى بالنمطية أي يصير الأعضاء كلهم أشبه بقطع السكر التي هي نسخ متكررة. كما يصنع التعصب للتنظيم والأشخاص وبالتالي يصنع آلهة بشرية ما يصدر عنها حق وما يصدر عن غيرها باطل…ومن هنا يبدأ الانحراف في اتجاه التكفير وغيره.

6- وبما ينمي إيمانه، وهمته، ووعيه:
إن تنمية الإيمان يتيحه فقه الدين والوعي والعمل به، وتنزيله تصورا وسلوكا.
وتنمية الهمة يتيحه فقه الدعوة والممارسة والتنزيل. وتنمية الوعي يتيحها ما سبق أي فقه الدين والدعوة بالإضافة إلى فقه الواقع والوعي به. ولهذا نجد جل البرامج التربوية التي اعتمدتها الحركة الإسلامية في العالم تصب في هذه الأفقاه الثلاثة: فقه الدين وفقه الدعوة وفقه الواقع.

7- وينمي استعداداته للخير والعمل الصالح:
هناك فرق بين تنمية الخير في الفرد، وبين تنمية استعداداته لفعل الخير. أي هي عملية تربوية تكوينية لشخصية فاعلة، تفعل الخير كما تربت عليه، وتروم الصلاح كما عرفته.

8- وتنمية ما يطور مواهبه تطويرا صحيحا حتى يكون صالحا مصلحا على نحو مطرد:
فالمواهب والطاقات، في كثير من الأحيان، تكون مخزونة تحتاج إلى من يفجرها ويصقلها لتترعرع وتجد الجو المناسب الخصب لنموها وتطورها. ولهذا فالتربية كي تحقق هذا لا بد أن تعتمد الوسائل والأساليب التي تؤدي لذلك: كتحديد ميولات الفرد والتشجيع عليها. أو تكليف الفرد بمهمات متنوعة من حين لحين. وتقويم مدى براعته وارتياحه لوظيفة معينة، أو عمل ما، أو فن من الفنون كالخط والرسم التشكيلي، أو فن الكتابة وصياغة الخطابات والمقالات، أو له مؤهلات ثقافية توجه أكثر، أو تربوية، أو إدارية تنظيمية، أو نقابية وكل ما يمكن أن يخدم به الإسلام والعمل الإسلامي وبالتالي يخدم الأمة والوطن.

II – الأهداف التربوية

أ‌- معنى الهدف:
الهدف هو الغاية التي يتصورها الإنسان، ويضعها نصب عينيه، وينظم
سلوكه من أجل تحقيقها.
ب– أهمية تعيين الهدف:
لو أمر إنسان أن يمشي في طريق معينة دون بيان أي سبب لهذا السير، أو اختيار هذه الطريق دون غيرها لسار مترددا. ولكان اندفاعه ضعيفا ولراوده التساؤل والتقاعس. ولكن لو قيل لهذا الإنسان مرة أخرى: اسلك هذه الطريق وستجد في آخرها بستانا جميلا، له أصحاب كرام يدعون جميع الوافدين للغذاء عندهم على ضفاف الأنهار والشلالات، وكان هذا الإنسان جائعا مستعدا للطعام لاندفع مسرورا مرتاح النفس راغبا، ولقطع الطريق بقوة وعزم وبأقل وقت وجهد. فالهدف يوجه النشاء ويدفع إلى الإنجاز، ويساعد على الوصول. والمغاربة الذين يعملون في الخارج في كل أنحاء العالم..يقطعون المسافات الطوال التي تعد بآلاف الكيلومترات. ولو افترضنا أن أحدهم يسير دون أن يحدد له هدفا يسير إليه لأصابه الملل والكلل لمجرد قطع مسافة لا تتعدى المائة كلم. في حين أن هؤلاء يظلون الليالي الطوال في سير مستمر دون سأم أو تراجع أو تقاعس لأنهم يدركون أنهم في سير نحو مكان محدد سيصلون إليه حتما..ولهذا تراهم يقطعون تلك المسافة البعيدة بكل عزم وتأكيد.
ومن هذين المثلين يتبين لنا أن لتعيين الهدف أهمية تجعله ضروريا لكل ضروب السلوك الواعي، فكيف بالنسبة لعملية تربوية يراد منها توجيه الأفراد وبناء أقوياء أمناء هم صرح الأمة ودعاة الناس إلى الخير والصلاح.

ج– أهداف التربية عموما:
إن أهداف العمل التربوي هي بدرجة أولى الأهداف العليا التي وردت في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وكانت مهمة الأنبياء والمجاهدين والمجددين على امتداد التاريخ.
فالهدف الأعلى من العملية التربوية هو تحقيق عبادة الله تعالى باعتبارها وظيفة الإنسان الأولى في الوجود ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فكانت دعوة الأنبياء للناس: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا لله واجتنبوا الطاغوت) ( ومن يستنكف عن عبادة ربه فسيحشرهم إليه جميعا) والعبادة هي الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله أمرا ونهيا، وتحليلا وتحريما، فهي انقياد لمنهج الله وشرعه.
وتنزيلا لهذا الهدف العام، وتجسيدا له نرى أن هدف العملية التربوية هو تكوين للفرد الذي ترسخت فيه معاني العبودية الخالصة لله تعالى على مستوى ذاته. والذي يعيش قضية الإسلام والمسلمين.والذي يدعو ويجاهد من أجل تغيير الاختلالات في المجتمع، وطبع كل مظاهر الحياة بقيم الإسلام. ولذلك يمكن إجمال أهداف التربية فيما يلي:
1- تكوين الفرد الرباني:
جاء في " الرباني" معاني كثيرة، وسأوليها اهتماما خاصا لكثرة ما يتحدث عنها:
قال سيبويه في معنى الرباني: "المنسوب إلى الرب، بمعنى كونه عالما به، ومواظبا على طاعته".
وقال المبرد: "الربانيون" هم أرباب العلم وأحدهم "رباني" وهو الذي يرب- بضم الراء وضم الباء- العلم ويرب الناس: أي يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم.
قال الواحدي: " الرباني: منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته. ويقول معلقا على قول المبرد: " الرباني مأخوذ من التربية"
قال أبو عبيدة: " أحسب أن هذه الكلمة تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم، واشتغل بتعليم طرق الخير".
وقال الطبري: "الربانيون جمع رباني وهم العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم".
وقال بعضهم: " هم ولاة الناس وقادتهم".
قال ابن زيد:" هم الذين يربون الناس"
قال أبو جعفر:" أولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع رباني، وأن الرباني المنسوب إلى الربان: الذي يرب الناس وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ويقوم بها."
وقال ابن عباس:"…والرباني الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره"
قال عبد لرحمن النحلاوي في قوله تعالى : ( ولكن كونوا ربانيين): أي تنتسبون إلى الرب جل جلاله بطاعتكم إياه، وعبوديتكم له، واتباعكم لشريعته، ومعرفتكم لصفاته، وإذا كان المربي ربانيا استهدف من كل أعماله التربوية أن يجعل الأفراد أيضا ربانيين يرون آثار عظمة الله ، ويستدلون عليها في كل ما يتلقون ويقرؤون. ويخشون الله ويشعرون بإجلاله. ومن تمام صفات الربانية أن يكون المربي مخلصا أي لا يقصد بعمله التربوي وعلمه واطلاعه إلا وجه الله ومرضاته، وإحقاق الحق ونشره في عقول الناشئين، وجعلهم أتباعا له.
ومن خلال التعاريف السابقة كلها يتضح أن الرباني هو: العالم بالله والمواظب على طاعته، ومعلم الناس ومصلحهم والقائم على أمورهم..الخبير بأحوالهم وبما ينفعهم ويصلحهم.

2- تكوين الفرد الدعية:
جعل هذه الصفة هدفا تربويا يعني جعل المؤمن يوقن أن مهمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الدعوة إلى الله سبحانه. قال تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)
فلكل ميدان فن يستدعي من صاحبه أن يتدرب عليه ليتقنه. وكذلك الدعوة إلى الله واجب وفن وصنعة تحتاج إلى التدريب العملي والواقعي الميداني لتخريج دعاة الواقع لا دعاة الانكماش بين الأوراق ودفات الكتب.

3- تكوين الفرد المجاهد:
لا يمكن أن نتوقع في الداعية الرباني صاحب التكليف والرسالة أن يخلو من التضحية والبدل والعطاء من أجل رسالته ودعوته، والصبر على مكاره الطريق وعقباته، والثباة أمام المغريات، وعدم الانجداب لعوامل الشد والإخلاد إلى الأرض والواقع وما لذ من الحياة وطاب من زينة( إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوكم أيكم أحسن عملا) فالداعية الرباني مطالب بأن يضحي بكل شيء من أجل دينه ورسالته – عندما يقتضي ذلك – وألا يضحي بدينه لأجل أي شيء مهما كان هذا الشيء ( إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأموالهم …)
وتدريب الفرد على الجهاد([2] ) والتضحية يبدأ انطلاقا مما وسعه وفي يديه..كتسخير منزله للعمل لله تعالى وتسخير دابته / سيارته ومن مساهماته المالية التي تعتمد عليها الحركة الإسلامية في إنجاز مشاريعها التربوية والثقافية والاجتماعية .

4- تكوين الفرد الحكيم:
الحكيم هو الذي يعلم أولويات الأمور ومراتبها، ويحسن النظر في الأشياء. فإذا قام بشيء قام به بالكيفية المناسبة، وإذا اختار الوسيلة اختار الوسيلة الأنسب، وإذا اختار الرجل اختار الرجل الأنسب، وإذا تكلم باسم الإسلام جنب كلامه الخلل، واستدل بأقوى الأدلة والحجج قال تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة…). جاء في كتاب فقهيات التعامل الحركي: " إن من أهم ما ينبغي فهمه في هذا الدين هو فقه الأولويات. وعدم فهمها يوقع الإنسان في أخطاء فاحشة لا يحمد عقباها. ومن الأخطاء الشائعة في فقه الأولويات مثل تقديم الفرع على الأصل أو تقديم المندوب على الواجب، أو تقديم التحسينيات على الحاجيات، أو الحاجيات على الضرورات."
وفقه الأولويات لا يقتصر على الأمور التعبدية فحسب بل يشمل سير الإنسان حتى في حياته الخاصة. وعلى المستوى التربوي كثيرا ما نجد عدم حسن إعطاء الجلسة التربوية مكانها من سلم الأولويات.
إن الحكمة تكتسب عن طريق التجربة إلى درجة أن في القديم ارتبطت الحكمة بالخبرة وطول التجربة فيقال: رجل حكيم مجرب.
ولنا في القرآن دروس تربي في الإنسان الحكمة والنباهة ووضع الأشياء في مكانها المناسب. حتى المصطلح وظف في القرآن حسب الحادثة أو الفكرة أو سياق الآية بحكمة بالغة إذ يستحيل إيجاد مصطلح بديل أبلغ وأليق من المصطلح الذي وضعه الله تعالى بحكمته وعلمه. فهذا أعرابي لم يسبق له أن سمع القرآن الكريم – والعرب أصحاب صنعة في اللغة والبيان- سمع رجلا يتلو آية هكذا ( والسارق والسارقة فقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم) فقال له أخطأت إن المغفرة والرحمة لا تناسبان قطع يد السارق، فتذكر الرجل الآية وقال: ( والله عزيز حكيم) فقال الأعرابي: نعم بعزته أخدها وبحكمته قطعها.
وكم نحتاج إلى الحكمة عند الحوار مع خصم فكري أو عقدي قصد تقريبه وضمه. وليس من الحكمة في شيء أن أصطدم مع الخصم المحاور لأول كلمة أو لأول وهلة بل من الحكمة التركيز على نقاط الالتقاء لإعطاء الفرصة للأرواح كي تتآلف لأن ما تنافر منها اختلف وما تعارف منها إأتلف. لأن التركيز على نقط الاختلاف والتباعد كثيرا ما ضيع على الحركة الإسلامية فرصا لتعزيز صفها بقياديين أو على الأقل بدوي النباهة ورجاحة لعقل.

5- ذو عقلية تأصيلية نقدية:
*-امتلاك العقلية التأصيلية معناه امتلاك القدرة على تحليل الواقع تحليلا إسلاميا. وإرجاع أسباب الظواهر الكونية والاجتماعية إلى سنن الله التي تتحكم فيها. والتي هي مبثوثة في أصلي هذا الدين: القرآن والسنة.
وصاحب هذه العقلية هو أيضا الذي يضبط حركته من أجل إصلاح أوضاع الناس بأصول الشريعة. بحيث يسعى دائما إلى البحث عن الحكم الشرعي لما يريد فعله أو قوله. فإذا علم بمشروعيته استدل بأصلها وبينه، وفي ذلك تربية لغيره من المومنين على التأصيل. وتمييزا لكلامه وتحليله عن كلام وتحليل الذين لا يقيمون لأصول الدين اعتبارا.
*- أما امتلاك العقلية النقدية فمعناه ألا يكون إمعة يقول إذا أحسن الناس أحسنت، وإذا أساؤوا أسأت. بل يوطن نفسه. ويعمل على أن يكون من ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله و أولائك هم أولي الألباب.) فصاحب العقل هو الذي لا يقبل إلا بدليل. ولا يرفض إلا بدليل ويتأمل فيما يقرأ أو يسمع، أو يرى من أقوال وأفعال ولو صدرت من الفضلاء و المشايخ ليطمئن إلى سلامتها من العيب والخلل والانحراف.. كما أن ذا العقلية النقدية يشارك برأيه متى بدا له ويشغل عقله فيما ينفع دعوته وأمته ووطنه. فيما يجنب دعوته الخطأ ويوفقها للصواب، ويفتح لها الآفاق، ويجتهد من أجل إحسان تطبيق ما يؤمر به، ويبادر بالاجتهاد فيم لم يؤمر به، ولا ينتظر نزول الحل أو الأمر. فالعقلية التي تنتظر ولا تتحرك من تلقاء ذاتها وتجتهد عقلية ميتة.. لن تكون فعالة أبدا.

خاتمة:
وكخلاصة نختم بها الحديث عن الأهداف التربوية هي الإشارة إلى ضرورة وعي الأهداف التربوية ومعرفتها، والعمل على السير في اتجاهها بترقب استشرافا لها، وشغفا إليها قصد تحقيقها أو على الأقل تحقيق ما يمكن تحقيقه منها. ومن مسؤولية الحركة الإسلامية أن تطمئن- بعد ذلك – إلى صدق هذه الأهداف حتى لا تكون كما يحدد رضا النحوي: " شعارا يملأ الحناجر والساحات ولا يملأ النهج والدرب، والجهد والوعي، وحتى لا تكون الأهداف في ناحية، والدرب في ناحية أخرى، تزداد المسافة بينهما كلما اشتد السير، فلا يفيق الناس إلا وهم بعيدون عن الأهداف، غارقون في المصائب والنكبات يتلاومون ويتلمسون الأعذار." فلا بد من وعي هذا حتى لا تباغث الحركة الإسلامية فتقول حينها: ها نحن انتهينا من تطبيق البرامج التربوية كلها لكن أين هو الرباني الداعية المجاهد الحكيم ذو العقلية التأصيلية والنقدية؟! وهذا بالضبط ما وقع للحركة الإسلامية التي لا تلام في تصوراتها أو برامجها بل من الحركات التي لها من التصورات ما يمتاز بالدقة والشمولية وقد أنجزت بعلمية تامة ومراعية للواقع والظروف التي يتحرك فيها المستهدفون. ولكن بعدما طبقت البرامج وأنزلت التصورات لم تتحقق الأهداف…فعوض أن يكون أبناء الحركة الإسلامية ملتزمين في مواعيدهم، ضابطين لسلوكياتهم، محترمين لقرارات قيادتهم، لا يتلهفون للمناصب أو يتصارعون عن الكراسي والمواقع، أو يحملون معاول الهدم لحركتهم بتأسيس الجيوب والطوائف لتكثير سواء الانتماء الداخلي واستقطاب أكبر عدد ممكن ترجيحا لكفة التصويت…
ويبقى السؤال الأهم لماذا هذا التباين بين تصورات الحركات الإسلامية وبين واقعها ؟ لماذا تنظيرها في واد وممارستها في واد آخر؟ لماذا تصوراتها تدل على النور وأبناؤها يسيرون في الظلام؟ نرجو أن يوفقنا الله تعالى لنجيب عن هذه التساؤلات إسهاما منا في تنوير السبيل نحو الحركات الإسلامية التي نتلمس فيها نضجا ووعيا ولا ينقصها إلا معالجة هذا الخلل التربوي الذي تسبب لها في نكسات كثيرة.


[1] – ليس معناه أن الحركة الإسلامية لا يمكن لها أن تنزل إلى المجتمع أو تزاول دورها التغييري فيه إلا بعدما تنتهي من تربية أعضائها. بل العملية التربوية عملية لا متناهية ومواكبة لكل مشروع مجتمعي.

[2] – يخطئ من يظن أن للجهاد مفهوما واحدا هو القتال والحروب وإراقة الدماء. فالجهاد في أدبيات الحركة الإسلامية هو التضحية الفردية والمساهمة في دعم المجتمع والإحسان إلى الفقراء والمعوزين. والصبر على عبادة الله و على اجتناب المعاصي وجهاد النفس الأمارة وهو ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأكبر.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *