Home»Régional»وقفة اعتبار مع شهر الصيام

وقفة اعتبار مع شهر الصيام

0
Shares
PinterestGoogle+

محمد شركي

نحمد المولى جلت قدرته أن أحيانا حتى أدركنا رمضان؛ الفرصة السنوية للعتق من النار وقد خاب وخسر من أدرك رمضان أو الحج أو أحد والديه ولم يغفر له كما جاء في الأثر. وعلى كل مسلم مد الله في عمره حتى أدرك فرصة المغفرة الثمينة أن يكثر الحمد والثناء على الله عز وجل ؛ وأن يستقبل الشهر الكريم بما يلزم من تقوى من أجلها تعبدنا الله بالصيام في قوله جلت قدرته : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات ) فالمفروض علينا ههنا عبارة عن صيام به تتحقق التقوى ؛ وقد استعمل السياق القرآني لفظة( لعل) التي تفيد الممكن الذي لا وثوق بحصوله ؛ لأنه ما كل من صام أردك التقوى المشروطة في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) والتقوى المستهدفة ههنا هي صيانة أمر الله عز وجل صيانة تامة مع الحذر من التفريط فيها كما تدل على ذلك اللفظة في لغة العرب.
والصيام أو الصوم لغة هو الترك والإمساك؛ فالعرب تقول فرس صائم إذا ترك العلف؛ وصامت الريح إذا ركدت؛ ويقال صام النهار إذا اعتدل لهذا قال شاعرهم:
وسل الهم عنك بجسرة // ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقد يطلق الصوم على ترك الكلام أيضا لقوله تعالى حكاية عن مريم بنت عمران صلوات الله عليها وعلى ابنها : ( إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) بمعنى نذرت صمتا.
والصوم في عقيدة الإسلام هو ترك الأكل والشرب والوقاع في زمن معلوم بين طلوع الشمس وغروبها . وإذا ما سأل السائل ما السر من تعبد الخالق سبحانه عباده بالصوم ؛ كان الجواب أنه جلت قدرته المنعم على خلقه بأفضاله التي لا تعد ولا تحصى لهذا حق له أن يختار لهم من صيغ الطاعة ما يوافي نعمه فكان الصوم صيغة من الصيغ ؛ وفيها ما لا يعلمه سواه سبحانه من النفع المادي والمعنوي بالنسبة للخلق وهو به أعلم.
وقد رفع الله عز وجل من شأن الصيام فجعله ركنا من أركان الدين التي لا يقوم الدين بدونها؛ وهو من الأركان المحدودة في زمن معين من الدهر خلاف ركن الصلاة الممتد في الزمن. فالصيام الفرض لا يكون إلا في أيام معدودات؛ كما يكون الحج في وقت معلوم؛ وتكون الزكاة أيضا في زمن محدد مرتبط بالحصاد أو باكتمال دورة النصاب. وهذه الطاعات الأركان تتفاضل دون اعتبار تراخي الزمن ؛ فطاعة الصيام مثلا بالرغم من قصر مدتها فإنها تعدل في الأجر والتواب مدة زمنية طويلة وهو ما أشار إليه الوحي في قوله تعالى : ( ليلة خير من ألف شهر) وهي ليلة القدر من ليالي رمضان. وحتى طاعة الصلاة يصير لها شأن آخر عندما تكون في أيام الصوم المعدودات من حيث الأجر والثواب؛ وحتى نفلها يرقى إلى مستوى فرضها.
وقد يسأل السائل لماذا كل هذا التشريف لهذه الأيام المعدودات ؛ والجواب أنه لا عبرة بتراخي الزمن وطوله دون أحداث مهمة ؛ والمعلوم أن الحدث المهم في تاريخ البشرية قاطبة هو تفضل الخالق سبحانه على خلقه بكلامه الكريم الذي غير مجرى حياة البشر. لقد دأب جلت قدرته على تكليم البشر عبر العصور في هذه الأيام المعدودات بعد ما أنزل كلامه الكريم من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا لينزل منجما على الأنبياء والرسل فوق سطح هذا الكوكب حسب ظروف قدرها القدير جلت قدرته ونعم القادر. والطبيعة البشرية ميالة للاحتفال بالأحداث الجسام في دهرها لهذا لا نستغرب احتفالنا بشهر الصيام وقد شهد أعظم حدث في التاريخ وهو تكليم الله عز وجل لخلقه من أجل وضع حد لحيرتهم الوجودية لأنهم بالفطرة يحتفلون بذواتهم كأشد ما يكون الاحتفال لهذا تؤرقهم الأسئلة الوجودية : من نحن ؟ ولماذا وجدنا ؟ وهي أسئلة تختلف الأجوبة عنها حسب ملل الناس ونحلهم ؛ فمنهم من يعتقد أنه وجد بالصدفة وأن الدهر مهلكه ؛ والله عز وجل تولى الإجابة عن حيرة الإنسان فأخبره الخبر اليقين وكان كلامه سبحانه العلم الحق الكاشف للحقيقة التي لا ريب فيها.
واحتفاء بالحدث العظيم تعبدنا الله تعالى بطاعة الصيام ولها رمزية خاصة ؛ ذلك أن الإنسان لا يترك أكله وشربه ووقاعه وهي إشباعات لأقوى الغرائز على الإطلاق إلا في حالة الذهول أمام عظائم الأمور؛ وهو أمر مألوف في حياة الناس فقد يتركون المأكل والمشرب والمضجع عند حلول الكوارث مثلا ؛ لهذا لا غرابة أن يؤمر الإنسان بترك شهواته المباحة في أيام معدودة ليلتفت إلى أهمية الحدث وهو كلام الله الذي أمرنا بتلاوته على طريقة معلومة خلال الأيام المعدودة ؛ وهي تلاوة صلاة التراويح لأنها الظرف المناسب لاستيعاب كلام الله عز وجل ؛ فالإنسان في الصلاة منقطع لله مستحضر معيته لا يلتفت ولا يأكل ولا يشرب ولا يتلفظ إلا بكلام ربه ولا ينصت إلا لهذا الكلام ؛ فهذه الوضعية تؤهله لاستيعاب جيد لما أمر به لتستقيم حياته ؛ وانصرافه عن الأكل والشرب والوقاع نهار يؤهله لهذا أيضا فيكون كل همه أن يتعامل مع الخطاب الإلهي خلال أيام معدودات ليكتسب عادة الاحتكاك به طول حياته .
والصوم يتقاطع في الدلالة اللغوية مع الصبر ؛فكلاهما يدل على الترك والحبس والمنع والعرب تقول صبرت النفس إذا منعت من شيء لهذا قال عنترة العبسي :
فصبرت عارفة لذلك حرة // ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بقوله تعالى: ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) هم الصائمون. والصوم صبر.
ومن صام عن مألوف مسموح به في باقي أيام الدهر خلال الأيام المعدودات كان أقدر على حبس نفسه ومنعها من غير المألوف والممنوع منعا أبديا. والله عز وجل يدربنا ويربينا على حبس النفس عن الممنوعات منعا أبديا من خلال حبسها عن الممنوعات منعا مؤقتا؛ والغرض من هذه الطاعة هو التعود على الترك وحبس النفس عن كل محرم ممنوع ؛ لهذا جاء في الحديث : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) ؛ والزور( بتشديد الزاي وضمها وتسكين الواو) من الزور( بتشديد الزاي وفتحها وتحريك الواو بفتحة) وهذا الأخير يدل على الاعوجاج والميل في كل شيء فيكون الزور المستهدف في الحديث هو كل قول أو فعل فيه زيغ وميل واعوجاج ؛ لهذا يطلق الزور على الباطل لأنه ميل عن الحق ؛ ويطلق على الكذب لأنه ميل عن الصدق وهلم جرا؛ والمقصود أن من ترك أكله وشربه في رمضان عبر عن التزامه الطاعة فإن ارتكب ممنوعا وهو في حال الطاعة كان ناقضا لطاعته كاذبا فيها لهذا لا تقبل طاعته وهو على معصية الزور أيا كان نوع زوره.
فالمطلوب أن يستوعب الإنسان المسلم الغاية من الصوم وهي الإمساك بالمعنى العام عن كل المعاصي مع معاشرة كتاب الله عز وجل في أيام معدودات تكسبه عادة معاشرته في باقي أيام الدهر لاستجلاء حقيقة المعاصي وتنكبها طلبا لرضا الخالق جلت قدرته الذي استأثر بطاعة الصوم وحده علما وجزاء كما جاء في الحديث : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به) فالحفظة الكرام الكاتبون لا يطلعون على منطقة القلب المحرمة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل ولا يسجلون إلا الإمساك المشهود بينما الإمساك على مستوى النوايا وهو المقصود فعلمه عند الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وعنده الجزاء الموفور.
فهل نحن في مستوى إدراك حقيقة الصيام ؟؟؟ أم أن الصوم فرصة اشتهاء وتنافس في الأطعمة والأشربة والهزل والسهر من أجل اللهو واللعب لتصير المناسبة العظيمة مجرد فلكلور نباهي به غيرنا ممن أضل الله من شعوب الأرض التي حرمت نعمة الإيمان لعلم الله تعالى بغلبة فجورها على تقواها ؛ وسبق الكتاب عليها والذي لا يغير ما به إلا القادر جلت قدرته.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *