Home»Régional»اوراق الطفل رضوان : من قرية مستفركي

اوراق الطفل رضوان : من قرية مستفركي

0
Shares
PinterestGoogle+

رضوان
يستيقظ الولد الريفي الصامت حتى الريبة، والوسيم حتى الاستحالة، حتى الإيمء بالعدم، ينفض ملابسه المتربة وراسه المعشوشبة بالأفكار المتوحشة، يشطف وجهه بماء بات للنجوم، ويمسح على شعره براحتين واثقتين من حمولة النهار. كما يفعل كل صباح، يطعم فراخ الحمام التي نسج لها أعشاشا من الحلفاء والحنان في زوايا الإسطبل الفارد، الفراخ التي يهتم بها لكنه لا يأكل لحمها ولا يحب من يجيء لشرائها لأنه ما فتئ يعلمها كيف تعود لأعشاشها مهما نأت بها السبل وتفرقت بها رياح المن. الحمائم التي يكلمها كما نكلم النفس القلقة ويشرف على توالدها ويراقب كيف تمارس الحب في فرح. يؤجل بعض تفاصيل يومه المتقطع، يهتم بصغار الخراف التي لم يسعفها بعد عودها للحاق بالقطيع، يداعبها حتى ترتخي ، ثم يمارس بعض الشغب غير المعود منه مع كلبه بوبي الذي لا يأكل من غير يديه…ثم يخرج قبل ان يضع لقمة في جوفه. يضن المتتبع أنه غادر أو انزوى للسبات لخوفه مما يحمله النهار، لكنه يكمل دورته في تفقد الحياة ومحطته الأخيرة قبل الدخول في تفاصيل من صنع الآخرين، يزور في طقوس تكاد تكون تعبدية ركنه السري الذي لم يعرفه أحد قبل اليوم،مند ما يفوق السنة، اكتشف بالصدفة ركنا سالكا وسط الصبار والسدرة، فأثاره نقاؤها ، وحمل لها التراب الغني والغبار المخصب والبذر والغرس فكان أن أنبت شجرتي خوخ وبعض الأزهار الجبلية ثم احكم صنع باب من الشوك لإبعاد المتطفلين، واظب على سقيها واهتم بها كما يهتم شاعر مريض بالطفولة بترتيب الأحلام.
بعدها فقء يقصد المدرسة وقد حمل كيسا به بعض الدفاتر المتفككة وقنينة بها شاي بارد رفقة كسرة ناشفة هي غذاء منتصف النهار. يعود في بداية المساء وقد خبأ راحتيه تحت إبطيه وجمد بلورتين مزورتين في جحر عينيه.
لم يفهم يوما لماذا تبني الوزارة المدارس وتدفع لمعلمين يمنعون الأطفال من اللعب والاهتمام بحواناتهم ويضربونهم كل يوم، لم يستسغ جسمه البي الحبس بين فتحة مقعد من خشب وحديد والنظر إلى لوح أسود رغم كل شساعة الكون، ولم يفهم ماذا عليه أن يتعلم من رجل تبين تكشيرته انه شخص تعيس للغاية، ولم يفهم كذلك لماذا عليه أن يتعلم أكثر مما يعرفه والداه وأجداده لأنه يحبهم كما هم…
رضوان سينهي الابتدائية فقط لأن التدفق الدراسي يستدعي ذلك فهو لا يعرف حتى كتابة اسمه. الوزارة لم تمنحه سوى نصف وجبة لليوم وعليه أن يقطع عشرين كلومتر يوميا لكي يكمل تعليمه، أو أن يعيش في بيت عمة عمياء لا تطبخ أكلا إلا احترق وهي كثيرة الشخير والأنين ليلا وليس لديها حيوانات. الإسمنت الرمادي في المدينة يخنقه ومجاورة العجائز تذكره بالموت، ولا يتخيل الحياة من دون حيواناته.
هو لا يتكلم في مثل هذه الحالات، لكنه يتحرك مثل بطل منسي على ركح مظلم صامت.جر أخاه الصغر نحو الحديقة السرية وأوصاه بالخوختين
– إذا كنت تحبني اعتني بهما حتى تصيران أعلى من الصبار وتطرحان الفاكهة الملآنة كتلك التي تأتي من المدينة.
ثم يختفي.
تذكر رضوان أنه يكمل السنة السادسة عشرة، لم يخبر أحدا، انتظر منتصف الليل بعد أن أكل الآخرون وناموا، بقي وحيدا في المطبخ المعزول، جلس القرفصاء أمام موقد الفحم ، قرب قنينة البنزين التي تستعمل عادة لإشعال النار، وتناول علبة السيليسيون من جيبه، أخد علبة سردين فارغة ، وبدأ يمزج الرغاء المخدر مع بعض البنزين قبل أن يقطر المحلول فوق الجمر ليتشرب الدخان المتصاعد من جراء احتراقه. قطرة، قطرتان…وبدا ذلك الكائن المزعج في علبة راسه يتقلص حتى أصبح بحجم حبة المشمش الصلبة الحامضة، وامتنع عن الحل والربط وغاب خلف ضبابية أفكاره المعلم والجدران الرمادية والمقعد البارد و…وفتحت فوقه عوالم مزركشة مغشية بضبابية ساحرة. راق له منظر الفقاقيع وهي تتصاعد بحرية وخفة نحو ثقب وهمي يوصل للسماء، ففكر أن يتحول إلى فقاعة منها لينعم براحة الانمحاء. حمل القارورة وبلل ملابسه بالسائل الناري، ثم العلبة ودهن وجهه وشعره بالغراء المخلص، ثم عندما بلغت به النشوة حد إلغاء الشعور بالأم، تناول جمرة كما يتناول الطفل الحلوى، وما هي إلا لحظة حتى فرقعت ضحكاته في صمت الليل البهيم : كأنه نشيد للاحتراق الصوفي يعلو حتى تذوب الذات العاشقة في لهيب عشقها ويختصر في اشتعاله العمر. كم علت ضحكاته وهو يرقب وميضه الخاص في قلب العتمة! لعله لم يتألم أكثر مما كان يفعل وهو يجر أياما آثمة تبعده عن طفولته وتدك ابتسامته وهدوءه تحت رحى السنين.
تصعد رضوان باسما وانتهى مع كل ما ينتهي ويصير ذكرى. عندما غمر شياطه المكان، طارت الفراخ التي ألفته وفضلت أن لا تعاود الهجوع لأنها لن تجد أثرا لعبق كفيه في حبات القمح ولا دفء أصابعه على ريشها المبلل بالمخاوف اليومية.
عندما خرج دخانه ورائحة لحمه المحروق من المطبخ، بحث الجميع عن رضوان فلم يجدوا غير كومة الرماد وبعض العظام الملتصقة بالأرضية الترابية حتى انه صارت مادة واحدة. نادى والده الإسعاف فطلب منه أم ينتظر لأن السائق في الحمام والعربة في حاجة لبعض البنزين المهرب ولتغيير العجلة.
جلست انه فوق الرماد وهي تلم الفحم الذي صاره إلى حضنها. "كنت دائما تقول لي يا وليدي:"يا أمي لا فائدة من البلوغ في هذه البلاد، سأضل طفلا إلى الأبد"
9مايو2007

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *