موت الشعراء في فاكهة الغرباء

ليس من العبث أن يعيش الشاعر المعاصر على الآهات والأحزان ، والإحتراق يوما عن يوم، شمعة تنير دهاليز العتمات ، وتسقي بدموعها الهالكة وجدان الشاعر المكلوم ، المأسور في صحراء قاحلة ، خالية من الواحات التي تزين أديمها، تلك الواحة أو الأمل الممتد في التيه،
يوفر للسالك لحظة حياة للعبور إلى الوطن الحلم أو الحقيقة.
فالشاعر يحي عمارة، رئيس اتحاد كتاب المغرب فرع وجدة، واحد من بين الشعراء الذين خاضوا غمار تجربة مريرة في زمن الشعر، تمخض عنها إصدار ديوان بعنوان (فاكهة الغرباء )،
وكم هو شاق أن تحفر بئرا في وطن الشاعر لتصل إلى مياهه المتدفقة شلالا بين الصخور، والفجوات الضيقة والمتسعة، والعيون المتفجرة هنا وهناك تحت أديم الأرض لتصير نهرا عابرا يجمع بين مياه متعددة الروافد والينابيع وتستخرج بدلوك الصغير غرفة من لحظات الشعر المتسرب زلالا من وجدان الشاعر ومملكته.
ما أصعب أن نحلل تلك المياه، رغم التقنيات والأجهزة الحديثة، ونعرف كل شيء عنها:ماهيتها ومذاقها ولونها وشكلها ومصادرها وعبقها إنها عملية معقدة، وفي هذا السياق يقول عبد الكريم الطبال:(….ولكننا إذا شئنا أن نتحدث في الشعر، اختصرنا في الكلام، وأجحفنا في البيان، ولم نبلغ المقصد الذي نتغيأه أو الشأو الذي نطمح إليه…*).ص99 في الشعر المغربي المعاصر سلسلة شراع ع34 محمد الميموني
(ما تبقى يؤسسه الشعر في هذا الزمن ). إنها صرخة أطلقها الشاعر في مستهل ديوانه الصادرفي دجنبر 1999، إلى كل المبدعين والمثقفين لإعادة صياغة الواقع من جديد والحفاظ على العلاقات المتميزة بين المبدعين وتكريم الشاعر صاحب القلب الكبير والإحساس الفياض والشعور المرهف تكريما يليق به ولو رمزيا، خدمة للفن وللوطن الحلم و مملكة الشعراء التي يستظل في ظلالها أهل القريض رغم اختلاف مشاربهم ونحلهم في فنون القول ، ولازال صدى الصرخة مدويا في الآذان تزداد ذبذباته عند رحيل أحد الشعراء في ظروف اليأس والإحباط وانكسار الأحلام في زمن الشعر المكلوم. إن اللون الذي اختاره الشاعر للديوان يكاد يحيلنا على زمن الاصفرار ولون البرتقال والقحط والجذب والغروب و الأحلام المصفرة المنتحرة في زمن الرداءة والتغريب.
والشاعريحي عمارة له رؤية خاصة في عالم الشعر، لايكتب إلا على أوتار العود وأنغامه عود الخليل بن أحمد،طليقا متحررا من قيودالقصيدة الكلاسيكية، تغرق ذاته في فيض السؤال:
أنا هل أنا ؟
منفي في المنفى
برتقال الوجود تمزف في كياني ص80
لم يستوعب بعض أدبائنا ومثقفينا صرخة الشاعر حيث خرقوا قانون مملكة القريض وأصبحت الساحة الأدبية تزخر بفن النقائض بين المبدعين من طينة واحدة ، وبين الفينة والأخرى تطلع علينا صفحات الجرائد الوطنية والمواقع الإلكترونية بمسلسلات فن التراشق البلاغي الممزوج بالفخر والوعد والوعيد والضبابية.حيث تعود بنا إلى زمن الدولة الأموية….
ولا يحتاج أحد إلى التذكير بأن مملكة الشعراء مملكة طاهرة لايتخذ فيها الإبداع وسيلة للتدنيس ، والتشهير بالمبدع أيا كان حيّه، وسكناه في المملكة. وصدق الشاعر يحي عمارة صاحب القولة ( ماتبقى يؤسسه الشعر في هذا الزمن )، إن مبدعا واحدا أعز من آلا ف الدواوين في فن الهجاء كفى من التعرض لأعراض الناس باسم الفن، ولنا في عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحطيئة أسوة حسنة فالتضامن والتآخي مطلب ملح في زمن الانكسار والهزائم المتكررة، وقتل الإبداع والمبدعين بدم بارد.إلى درجة رحيلهم عن المملكة في نعوش تتقاطر ألما ونزيفا .
يقول الشاعر:
حتى صار الوطن
خيطا رقيقا
يئن مثل الراست
بين يدي زرياب
أنت أغنية في الطريق
أنت لوحة
أوصاني عليها الصديق
قولي لقومي
أن يلملموا أسرارهم
لأرى ليلى
تشتعل بالفرح
وأسمع أخبار قيس
لا أخبار القدح. ص60
فالشعر عند شاعرنا وهج دامع حالم، يتأوه مجروحا، لكنه فراشة تطير رغم انكسار الجناح، صافية القلب، تغرد للعشق والجمال، وتغني للأحلام الوردية كلما ازدادت اللسعات.
يقول الشاعر رشيد سوسان: ( إن نار الشعر وجمره حين يحلان ببدن شاعر ما، تحولانه إلى ركام من العذابات، التي لا ينبعث منها إلا شاعر فذ)،
فالقصيدة بهذا المفهوم عند الشاعر يحي عمارة:
تروي هلوسة الروح
غب التيه والهيجان
تلقي حكمتها
في ظل الذاكرة الموشومة بالخشخاش
لاتأخذ جبل الأيام من إنسان جبروت
من شجن الأيتام
رتق ريش الشعر
هذا العشق المولود من أغصان الوقت .ص(8-9). الديوان فاكهة الغرباء
ويعيد نفس الصرخة في الغلاف الخارجي للديوان فيقول:
أيها الشعراء
خذوا صفوتي
ونبيذي، خذوا
سفري في المتاه
وانحتوا بالكتابة
بابا جديدا لكل السفراء.
وليس غريبا أن يحس الشاعر بالغربة في ظل الظروف المزرية، ظروف المكان والزمان المتنوعة، وقساوة الكائن المكرّم الذي أحال جميع الفضاءات إلى رماد، فإذا كان الحطيئة ناقما على الأوضاع في عصره إلى درجة أنه هجا نفسه يقول :
أرى لي َوجها شوه الله خلقه **** فقبح من وجه وقبح حامله.
فالمتنبي يقول لمخاطبه :
إذا نلت منك الود فالكل هين **** وكل الذي فوق التراب تراب
أما الشاعريحي عمارة فيقول في ( ترانيم على شاطىء الذات):
أرى ملمحي نسخة من غبار
أراود فكرة شعري المجمدة
غرفتي باردة
مفرشي حلم في شتات الوسادة
نفسي غريبة ظلي
فيا عادل الفقر دع هم دنياي
في ليلة الكلمات يدق القصيدة
في صيحة ليمزق رؤية روحي العنيدة
أحمل الفأس والكأس والدهر كله
فوق مناكب ظهري ، تداهمني صخرة من ألم
وأشطب تاريخ ميلادي المعلن
وغثاثة من في القمم.ص31
ينشد الشاعر سيمفونية الاغتراب الذاتي والمكاني، ويقدم قصائده الشعرية باقة وفاكهة للغرباء والمنفيين والمهمشين المقصيين والمغتربين في مدن الغرابة التي يغيب فيها الإنسان وتنعدم الألفة. إنها قصائد التراجيديا والألم المضني والتآكل الذاتي والتلذذ بالعذاب الاغترابي الذي يجعل الإنسان تائها ضائعا في ذاته وكينونته الداخلية) د. جميل حمداوي
http://www.marocsite.com/ar/modules/news/article.php?storyid=164
فقصيدة نداء إلى زائرة الليل تحيلنا على قصيدة المتنبي ووصفه للحمى يقول :
وزائرتي كأن بها حياء *** فليس تزور إلا في الظلام.
لكن زائرة شاعرنا المعاصر هي الموت التي يخاطبها بقوله:
يا زائرتي لاتتهمي لغتي بالزيغ
إن كانت تجسيدا لسويداء القلب.
وإن كانت عصفورة قاموس للعاشق
أو صوتا يوقد من غابت عني
في جوف الليل.غدا سأموت.
إن التغني بالموت والاحتفاء بالألم ظاهرة تمس إبداع معظم شعراء المغرب الشرقي، فالشاعر علي العلوي يقول :( الشعر هومسكننا، بل هو ملاذنا حينما يستبد بنا الوطن، ويشتد علينا الحال …)
يقول في ( رحيق الصمت)
سأموتُ وأصمتُ
مثل صبيٍّ خجولٍْ
………..
* * *
ليت لي وطنا
أستظل بماء جداولهِ
وأصلي على عشبهِ
ليت لي وطنا
أستنير بهِ
وأنيرُ البحارَ بألوانهِ
ليت لي ذكرياتٍ
أداري بها سوءتي
وأقول لها ما سيأتي
http://www.doroob.com/?p=17799
إن الشعراء اختاروا عن كره العيش في مملكة الحزن، فالمكان الكائن مرفوض لديهم لعدة اعتبارات وجيهة طبيعية وغير طبيعية فالذات الواعية الشاعرة لاتستطيع الانسجام مع محيطها في ظل الظروف الراهنة،حيث تتجرع مرارة الغربة ، وألم التهميش ،و الشاعر عبد الرحمن بوعلي على سبيل المثال واحد من هؤلاء يقول في قصيدته:
صورة في المرآة
ماالذي أشعل النار في صدرنا
كي نزيح الغمام الحزين
بعد ليل طويل؟
ما الذي أفرغ الكأس
كي نحتمي بالمفازة
أو نهاجر
أو نشتهي أرضنا؟
ما الذي سوف يدني ثمارا تروح
وأخرى تجيء
سوى الحزن
هذا الذي يستريح هنا
فوق نعش قديم
أو على صدرنا ص6 الأناشيد والمراثي
فالشاعر على حق حيث إن الأحزان تجثم على الصدور وتدفع بالإبداع إلى التلون بالألوان القاتمة التي تخدم تيمة الحزن ولحظات الألم والتشظي.الشيء الذي يدفع بالمبدع إلى الرحلة عبر الذات والبحث عن عوالم أخري يقول الشاعر محمد علي الرباوي:
في الداخل ما كنت سوى ورقة
في الخارج ماصرت سوى صخره
بين الداخل والخارج بعد أزرق
وطريق العودة أزرق. ص27 أطباق جهنم
أما الشاعر محمد السعدي يعبر عن معاناته أيضا في ديوانه الشهيد يقول في قصيدته أغنية الشعراء:
نشيد بالدم المسفوح مكتوب
وتلك مدائن تبنى على جسدي
أنا الإنسان والزفرات إبداعي
وأشعاري انفجاري والمدى وطني
وفي مدن السراب تغيب أقمار
تصوم الأقحوانة بعد موعظة
ومقصلـة
وشاخ الانكسار على انكساري ص17
فالبعد الدلالي في (فاكهة الغرباء) منفتح على المكان والإنسان، والشاعر يعبر عنهما في ظروف اليأس والإحباط وكان من الطبيعي أن يتلون الإبداع بألوان دموية يقول في سدرة الموت:
ردي يا يمامة عمري
كم من رعشات الجوى
ماتت
تحت الأنجم
كم من عندليب مثلك
جن تحت درع الليل
من قسوة الأمم
تمثال العشق مهرج عربي
في القمم
فأس الدهر يحفر في الضلع.ص34
(فاكهة الغرباء) أو عاصمة المغرب الشرقي في الديوان مكان مرئي تتجول فيه كاميرا الشاعر عبر فضاءاته المتعددة لتسلط الضوء على النقط السوداء التي تنغص حياة الكائن البشري، وتعري واقع المدينة الأليم المتناقض مع المتخيل لدى صاحب الديوان ،وقد تتداخل الأمكنة في ما بينها لتصبح رمزا للوطن فالجزء يعبر عن الكل ، وكل السمات المرتبطة (بالمكان الجزء) تنسحب على الوطن ،فالحقل الدلالي للمكان الموصوف يزخر بقاموس يعبر عن الحزن والتيه والفراغ والألم والأمل والضياع…. في ظل انتشار الفقر وصراع المرأة من أجل البقاء..والتوسع العمراني على حساب الاخضرار.
(فا كهة الغرباء) هذه المدينة التي يتفكه الغرباء ويتندرون بأخبارها، مدينة تحترق بدورها كذات الشاعر، حائرة متدحرجة بين ماضيها وحاضرها، وحلـمها الجميل ذلك الحلم الذي تتقاسمه مع الشاعر في وطنه ، إلا أن الصورة المرئية الموصوفة صورة قاتمة لمدينة تحترف يوما عن يوم ، حيث يجد فيها الشعراء مادة خصبة للنشيد والبكاء على أطلالها نظرا للتهميش الذي تعرفه ،والظلم الذي تعاني منه برتقالة الشرق الرافضة لكينونتهاوالمتطلعة إلى الماضي التليد والحلم الجميل فالحزام الأخضر طاله الوعيد وأحياء الصفيح تحبو على غير هدى.
فالقصيدة عند الشاعر تحويل المرئي إلى متخيل وتحويل المتخيل إلى مرئي ومن ثم يصبح المكان المنشود غاية لدى الشاعر يدافع عنه بما أوتي من بيان حتى يتحقق في الواقع،ودور المثقف في هذا الصدد رحلـة معاناة من أجل تحقيق الرؤية المشتركة.
فالذات الشاعرة فقدت الأمل فالدخان المنبعث من أغوارها يتصاعد يوما بعد يوم وتتسع دائرة الحريق ، وعلى الشاعر أن يختار إما البقاء في المكان المرئي واجترار الأحزان الممتدة في الآفاق المشتعل لهيبا، وإما الهجرة إلى أي وطن يلائم الذات الشاعرة على وقع النزعة الإنهزامية وانتظار ما ستأتي به الأيام لترقيع هويتها الحضارية . يقول الشاعر المبدع في (فاكهة الغـــــرباء ).
وجدة
في سنابل قريتها
يسكن القمح.
والحزن منجل
رايتها
تنتمي في سراب
الظروف إلى غسق الأرصفة
تمسك العود من شرقها
ترسم الحلم بالنزيف
يرى الشاعر أن ماضي المدينة ماض مشرق وحاضرها ينتمي في سراب الظروف إلى غسق الأرصفة ، أما حلم المدينة نفسها وحلم الشاعر يلتقيان هناك بعيدا في الآفاق ،هذه المدينة الموصوفةلاتعترف بالشعراء والمثقفين ولاتكرم موتاها فهم يسافرون الواحد تلو الآخر في صمت . ناكرة الجميل حيث كان آخرهم الشاعر محمد بنعمارة الذي يرقد بسلام على أطرافها.
فمتى يتعظ أهل الفن، ويعيشوا بسلام في مملكتهم ذات الدستور الأسـمى ؟ وصدق الشاعر حيث قال:
من غدا منا سيمضي ؟
حاملا وصفة داء….
صبر أيوب عليلا
يرتجي غيث الثقافة
ينهب الداء ُعظاما
في ليالي الغم والبؤس ونكران الجميل.
وحريق في الحشا يطوي الضلوع
كم صبرنا وشربنا المر آلاف السنين.
كيف تمضي بين أهل ؟
نجمة ليل السحاب .
كم ليال وحروب
وانهزام
ورحى الأحلام ترثي وتدور.
مت عزيزا وكريما بين أصحاب وأهل
فتراب الأرض أحلى من هدايا وبخور ( عكاشة البخيت )
وخلاصة القول إن شاعرية يحي عمارة شاعرية متميزة تجمع بين اتجاهات وأساليب متعددة تنهل من الماضي والمدارس الحديثة لتأثيث فضاء النص وقد وفق في تصوير وتشخيص المدينة بأسلوب ينحو نحو الرمز والتجريد والرومانسية الحالمة، مستخدما قاموسا شعريا يتناسب وحجم العمل الفني المركز والمتقن في الديوان.
4 Comments
احييك اخي عكاشة . ماذا اقول لك يا اخي ؟ ما ارجوه منك هو ان تبقى مخلصا للقلم لكتابة الشعر فعلا من حقك ان تجرب المجال النقدي و لكن اهل مكة ادرى بشعابها و انت تدري ان النقد مع الابداع لا يتلاقيان عادة ذلك ان النقد يحتاج الى اعمال العقل و يبقى الشعر فوق العقل اذن ابق فوق اليس كذلك ؟؟اختصر كلامي قراءتك جيدة لشعر الاخ و الصديق يحيى عمارة و الرجل و الحمد لله من خيرة ابنائها شعر و سلوك و اخلاق و الحمد لله . تحية من القلب اخي عكاشة و تحية لاخي الشاعر يحيى عمارة
شكرا للأستاذ على كلماته الرقيقة ودفاعه عن الشعر والكلمة الحالمة ،ألا ترى معي يا أخي أن النقد بدوره إبداع والشعراء النقاد هم أدرى بشعاب القصيدة ؟ وأنت بدورك مارست النقد في
تعليقك…. دمت قارئا عاشقا وناقدا منصفا.
تحياتي
صحيح اخي عكاشة ابدا لا انكر ابدا ما يسمى بالنقد الابداعي …. و انت تعرف ما فعل بارط في هذا المجال اكيد انت مطلع فقط انت نريدك شاعرا مميزافي زمن قل فيه الشعراء و هم كانو ا قلة من الزمن الاول ما اكثر الاسماء و كم هي قليلة تلك التي تبقى مرة اخرى احييك من القلب و احي الاخ عمارة يحيى
تنزاح الكلمات و تشرئب الخيوط متدافعة في اتجاه صوتك العمودي معلنة همهمة خيل الصباح على تلك البطاح على شرفات جرادة و اهات وجدة و فوق اقاحي العوينات و ارتعاشات صباح مخملي في تكافايت
شكرا على المرور وإليك الرابط الآتي :
link to poetearabe.maktoobblog.com