Home»National»ينيولوجيا الأرصفة المغربية

ينيولوجيا الأرصفة المغربية

0
Shares
PinterestGoogle+

عثمان بن شقرون

إذا كان هناك موضوع خصب وشيق يستحق التفكير و التأمل في المدنية الحديثة وتجلياتها البارزة، حسب اعتقادي البسيء لن يكون هناك أفضل من موضوع الرصيف أو الأرصفة بصيغة الجمع، كفضاءات وضعت شبه قطيعة بين ماضي المدينة وحاضرها. وهو موضوع قد يهتم به السوسيولوجي و الأنثروبولوجي و السياسي بالقدر الذي قد يهتم به المتسول أو المقاول والبائع المتجول. أقصد بالرصيف ذلك الجزء الناتئ من مسلك حضري مخصص لانتقال و سير الراجلين. والممشى الموازي لممر السيارات و المحيط به من جانبيه حيث يكون شارعا بضفتين. واحد على اليمين و آخر مقابل له على اليسار. هذا الفضاء العمومي الذي أفرزته الأزمنة الحديثة لضبط حركة السير و نقط الاتقاء و إنعاش واجهة المدن و إخفاء تجاعيدها، كما تخفي المساحيق تجاعيد امرأة ضاربة في أعماق الزمن، لم تعرفه مدننا القديمة ولم تكن في حاجة إليه و لا إلى أدواره. كان بإمكان الإنسان أن يتقاسم زقاقا أو دربا واحدا واسعا أو ضيقا متربا أو مبلطا بحجر مصقول مع باقي الدواب التي يتساكن معها في وئام. و يدب هو الأخر مثلها سعيا إلى غاياته. لكن الأرصفة وليدة التحولات الكبرى قلبت موازين الحياة التقليدية التي مست المدن العتيقة ومست معها حياة الساكنة. وأصبحت بدون مبالغة الإطار المرجعي الذي يلملم شمل حركاتها وسكانتها. وإني أتساءل لماذا يتم إغفال الحديث عن الأرصفة و الحفر في أصولها و متغيراتها على ضوء الإيقاع السريع و غير المضبوط للتمدن، حينما يتم الإسهاب في الكلام عن الحداثة بمناسبة وبدون مناسبة. ألا يجدر أن يفرد مبحث خاص بتجليات الحداثة والمدنية الحديثة بموازاة مع الحفر في الأرصفة؟. وأن يؤرخ لزمنها بدءا بظهور زمن الأرصفة؟. حتى و إن اقتضى الأمر تأصيل هذه الحداثة بتأسيس صدمتها مع بروز الأرصفة في المدن الحديثة. و كتابة تاريخ هذه الأخيرة بكتابة تاريخ الأرصفة.
فالأرصفة في بنيتها و هندستها عنوان لانخراط في أنماط الحياة الحداثية و إحالة عليها و على تعييناتها المختلفة. تحمل معاني التطور و التقدم بقدر ما تحمل معاني الصراع بين القديم و الحديث. تعيد طرح الأسئلة حول أنماط الحياة و أشكال الوجود، في شكل صراع ما بين قديم منغلق داخل الأسوار و جديد ممتد خارجها. فهي تجسيد حي للصراع حول التغيرات الجذرية التي وقعت ولا تزال تقع. سواء تم استيعابها أو تأجل ذلك إلى حين. وهكذا إذا كانت الأشياء لا تأخذ مدلولاتها الخاصة إلا في الزمان و المكان فكذلك الأرصفة لها زمكنياتها التي لها ميسمها الخاص الذي يضفي على المدينة صفات من صميم جوهرها ليكتسب هذا الفضاء هذه الأهمية الحاسمة و الملحوظة في حياتنا ويطبعها بمعالمه.
هذه الأرصفة التي ندب فوق أديمها على مدار اليوم، تمدنا باستراتيجياتها في التعيين و التحديد و التصنيف. بها نهتدي وبها نتمكن من اختراق الأماكن السرية و العلنية. و بها نصل إلى تحديد و اختصار طبوغرافية المدينة. كما أن التوزيع الهندسي والمعماري لفضاءتها و احتضانها انتصاب أعمدة وأسماء و إشارات و علامات تشوير و إعلانات ومؤشرات دالة تمكننا من اعتقال المدينة في ذاكرتنا. فنتفاعل مع ما تحمله من رسائل وخطابات و ثقافات بالقدر الذي تحاصرنا وتطبع حياتنا. و تسحب عليها الكثير من مواصفاتها. فنحن حداثيون بفضل ما أحدثته الأرصفة فينا من تغيير و طفرة.
في الأرصفة و عليها تتجلى الديناميكية في إيجابيتها و خمودها. فهي تحتوي كل الأدوار و الخدمات بدون استثناء. ولها دور كبير في تفعيل النسيج الاقتصادي. فهي المحتضن الرسمي لفرق الباعة المتجولين. وعلى الأرصفة يباع كل شيء بدءا من أبسط الأشياء كالسيجارة بالتقسيط إلى كل المواد الغذائية و الأكلات الخفيفة و الثقيلة والعجائن و الفطائر وحساء الحلزون و المثلجات و المرطبات وكل أنواع الملابس الخارجية والداخلية منها والأواني المنزلية و مستحضرات التجميل. و حاجيات ذات آخر صرعة أو قديمة ومستعملة. حتى ليخيل إلى المرء أنه في مطاعم كبيرة أو أسواق ممتازة لا متناهية. من يبيع على بساطها أكثر عددا بكثير ممن يشتري. وجدير بالإشارة انه على الأرصفة قد نحصل على كل الخدمات بدون تعقيدات بيروقراطية و دون أداء ضريبة على القيمة المضافة. و ربما لهذين السببين أصبحت رغبتنا في الشراء لا ترتوي إلا بالتبضع على الأرصفة.
ومن حيث أن الأرصفة وليدة هذه الأزمنة الحديثة، فهي و لا شك رمز للتحولات الاجتماعية و مقياس لحرارة زمن التوترات وزمن الانفتاحات. و فضاء للمطالبة بالشغل ومجال للاحتجاج الحداثي، كما هي أيضا فضاء الحضور الخفي و العلني للسلطة وهواجسها، في شكلها القديم و الحديث. وفضاء لتدخلاتها التي تعز المرء أو تهينه. و مع ذلك فهي فضاء لتشكل الرأي العام و سريان الخبر و الإشاعات على قدم و ساق. ومظهر لقوة حضور المجتمع المدني أو غيابه. و عن طريقها و بخباياها يجس أهل الرأي نبض وإيقاع التمدن فيها. وفيها ترى الساكنة نفسها كمرآة شفافة. علاوة على ذلك فالأرصفة تحتل أيضا حيزا مهما في الأنشطة الحكومية. خاصة تلك المتعلقة بحرية الإنسان وحقوقه. فمن خلال حرص هذه الأخيرة على أن يمارس المواطن حرية التجمع و التجول على الأرصفة، و ألا يحرم من هذا الحق حتى الإنسان المعاق تعمد إلى تسهيل الأمر عليه بولوجيات، تبيح انتقاله من قارعة الطريق إلى الرصيف بسهولة ودونما مساعدة من أحد. حفاظا عليه من حوادث السير المتافقمة و حفظا لكرامته الإنسانية.
الأرصفة فضاء الخضوع لسلطة الغير. ومكان يفقد فيه الفرد حميميته الخاصة. و فضاء يتوجب فيه الاعتراف بالآخر أو إقصاءه. وفضاء يتوجب فيه احترام القوانين بما هو مكان عام وملك مشترك. وهي أيضا فضاء لاقتراف شتى أنواع التجاوزات القانونية والانتهاكات الاجتماعية. فهي على سبيل المثال امتداد حيوي غير شرعي للمقاهي حيث تمتد فيها ما شاء لها أن تمتد بكراسيها و طاولتها وشمسياتها و بروزاتها. و بقوة هذا الامتداد تقوى شرعنته. و هي أيضا فضاء لخبرات وتجارب لسياسات تدبيرية محلية. كما هي أيضا موضوع تفويتات لهذه السياسات.
وهيئة الأرصفة و شكلها دليل على تنامي الحس البيئي عند المواطن، لما يستنبت على طولها أشجارا و نباتات. ولما يخضعها لعملية تحديث قيصرية. فيؤثثها بمختلف سلات المهملات وصناديق القمامة. ويعطي الدليل القوي على التحضر و التمدن حينما يستغلها أمثل استغلال، لدرجة قد يصبح على رأس كل رصيف مزبلة. و الأرصفة ككل الكائنات الحضرية وديعة ظاهريا عنيفة في العمق. وكما في الأرصفة منافع للناس فيها أيضا شرور و فخاخ و مخاطر: فضاء يسود فيه التزاحم والتدافع و الملاسنات بقاموسها الخاص و قيمها الخاصة. وهي فضاء تنصب فيه الشراك حينما تعمد البلديات عن حسن نية إلى ممزاحة المواطنين بترك البالوعات بدون غطاء، و غض الطرف عن كل جهة تترك أركان الأرصفة مزروعة بالمسامير و اللوالب الحادة قاصدة بذلك أن تخرج الشاردين عنوة من شرودهم إن هم أرادوا المحافظة على أقدامهم سالمة.
و بما أنها تحمل جينات زمانها، فالأرصفة مكان للانتظار بامتياز، حتى لتكاد أن تتحول إلى غرفة انتظار كبرى. فهي موقف لانتظار سيارات الأجرة. و محطة للحافلات و موقف لانتظار الدور في طابور طويل عريض للحصول على الفيزا. ومكان لضرب المواعيد و بسط اللقاءات. وفضاء لممارسة هوايات عديدة و قضاء مآرب لا تعد و لا تحصى. : وهي فضاء للبصاصين والاستعراضيين و الاستعراضيات. و فضاء للمعاكسة وممارسة أنشطة ليبيدية بالواضح و المرموز. وهي أيضا فضاء لتمضية الوقت أو اغتياله. و فضاء لمن ليس له ما ينتظر. وفضاء لمن كانت كل أوقاته تأتي في المرتبة الثالثة. وهي أيضا مرشدة العميان في سيرهم يفترشها المتسول و يتوسدها المتشرد. وهي مسلك العابرين و ملاذ الحمقى و المجانين و مأوى لمن لا مأوى له.
إلى ذلك، يتحول الرصيف في أدبياتنا اليومية بفعل الإثراء الدلالي إلى فضاءات حبلى بالعلامات الاجتماعية و الاقتصادية والثقافية و السياسية و الاستعارية. و كفضاءات تحمل كل هذا الزخم الإنساني تخضع بدورها لسلم القيم الإنسانية. فوضعها بذاته يحيل على تراتبية مادية بارزة للعيان. فمنها ما يسمح باستعمالها و ما لا يسمح بذلك. ومنها المبلطة وغير المبلطة. والتبليط درجات، التبليط بالزفت و الحصى أو بالإسمنت و الرمل أو بالرخام. والرخام بدوره على درجات. كما أنها تفرز على لسان مستعمليها دلالات رمزية. وإليها ينسب الإنسان العديد من نتاجاته المادية و الرمزية. فنقول: " له قاموس الرصيف" كناية على انحطاط كلام المرء و لفظه. ونقول: " فتيات الرصيف" و "صحف الرصيف" إشارة إلى دناءتها. و نقول لفلان: "ولد على الرصيف" دلالة على وضاعة منشئه. و نقول: "انتهى به الأمر على الرصيف" كناية على نهايته المأساوية.
إنه من المثير حقاٌ للانتباه أن تكون الأرصفة مجالا بكل هذه الخصوبة والمكسب والغنى ويتم تفويض تدبيرها لغرباء يجهلون فك أبجديتها. وأن تكون لغزا محيرا و لا تستثمر في البحث و الدراسة واستقصاء الظواهر واستنطاقها. فعن طريق المزيد من مأسسة الأرصفة يمكن التوصل إلى عقد شراكات بينها و بين عدة مؤسسات. وعن طريق ذلك يمكن مثلا دفع المؤسسات المختلفة والجامعات والمعاهد بالخصوص أن تنفتح على محيط الأرصفة. وبهذا المعنى يمكنني أن أتخيل على سبيل المثال العديد من العناوين، تصلح أن تكون تحقيقات صحفية ومواضيع لبحوث و أطروحات جامعية و بحوث ميدانية. و في مجالات وشعب علمية عديدة ومختلفة من مثل: -الأرصفة: المسار، المآل، مقدمات نظرية. – الأرصفة والتدبير المجالي في المدينة الحديثة. – الأرصفة و معيقات تدبير الشأن المحلي – الأرصفة وظاهرة الاحتجاج السياسي والاجتماعي. – الأرصفة أية حركة للضبط الاجتماعي.– دور الأرصفة في تفعيل النسيج الاقتصادي غير المهيكل الواقع والآفاق – الحركات الاجتماعية والأزمات الحضرية وتجلياتها من خلال الأرصفة.- المدن الحديثة و انشطار الأرصفة مقاربة حضرية- ظاهرة احتلال الأرصفة طنجة نموذجا… وهلم جرا.
هكذا إذن هي الأرصفة في المدينة الحديثة مجال مركزي يستأثر يوما عن يوم بالاهتمام. ومسرح لسائر الأنشطة والأدوار في جميع مناحي الحياة. وهي بذلك تسد كل الثغرات و الثقوب و تهيكل ما ينفلت من الهيكلة و إعادة الهيكلة، تلك الإشكالات الكبرى لموضوع المدن و التمدين. إلا أن الأرصفة اليوم، و بدون شك أو مواربة، تعرف وضعيات حرجة و أحيانا منفلتة. لدرجة أصبح فيه المنفذ إلى حظ أقل من التمدن والحداثة لتلبية حاجياتها المعاصرة لا يسير أحيانا بدون تعثرات أو مواجهات . وتعتبر حركات المد و الجزر التي تكون مسرحا لها، مشهدا تعبيريا لأزمتها، لذا فالرؤية المستقبلية لأي تحديث تفرض وضع مشاكل الأرصفة في مقدمة الأولويات وتفرض البحث عن حلول للصعوبات الملازمة لامتداداتها.

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *