Home»National»مجانين مدينة وجدة:بين غياب العـقل المـفكر وحضور الـذاكـرة

مجانين مدينة وجدة:بين غياب العـقل المـفكر وحضور الـذاكـرة

0
Shares
PinterestGoogle+
 

استوقفني قــبل أيــام مشــهدُ رجـلٍ مـجنون عند موقــف الحــافلة الرئيسي الــمؤدي للــجامعة ، حيث ظهر من خــلال كــلماته الـمبعثرة أنــه كـان إنساناً مثقفاً، يهــوى الفلسفة، وربــما لم يحــسن عمــلية الغــوص فيها، أو أنـه أخذ مفاهيمها وأفكارها من وجهة نظر سطية لم تسمح له بالإستفادة منها كما يجب .. وتبقى هذه مجرد تأويلات أو قراءات سطحية لما وراء كلماته التي كانت هي الآتية :  » يــقولون الميتافــيزيقا ؟؟ .. يـقولون إن وجود الــفكر يسبق وجود المــادة ؟ .. يا لها من سخافات .. « 

 

فخـطرت ببالي فـكرة  » مــجنونة  » كــرد بسيط على جنونه، كــأن أرسـل مثلا رسالة قصــيرة للـفلسفة أكتب فيها :  » لــماذا لم تحبيه كما أحــبك هو ؟ ألم يـكن بإمكانك أن تساعديه في الـحفاظ على عـقله سـليما كما هو ؟ مع بالغ أســفي. « 

 

للإشارة، فإن ما دعاني لكتابة هذه الملاحظات هنا، هو تعدد – لا يطــاق – في عدد الحالات من هذا النوع، والتي تصادفني أكثر من مرة في الشهر، أو أحيانا لمرات متتالية في اليوم الواحد.

 

ولعل أقرب مثال هو شخص يتخذ من المكان الذي أقطن به ممرا لمنزله، والذي كلما صادفته أجده يلقي أشعارا فرنسية من قبيل قصيدة  » النسيان  » و  » الحرية  » لــفيكتور هيجو .. وإذا مرت به امرأة أو فتــاة وابتعدت عنه يقول بلغة عربية فصحى :  » أنا لست مؤذيا، صدقوني أنا إنسان طبيعي .. لست متشردا .. لن أؤذي أحدا ..  » ثم يمضي في طريقه مكملا أشعاره ..

 

ومثال آخر أكثر قرباً ربما للوصف، هو رجل قد لا يبدو مجنوناً كلياً، إلا أنه قريب من اللاعقلانية في أحكامه وكلامه .. كان قبل عام مضى يركب الحافلة معنا كل صباح ويعود فيها عند الثانية عشر ظهراً، ولم يكن  أحد يشعر بالرغبة في سماع فلسفته  كل صباح ..

كان يقدم للركاب دروسا مجانية في الفلسفة .. وكنت كلما رأيته أتذكر  » ســقراط  » الذي كان يقضي يومه متجولاً بين الشباب والعامة يقدم لهم النصائح حتى انتهى به المطاف في سجن أثينا محكوما عليه بالإعدام ..

 

منذ ذلك الوقت وأنا أشعر، بل أفتخر بانتمائي لهذه المدينة الراقية بعقلائــها ومجانينها المثقفين .. وكل مرة أرى فيها مجنونا يلقي أشعارا أو يستحضر أفكارا من كتاب معين أشعر بالأسى الشديد .. فكيف يعقل أن تخطئ كتب التاريخ تدوين أسماء هؤلاء فقط لمجرد أن خلايا عقولهم تــعطلت عن العمل .. وبقيت الذاكرة تحمل في أدق تفاصيلها أفكارا وتأملات قضوا حياة ما قبل جنونهم في الإيمان بها والإطلاع عليها ..

لست أدري فعلا هل هذه الظاهرة منتشرة بكثرة في مدن أخرى بالمغرب، غير أن التقيد بمدينتي بدا لي مهما جدا لـعدم الخروج عن إطار الوصف الواقعي .

ربما يدعونا هذا الموضوع لتذكر أفكار ومؤلفات كثيرة كانت تصب في هذا المجال، وتدل على أن المفكرين لم يهملوا جانب الجنون  من تصوراتهم،  منها مثلا  » تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي  » لــميشيل فوكو .. والذي تحدث فيه بشكل مهم عن حركة وصفها بــ  » الإرهاص العظيم  » والتي وقعت في أوربا خلال القرن السابع عشر حيث كان المجانين يحتجزون بوساطة مؤسسات خاصة في أماكن منعزلة عن الآخرين، ثم تناول فكرة اعتبار الجنون نظيراً للعقل خلال القرن الثامن عشر ثم بعد ذلك بقرن واحد ظهور  » المرض العقلي  » . وقام فوكو بعد ذلك بتحليل أساليب معالجة المختلين عقليا – طرق صموئيل توك وفيليب بينيل – ويؤكد على أنها لم تتجاوز كونها مجرد أساليب متسلطة كسابقتها، لأن صموئيل توك كان يعتمد أسلوب معالجة المريض العقلي بالعقاب حتى يتعلم مجبرا السلوك العاقل، وفيليب الذي اعتمد أسلوب المعالجة بالحمام البارد .

وبعيدا عن التحليل النفسي، هناك قصة قصيرة خرافية كان قد ذكرها  » جبران خليل جبران  » في أحد مؤلفاته التي جمع فيها أعمالا مبعثرة، ذكر فيها أنه كان في قرية بــئر وحيد يشرب منه كل أهلها بمن فيهم الحاكم، وقد كان أهل القرية يحبون حاكمهم لدرجة كبيرة، ويوماً فكرت ساحرة في طريقة ليثور أهل القرية على الحاكم فتحكم هي مكانه، فقامت بوضع خلطة سحرية في البئر ليصاب بالجنون كل من شرب منه .. وفي صباح اليوم التالي شرب كل أهل القرية من الماء إلا الحاكم وحاشيته، فأصيبوا بالجنون وبدأوا يقولون :  » لقد أصيب الحاكم والحاشية بالجنون علينا أن نزيلهم من الحكم غدا إن لم يعودوا لرشدهم، فلن نقبل أن يحكمنا مجانين .. « 

وسمع الحاكم بالأمر ففكر قليلا ثم أمر حاشيته بأن يحضروا له من ماء البئر ليشرب هو والحاشية، فشربوا وسمعت أصوات في الغد وسط المدينة تقول :  » لقد عاد الحاكم إلى رشده .. عاد الحاكم ..  » ..

ما يمكن أن تستخلصه من القصة هو سؤال واحد يمكن صياغته فيما يلي :  » كيف نتأكد من أننا لسنا المجانين وهؤلاء الذين نراهم مجانين هم العقلاء/  خصوصا بذكر القولة ‘ المجنون هو من فقد كل شيء إلا عقله ‘ ؟ « 

عموما للاعقلانية أيضا تاريخ مهم في الفلسفة، ولا يمكن اعتبار كل ما يخالف منطق العقل السليم  » جنونا « ، فهناك من اختار الجنون عقيدة له، أو أيديولوجية كـما نلاحظ في كتابات  » فريدريك نيتشه  » ذلك الفيلسوف الرائع الذي جمع في مؤلفاته بين الشعر والفلسفة والعبث والعقل .. وكم من مختل عقليا ومضطرب نفسيا شهد له التاريخ بالعبقرية ..

نختم بمقولة  » ألبير أينشتاين  » :   » هناك شعرة رقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون  » .

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

5 Comments

  1. عكاشة أبو حفصة
    22/05/2011 at 23:29

    استاذة ايمان, بعيدا عن فلسفة المجانين التي تجوب مدينتنا أقول, كانت دائما تستهويني مقولة « خدوا الحكمة من أفواه المجانين والمجاديب » وما حكم وأقوال عبد الرحمان المجدوب ببعيدة عنا. رغم أن أقواله اصبحت مند القديم مضرب الأمثال. إن اعجابي بالمجاديب والمجانين جعلني ومند صغري أقصدالسوق لاثارة هؤلاء المجانين والمجاديب واستفزازهم. واتذكر منهم المرحومان ارقية مميس وزوجها الزكراوي.المرحوم الدعرة , المرحوم بورعدة,المرحوم لعجل المرحوم عويشة , المرحومة عيدة,.. »امقنين » وغيرهم من المجاديب فاحيانا أتعلم من كلامهم الشئ الكثير, لهذا اتخدت رفيقا لي مجدوب اسمه « ادريس » الذي يكره تلقيبه » بمقنين « اي طائر الحسون .وفي بعض الأحيان يقول لي كلام يجعلني أقبل رأسه وباستمرار. وعندما أسافر أتخده رفيقا لي في سفري وأتكفل به اثناء السفر لاستمتع بكلامه الذي كله حكم رغم انه لا يدري ما يقول في بعض الأحيان.ومن خلال تجوالي معه ادركت بانه إنسان معروف وينادى عليه ياللقب الذي يكرهه في جل المدن التي نحط الرحال بها…لا يعرف حلاوة كلام هؤلاء المجاديب الا من تدوق الحكمة الخارجة من أفواهم. ومع ذلك أتقرب إليهم فرغم الأدى فهم أشخاص رفع عنهم القلم لا نحاسبهم عن أفعالهم وأقوالهم.اشكر الأستاذةايمان على اثارتها لهذا الموضوع والسلام عليكم

  2. moussa
    23/05/2011 at 01:26

    sujet et texte tres interessants.

  3. سليم أحمد
    23/05/2011 at 04:31

    المجنون هو شخص لا يشبه أغلبيةالآخرين ويعيش في عالم خاص به،أما حكاية العقل أو اللاعقل في الفلسفة فلا تدخل في هذا المقال.العقل بالمفهوم العامي للكلمة يعني الرزانة والوسطية والإعتدال وهي مفاهيم جد نسبية ولا تحيل بالضرورة على مفهوم « الحق ». واما المجانين المهلوسون بالثقافة فهم يتخندقون في الماضي لسبب ما.هناك مجانين مبدعون خارج السياق كمن يرسم بريشة لا نراها نحن فنسميهم مجانين وهناك مجانين مبدعون داخل السياق نسميهم عباقرة:هذه الفئة الأخيرة تكون لها القدرة على ترجمة جنونها إلى لغة نفهمها نحن « العقلاء ». أخيرا أريد أن أضيف أن لا وجود للإبداع دون جنون وبما أن الحياة الإنسانية لا تستقيم دون إبداع فإنها لا تستقيم دون جنون
    شكرا على هذا المقال

  4. كتابي محمد
    23/05/2011 at 08:36

    الاخت ايمان الم يقل الفيلسوف الروسي الشهير دوستوفسكي قولته الشهيرة بعد دراسات عميقة للفكر الفلسفي :اخطط الان للمشروع التالي :ان اصبح مجنونا ؟فمن يدري قد يكون المجنون عاقلا والعكس صحيح العاقل مجنونا في اغلب اللحظات فالحكم على المجنون يتطلب دراسات طبية معمقة للتاكد من انه بالفعل مجنونا مادام ينطق بالمنطق وللامنطق فالحكم على الحمق غالبا ما يجانب الصواب وهذا ما اكدته الدراسات العلمية البيوعصبية مادام بعض المجانين ينطقون بما هو علمي ونطقي ,,,,,

  5. Abdallah
    23/05/2011 at 19:50

    a koullou man yatakallamou wahdahou ahmakoun?je ne pense pas que c’est sage de traiter ces fauts philosophes de foux…car à chacun une histoire differente de l’histoire de l’autre et qui certes se croisent dans le dictionnaire des histoires des hommes.rappelons nous du berger qui gardait son troupeau devant une classe et qu’un jour il répondu à une question que les éléves n’ont pu y répondre.chaque matin quand j’ouvre la porte de la psychiatrie ou je travaille,j’accueil des hommes et femmes en les réspéctant et croyez moi qu’ils ne sont différents de nous que par des trajectoirs de destins qui ont poussé ces gens à la solitude el la dépressions.il faut prendre soin de ces gens considérés foux à oujda et ailleur ,comprendre leurs histoires les aider id daka lan youhssabouna ala alami lhamaka…allah yahfad

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.