أيها المواطنون، الزموا مساكنكم !!

أيها المواطنون، الزموا مساكنكم !!
بقلم: ذ.إدريس الواغيش
لم يخطر ببالي أن أغير مسكني الذي ألفته رغم ضيقه، ولا جيراني الطيبين رغم بعض التشنجات القليلة، لولا رؤيتي لعينين صغيرتين، لكن زائغتين لـ"وديع" الصغير متلبساً يلتهم جسداً صغيراً ونحيلاً لأخته شهرزاد، كلما أقبل على النوم في البيت الصغير !. لم أستغرب حين سمعت الطفل الوديع وهو يسأل بعفوية بريئة: "بابا، واش شهرزاد ما عندهاش (التفاحة)؟". (يقابله "الحمامة" عند الأطفال). ولا تكراره حين يباغتها في الحمام قائلا: "بابا، واش شهرزاد ما عندهاش الشعر في "التفاحة" بحال العيالات اللي فالحمام؟". يومها فقط عرفت أنه آن الأوان لتغيير المنزل بما هو أكبر، وتغيير المنهجية في التعامل مع الأطفال الذين لم يعودوا أطفالاً. فتصبح (الحمامة) و(التفاحة) شيئان مختلفان، عما تعلماه في الصغر، كمسميات لأشيائهما !. ستصبح الحمامة، بعد اليوم، حمامة والتفاحة تفاحة. ونسمي الأشياء بمسمياتها، أو لنقل ببرموزها الدالة.
هكذا كانت البداية لمشوار طويل. بدءاً من السماسرة وألاعيبهم، والمشترين وطباعهم. كانت الخطوة الثانية بالموثقة، وكيف تؤدي لها ما بين 500 و 2500 درهم مقابل بضع كلمات وابتسامة وظيفية لا أقل ولا أكثر !.
المغرب الحقيقي، أخي المواطن البسيط ، لا يوجد في أخبار الجرائد التي مللناها، ولا في ثرثرة المقاهي والنوادي، ولا في تبادل الرسائل، والفضفضة عبر النت. ولكن في مكاتب نجهل عنها الكثير. فيها تعرف مغربك، وأبناء جلدتك ، وموظفات وزراء حكومتك….
بدت فاس كبيرة بحجم "نيويورك"، ومكاتبها تائهة بين ترشيد النفقات ، واعتماد موظفيها على العمل اليدوي في القرن الواحد والعشرين ، بملفاتهم (عفواً ملفاتنا) المطروحة على الأرض في زمن الحاسوب والعولمة !. وبذخ مكاتب أخرى بكراسي (تقلب) لك وجهك في رمشة عين نحو النافذة، إن لم تحسن استعمالها. فيصبح ظهرك في وجه الموظف الذي يخفي ابتسامة تحار في تصنيفها بين العفوية والتهكم !. سيتحول المشوار القصير من دار الضريبة إلى مشاوير، وأسئلة واستفزاز لابد من وضعه في الحسبان مستقبلاً. ستعرف أن الموظفين (فيهم وفيهم). قد يلمح لك بعضهم (بصعوبة الحياة) و( القهوة). ويبدي الآخرون جدية في تأدية مهامهم، فيظهرون لك الحق حقاً والباطل باطلاً، وألا شبهات بينهما، عكس ما تعلمناه من قبل. ستؤدي بك الورقة التي خرجت من أجلها في الصباح متحمسا إلى أوراق ومصاريف لم تكن على علم بها. ومشاوير ترهقك ، وإلى استعمال الهاتف لإخبار الزوجة أنك ستتعطل بعض الوقت، وبعدها سيتضح أنك لن تأتي للغذاء أبدا، فتخبرهم أن لا داعي للانتظار. لأن المشوار طويل… . ستسحب المبلغ تلو الآخر، حتى تشطب أرقام حسابك من على شاشة الشباك البنكي "الأتوماتيكي"، فلا تبقي إلا الفواصل والأصفار. فتضطر إلى استلاف مبالغ أخرى . ستجد نفسك في حرج بعد أن وعدت في الصباح صديقا لك أمام المقهى ، بأن نصف ساعة كافية للالتحاق به !, لكن سيبدولك أنك أمام رحلة طويلة ،ومتاهات متعددة وأمية (كبيرة) !. ستسمع سبابا في وزير يمثلك في الحكومة، ونعوتا لم تسمعها من قبل في حق الاشتراكيين والرأسماليين والمتوحشين !!…. ستحتار بين الرد على مواطن غاضب ،أ و الدفاع عن وزير يمثلك في حزب تنتمي إليه !. وستجد نفسك في عمارة فخمة لوزارة غنية، لكن بموظفين يبعثون على الحسرة، وحواسيب معطلة !. و سيقابلك موظف بابتسامة عريضة ومؤلمة قائلا: " حتى احنا ولاد الشعب، كنبغيوا نخدموا مع المواطن. لكن شكون يخليك ؟َ!. ها الكونيكسيون معطلة". ستجد نفسك أيضاً أمام مكاتب فارغة، فلا تستغرب. وأمام موظفات يتسكعن بين أروقة المكاتب وأخريات منشغلات بتصليح عطب في جانب جمالي من الوجه أو الحاجبين !. فلا تلتفتن إليك، وأنت واقف أمامهن. وموظفات أخريات لا يعرفن أزار الحاسوب ، فيتعاملن معها بدلع وجاهلة واضحين، ويقلن لك بصوت غليظ وجاف – وأنت واقف متهالك أمامهن -: " أمالك أصاحبي مخلوع !، تكلم بالجهد نسمعوك… ". ستجد أيضاً أيها المواطن الكريم موظفين لا يتقنون الكتابة باللغة العربية أو الفرنسية، وحين تسألهم ببراءة الأطفال: "ماذا كتبت لي هنا؟". يقول لك بغلظة ملغومة بتهكم واضح: "أشوف أخويا…حتى إلى ما عرفتيش، سير لعندهم لهيه. راهم عارفين !". تبتلع ريقك وتحمد الله أنك سألته بعد تسلمك الورقة، وإلا كان سيرسلك لميعاد قد يكون الغد أقرب محطة إليه. ستفكر في أشياء كثيرة، لن يكون الانسحاب من المشوار والرجوع إلى بيتك القديم أولها ولا آخرها. ثم تكتشف أن (العربون) في جيبك، والمشتري ينتظر ردك، و(النوطيرة) تنتظر توصلها بـ (الورقة الملعونة) لتكمل الإجراءات. و(الكلمة) التي أعطيتها لـ (ولد الناس) وزوجته التي شكرت سمعتك وسلوكك، فتكون مضطراً لتكملة المشوار !. ستعرف أيضاً، وأنت تطوف على المكاتب، أنك أمي في فقه المصطلحات. سيتهمونك أخي المواطن بالجهل والجهالة، فلا تقلق. لأن المفروض فيك أن تكون على علم بكل شيء ، من القانون إلى المالية !!. وإلا فأنت بدوي/قروي وغير متحضر !. ولكن لو حدثتهم عن غير قصد في الكفايات، سيسألونك أين تباع؟. ولو استفسرتهم عن الديداكتيك ، سيقولون لك "هل هو مؤنث أم مذكر؟!، وهل هو محلي أم مستورد؟". ستنكمش أسارير وجوههم ، وسيصابون بالإحباط وخيبات الأمل !. أما لو جانبت الصواب، وذكرت لهم بعض المواقع الإلكترونية، ستذهب عقولهم إلى ما هو إباحي بالدرجة الأولى، أو إلى الطبخ في أحسن الأحوال !. ستجد عقول الطير وأبدان الفيلة. لا تستغرب أيضا لكل الألوان التي قد تراها فوق الشفاه ، وكل (التحسينات) والمحسنات فوق العيون، من المقوسة إلى المطبوعة بالمداد الأسود !. أما العطور فمن حسن حظك أنك غير صائم، وإلا كنت مضطراً لطلب فتوى من أحد مقدمي البرامج الدينية في الفضائيات حول جواز صيامك من بطلانه؟!، فلا تكترث. ستعلم علم اليقين بأن عشرين سنة من عمرك لا تساوي أكثر من صندوق مساحته خمسون متراً معلقاً في الطابق الرابع، وسط حي شعبي !. وستعرف أيضا، أخي المواطن، أن ملاحظاتك بتحسين الخط لتلاميذك وطلبتك، مجرد مضيعة للوقت، وهدر مجاني لحبر أقلامك !!.
ها أنت الآن قد انتهيت من إجراءات تصفية ملفاتك، وبدأت تدور تائها بحثا عن منزل بديل لمسكنك القديم، ستجد مقاولين لم تطأ أقداهم المدرسة، وفي أيديهم مبايلات شبه مكسرة أو أخرى لآخر صيحات الموضة، فيهم المهندس والوكيل العقاري والعارف بخبايا الأمور في مدينة تظن أنك من قاطنيها، وتعرف عنها الكثير، والحال أنك لا تعرف عنها شيئا!.
سيسألك بكل خبث ووقاحة: "شحال المانضة ديالك؟". فتكون مضطرا للإجابة أو تركه لحاله وتنصرف. لكن الأبناء والزوجة يصرون عليك: "قولو شحال". فتكون هنا أيضا مضطرا للنفخ في راتبك. وحين تسأل عنه، سيقال لك أنه دخل للميدان حديثا، بعدما حصل على المعاش في فرنسا. وأن ثروته تقدر بالملايير، ويستطيع ترتيب الموظفين من جديد!. فاحمد الله أنك تعلمت حروفاً أبعدتك عن عبودية الصور والبشر، ولا تناجي إلا إلها واحدا و القمر !.
أقول كل هذا لكل مواطن يريد تغيير مسكنه، كي يضع أمام عينيه كل هذه المصاعب. لقد خيرتكم فاختاروا. خذوا حذركم ، أو الزموا مساكنكم !!.
3 Comments
معضلتنا اخي في هذا البلد هو النفاق الاجتماعي الذي تسرطن واصبح صعب الاستئصال بعد ان طرسه المواطن بتخليه عن دقوقه وتنازله عليها بدعوى الرغبة في الهروب من « الصداع وتهراس الراس ».
والمعضلة الثانية هو عدم تغعيل القانون والتشبث به .بالاضافة الى طغيان العلاقات عن القانون.المسؤول لايتحمل مسؤوليته في مراقبة من هم تحت امرته يتغاضى عن تهاونهم وتماطلهم واستغلالهم لزبناء المرفق… نحتاج الى تفعيل شعار ردده عمالنا بالخارج .بقولهم ان المشغل الفرنسي لطيف جدا لطن وقت العمل لايتسامح ويردد:
Travaille travaille ; camarde après
الاخ العزيز ادريس
حضورك مودة
الاستاد الزعماري بريدك الالكتروني من فضلك
شكرا لكما
أخي محمد الزعماري
أشكرلك متابعتك. الحقيقيةأنك حين تجول بين أروقة المكاتب بعد طول غياب، ستكتشف و في ذهنك أن كثيرا من الأشياء قد تغيرت، والحال أن الأمور لازالت على حالها في أغلب الإدارات. علما أن أشياء أخرى قد تحسنت حتى لا نرى كل الأمور بلون أسود. المشكل ياأخي ليس في الموظفين ، ولا مكاتبهم . و لكن في المواطن الذي لا زال في حالة شرود….!
مع تجديد شكري لك مرة أخرى …كاتبا وقارءا