ضرورة السير في طرق الفهم والتفاهم

ضرورة السير في طرق الفهم والتفاهم
يتعلق الأمر، هنا، بكيفية فهم بعضنا البعض. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال و تعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية مثيلا لها (الهواتف المحمولة، الأنترنيت الخ) و نلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا لبعضنا البعض، و عدم التفاهم بين الأمم و القارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم و لا بالتفاهم. نجد نقل المعارف و المعلومات، ولكن لا نجد الفهم و لا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل نفس العائلة، بين الآباء والأبناء، بين الإخوة والأخوات، أو حتى داخل نفس مكان العمل، أو نفس الجامعة. إن عدم التفاهم ليس هو فقط ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب و الديانات، و لكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكل واحد منا. كيف يمكننا تحقيق التقدم و الرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنا عاجزين عن التفاهم بيننا ؟.ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد، دائما أن الشر يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية تطورا أعطى الفرد مزيدا من الاستقلالية. و ينبغي الإسراع بالقول إن هذه الخاصية تعتبر معطى حضاريا أساسيا وإيجابيا. ولكن عندما يتم هذا التطور( تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق فقط العزلة، بل يصنع الأنانية و التبرير الذاتي، و تجريم الآخرين، و تحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلا، تعرف مدينة وجدة اكتظاظ لحركة السير، في ساعات الذروة وفي الأسواق الأسبوعية، ولكنه مشهد مفيد؛ فعندما يشاهد الشخص ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسب و شتم، فإنه يقتنع بسهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات، وفي الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى هناك شيء آخر ركز عليه الفيلسوف هيغل ألا و هو اختزال الغير في أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه، واختزاله فيه. و هذا هو العمل الأسوأ. يقول هيغل إذا وصفت رجلا قام بجريمة واحدة في حياته بالمجرم فإني أنزع عنه كل مظاهر حياته وأفعاله لأسجنه في هذا المظهر الوحيد، و لأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تحدث عنها هيغل هي أحد آليات سوء الفهم والتفاهم. و هي لا تصدق على الحالات الفردية فقء بل إنها تصدق حتى على الجماعات. فحرب كوسوڤو التي وقعت بين مكونات كانت إلى وقت قريب تشكل "أمة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير في عنصر واحد فقء من عناصر هويته و تاريخه، هي تنكر لتاريخ مشترك سهل كل التجاوزات باختزال العدو في صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمي أسوء مظاهر العداوة والحقد التي يمكنها أن تنتشر بين الناس و بين المجتمعات.
و يهمنا، هنا، جانب آخر في التفاهم ألا و هو تجاوز اللامبالاة إزاء الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف على الغير، موضوعيا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، الخ، بل التعرف عليه عن طريق الإحساس و التعاطف. فإذا رأيت طفلا يبكي فإني أتفهم حالته و أنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلا، و أحسست بما أحسه، و أعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، فلن يكون هناك أي شكل من أشكال التفاهم.
و لتفسير هذا الأمر، أسوق مثلا آخر، و ليكن هو ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس من يقول إنها مكان للاستيلاب، حيث يتم تخذير المتفرج و فصله عن الواقع، و إفقاده جزءا كبيرا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحا. و لكن هناك مظهر آخر يكتسي أهمية بالغة، ألا و هو التماهي، فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربي فينا الانفتاح على الآخرين، والانتباه إليهم كما هم، و بالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
و لا تصدق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة، فقء بل تصدق حتى على الشخصيات التي تجسد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكرنا مثلا فيلم "العراب" لفرانسيس كوبولا، وانتبهنا إلى رئيس العائلة أو رب الجماعة كما أداه كل من الممثل بروندو أو ألباسينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة و البأس، و القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحب والوفاء و الإخلاص؛ وأنه يتألم و يبكي كباقي البشر؛ فنحن نفهمه في شموليته وكليته.
يحدث نفس الشيء عندما نشاهد شارلي شابلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه بشكل لا يصدق، و مع ذلك بمجرد ما نخرج من قاعة السينما و نصادف متشردا، فإننا نبدي نفورا منه و لا نبالي به. إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات و نفهمها بفضل التماهي. و نفس الشيء يصدق على الشخصيات الروائية أو المسرحية كشخصيات وليام شكسبير، مثلا.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عبر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها، و لكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك؛ و نكون كالنائمين. و هو ما يعطي معنى لعبارة هيراقلطس، الفيلسوف الذي تكلم كثيرا بالاستعارات، تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها:"يقظون، لكنهم نائمون" وهي عبارة تستحق أن نتأملها باستمرار.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات، و تفادي التبرير الذاتي و تجريم الغير، والكذب على الذات، و هي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكنها أن تساعد على تربية ملكة الفهم و تطويرها. و يمكن تدريسها منذ الفصول الدراسية الأولى، و ليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعية للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم و يهدده؛ و من المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقي بمستوى العلاقات بين البشر
يتعلق الأمر، هنا، بكيفية فهم بعضنا البعض. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال و تعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية مثيلا لها (الهواتف المحمولة، الأنترنيت الخ) و نلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا لبعضنا البعض، و عدم التفاهم بين الأمم و القارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم و لا بالتفاهم. نجد نقل المعارف و المعلومات، ولكن لا نجد الفهم و لا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل نفس العائلة، بين الآباء والأبنا أو حتى داخل نفس مكان العمل، أو نفس الجامعة ان عدم لتفاهم ليس هو فقط ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب و الديانات، و لكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكل واحد منا. كيف يمكننا تحقيق التقدم و الرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنا عاجزين عن التفاهم بيننا ؟.ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد، دائما أن الشر يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية تطورا أعطى الفرد مزيدا من الاستقلالية. و ينبغي الإسراع بالقول إن هذه الخاصية تعتبر معطى حضاريا أساسيا وإيجابيا. ولكن عندما يتم هذا التطور( تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق فقط العزلة، بل يصنع الأنانية و التبرير الذاتي، و تجريم الآخرين، و تحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلا، تعرف مدينة وجدة اكتظاظ لحركة السير، في ساعات الذروة وفي الأسواق الأسبوعية، ولكنه مشهد مفيد؛ فعندما يشاهد الشخص ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسب و شتم، فإنه يقتنع بسهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات، وفي الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى هناك شيء آخر ركز عليه الفيلسوف هيغل ألا و هو اختزال الغير في أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه، واختزاله فيه. و هذا هو العمل الأسوأ. يقول هيغل إذا وصفت رجلا قام بجريمة واحدة في حياته بالمجرم فإني أنزع عنه كل مظاهر حياته وأفعاله لأسجنه في هذا المظهر الوحيد، و لأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تحدث عنها هيغل هي أحد آليات سوء الفهم والتفاهم. و هي لا تصدق على الحالات الفردية فقء بل إنها تصدق حتى على الجماعات. فحرب كوسوڤو التي وقعت بين مكونات كانت إلى وقت قريب تشكل "أمة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير في عنصر واحد فقء من عناصر هويته و تاريخه، هي تنكر لتاريخ مشترك سهل كل التجاوزات باختزال العدو في صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمي أسوء مظاهر العداوة والحقد التي يمكنها أن تنتشر بين الناس و بين المجتمعات.
و يهمنا، هنا، جانب آخر في التفاهم ألا و هو تجاوز اللامبالاة إزاء الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف على الغير، موضوعيا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، الخ، بل التعرف عليه عن طريق الإحساس و التعاطف. فإذا رأيت طفلا يبكي فإني أتفهم حالته و أنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلا، و أحسست بما أحسه، و أعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، فلن يكون هناك أي شكل من أشكال التفاهم.
و لتفسير هذا الأمر، أسوق مثلا آخر، و ليكن هو ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس من يقول إنها مكان للاستيلاب، حيث يتم تخذير المتفرج و فصله عن الواقع، و إفقاده جزءا كبيرا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحا. و لكن هناك مظهر آخر يكتسي أهمية بالغة، ألا و هو التماهي، فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربي فينا الانفتاح على الآخرين، والانتباه إليهم كما هم، و بالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
و لا تصدق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة، فقء بل تصدق حتى على الشخصيات التي تجسد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكرنا مثلا فيلم "العراب" لفرانسيس كوبولا، وانتبهنا إلى رئيس العائلة أو رب الجماعة كما أداه كل من الممثل بروندو أو ألباسينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة و البأس، و القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحب والوفاء و الإخلاص؛ وأنه يتألم و يبكي كباقي البشر؛ فنحن نفهمه في شموليته وكليته.
يحدث نفس الشيء عندما نشاهد شارلي شابلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه بشكل لا يصدق، و مع ذلك بمجرد ما نخرج من قاعة السينما و نصادف متشردا، فإننا نبدي نفورا منه و لا نبالي به. إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات و نفهمها بفضل التماهي. و نفس الشيء يصدق على الشخصيات الروائية أو المسرحية كشخصيات وليام شكسبير، مثلا.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عبر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها، و لكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك؛ و نكون كالنائمين. و هو ما يعطي معنى لعبارة هيراقلطس، الفيلسوف الذي تكلم كثيرا بالاستعارات، تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها:"يقظون، لكنهم نائمون" وهي عبارة تستحق أن نتأملها باستمرار.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات، و تفادي التبرير الذاتي و تجريم الغير، والكذب على الذات، و هي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكنها أن تساعد على تربية ملكة الفهم و تطويرها. و يمكن تدريسها منذ الفصول الدراسية الأولى، و ليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعية للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم و يهدده؛ و من المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقي بمستوى العلاقات بين البشر




Aucun commentaire