Home»Régional»صراع الثقافات حول الجسد الأنثوي

صراع الثقافات حول الجسد الأنثوي

0
Shares
PinterestGoogle+

لقد كان ولا زال موضوع جسد المرأة قضية خلاف عميق بين مختلف الثقافات ذات المنطلقات العقدية المختلفة إلى حد التناقض .ولقد طفا على السطح ومنذ عقود الخلاف حول جسد المرأة بين اللاهوت الإسلامي واللائكية الغربية وازداد حدة بعد الاحتكاك العنيف جراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي نقلت العالم من حرب باردة بين قطبي الغرب اللائكي إلى حرب ساخنة في عقر دار بلاد الإسلام المنقسمة على نفسها إلى أنظمة تؤيدها اللائكية الغربية ؛ وجماعات دينية تحظى بعطف الشعوب لأنها تقاوم المد الغربي الهادف إلى طمس معالم العالم الإسلامي بما فيه الشطر العربي وهو الشطر الأكثر توترا بسبب وجود كيان مستورد قبل خمسة عقود لتفجير هذا العالم وتفكيك عراها إيديولوجيا وفكريا وثقافيا .
وقضية جسد المرأة في العالم الإسلامي كما في العالم الغربي محسومة بهذا الشكل أوذاك ؛ فهي قضية خلقية في العالم الإسلامي ذات خلفية دينية ؛ بينما هي قضية لا علاقة لها بالأخلاق ولا بالدين منذ انفصلت المؤسسة الدينية المسيحية عن الدولة .
جسد المرأة في الثقافة الإسلامية له بعد قدسي قاعدته التكريم الإلهي لبني آدم وإخراج اللباس كزينة وستر ورمز يختزل قناعة معينة بحيث يعزل الجسد الأنثوي بستار يمنع الإفضاء إلى التعامل معه تعاملا غريزيا غير مضبوط على شاكلة التعامل مع الجسد في المجتمع الحيواني مما يؤدي إلى السقوط في مخالفة الناموس الإلهي في قضية وجودية حساسة ذلك أن الجسد الأنثوي وهو بحكم طبيعته وحسب التعبير القرآني الحقل المناسب للحرث البشري باعتبار البشر محصول شبيه بمحاصيل عالم النبات والحيوان؛ فالوجود البشري ضروري لقيام ملكوت الله عز وجل وعبادته بمعنى الخضوع لما سطره من ضوابط تجعل الحياة كائنة وبوتيرة معينة مفضية لعالم آخر يعد مرحلة الجزاء السابقة لمرحلة الابتلاء .
ولما كان الوجود يتوقف على التناسل ؛ وكان جسد المرأة هو المعادلة المهمة في هذا الوجود فقد تم التعاطي معه وفق الهدف والغاية من هذا الوجود.
أما جسد المرأة في الثقافة الغربية ليس له قدسية ؛ وإنما له حرية لهذا لا يشكل الستر أهمية بالنسبة له
بل يتحقق وجوده بالتخلص من الستر المانع لقيمة الزينة ذات الوجود الطاغي في ثقافة التسويق؛ لهذا لايضير هذه الثقافة أن يكون التعامل مع الجسد الأنثوي على غرار المجتمع الحيواني الطبيعي والفطري؛ فالجسد الأنثوي في ثقافة الغرب لا يمثل حقل الحرث البشري بالدرجة الأولى بل هو أداة المتعة التي تقتضيها قيمة الحرية بما في ذلك حرية الاستهلاك والاستمتاع ؛ ومتعة الجسد الأنثوي قد تسبق الهدف الوجودي خلافا لما في الطرح الديني الذي يجعل المتعة وسيلة من أجل الوجود وليس العكس .
فاختلاف الرؤى بموجب اختلاف المنطلقات هو الذي يتحكم في شكل الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي انتسابا واللائكي ممارسة وواقعا .والقضية لا يمكن أن تختزل في موقف فردي هنا أو هناك ؛ فالمفتي في استراليا هو مجرد تجل من تجليات الصراع الثقافي الإسلامي الغربي في قضية الجسد الأنثوي .
ولا يمكن أن ينتظر ممن كانت قناعته محددة الأهداف والغايات معلومة المصدر أن يلام على تعامله مع قضايا الحياة. فوصف شيخ استراليا للجسد الأنثوي ولمن له علاقة به صادر عن قناعته فإذا ما جرم جرمت قناعته في الحقيقة وهنا تأخذ القضية بعدا آخر . فالمجتمع الغربي بما فيه الجغرافية الاسترالية
يفرض شكلا معيننا للجسد الأنثوي حيث تعرض العمليات الجنسية الفطرية الغريزية عبر فضائياته دون استنكاف أو حرج بسبب الضوابط الأخلاقية؛
وبأشكال قد تفسر عند أصحاب القناعات الشرقية الإسلامية على أنها ابتذال وامتهان للجسد الأنثوي الذي يؤتى من قبل ومن دبر وحتى من فم في حين هو تربية جنسية من نتائج مفهوم الحرية ذات المنطلقات اللائكية التي لها تفسيرها الخاص بها فيما يتعلق بالقيم والأخلاق. لم يحصل احتجاج كالذي حصل في استراليا بسبب كلام الشيخ على ما تعرضه الفضائيات من جنس مبتذل حسب الطرح الديني ؛ وقد أصبحت البورنوغرافيا واقعا مألوفا له قوانينه الضابطة حسب القناعة الغربية ؛ وهو لا يعتبرمساسا بطابوهات الثقافة الشرقية الإسلامية . فإذا ما استثنيت الممارسات الغربية مع الجسد الأنثوي من الطابوهتية إن صح التعبير ؛ فلا يجوز أن تفرض هذه الطابوهتية على ثقافة الأقلية في استراليا وغير استراليا.
قبل سنوات شهدت هولندا محاكمة داعية مغربي انتقد الشذوذ الجنسي على منبر يخاطب الجالية المسلمة ؛ واليوم يحاكم داعية آخر في استراليا عبر عن وجهة نظره في الجسد الأنثوي في خطاب موجه للجالية المسلمة وعلى منبر مكان للعبادة. ويمكن للمرء أن يتساءل عما يصدر في أماكن العبادة الغربية من خطابات قد لا تكون مقبولة في المجتمعات المسلمة على غرار خطاب البابا وخطاب الصحافة الدنماركية.
فإذا جاز انتقاد نظرة ثقافة ما في قضية ما فلا بد أن يكون الجواز قاعدة عامة حتى لا تسود عقلية الإقصاء والإكراه وفرض الثقافة الواحدة والوحيدة كما هو شأن الثقافة الغربية المعولمة أو المراد لها ذلك.
لقد حصل في فرنسا ما هو أكثر من تصريح شيخ أستراليا حيث منع الجسد الأنثوي الحامل للهوية الشرقية الإسلامية من ستره باعتبار الستر يعادي الايديولوجيا الغربية اللائكية مع ضرب حقوق الأقليات عرض الحائط في حين يمارس الجسد الأنثوي حريته الكاملة في الكشف والتكشف في كل أنحاء العالم الإسلامي دون أن يجد مضايقات بل يستفيد من امتيازات مقاضاة المتحرش به ؛ والتحرش هنا يترك تحديده وسلطة تقديره لصاحبة الجسد انطلاقا من مبدأ الحرية؛ ولا يعتبر نزع الستر عن الجسد الأنثوي في الثقافة الإسلامية قسرا تحرشا ؛ ولا تعطى صاحبة الجسد المكشوف عنه قسرا حرية تقدير التحرش كندتها في المجتمع الغربي.
إن قضية الجسد الأنثوي أعمق مما يتصوره البعض فهي عبارة عن تجل لصراع بين ثقافتين مختلفتين متصارعتين على قيادة العالم واحدة تعتمد استراتيجية الإكراه بالقوة المادية والمعنوية لتعميم نموذجها ؛ والأخرى تعتمد استراتيجية الإغراء من خلال البعد الديني الأخلاقي.وهذا الصراع لا يمكن أن يحل بخيار واحد هو خيار الغالب والمغلوب ؛ لأنه خيار الإقصاء والاستئصال الذي لا يقبله الناموس الكوني القائم على التنوع والاختلاف من أجل صيرورة حياتية معتدلة وواقعية وموضوعية تضمن الوجود للجميع والكرامة للجميع وحق الاختلاف للجميع ؛ فالخيار الآخر وارد وهو خيار التعايش ؛ وقبول الآخر الذي بوجوده تتحدد هوية من يخالفه.
إن الحروب الساخنة التي تذكيها الرعونة السياسية اليوم من أجل عولمة النموذج الغربي لا يمكن أن تفضي إلى سلم وأمن عالميين ؛ فلا بد للسخونة وللبرودة أيضا أن تزولا بين ثقافتين قدرهما التعايش والحوار والاحترام وهي ضمانات الوجود والا فالهلاك يتهدد الجميع على المدى البعيد.
إن النظرة السطحية للقضية هي التي جعلت المتغربين من أبناء الشرق المسلم يستهجنون كلام الشيخ في أستراليا كما استهجنوا كلام الآخر في هولندا لا عن قناعة وإنما عن تقليد ؛ وقد نجد تشنجا في بعض المواقف من طرف أفراد داخل المجتمعات الإسلامية تجعلهم أكثر لائكية من الغربيين وهو ما يعكس عقدة الانبهار بالنموذج الغربي كبديل ثقافي عن الثقافة الأصيلة ويجعل أصحاب هذه العقدة في حكم ما يعرف بالطابور الخامس المسخر بوعي منه أو بدون وعي لخدمة مشروع عولمة النموذج الغربي .
ولا زال موضوع الجسد الأنثوي مثيرا للجدل في دول ما بين المحيط والخليج وما خلفهما من الجغرافيا الجنوب شرق آسيوية ؛ فلا زال ستر هذا الجسد يقلق العسكر التركي وكأنه سلاح من أسلحة الدمار الشامل ؛ ولا زال الحزب الحاكم في تونس يرى في ستر الجسد الأنثوي مصدر تهديد له وكأنه حزب معارض ؛ ولا زالت معاهد ومدارس عليا عندنا في المغرب ترى في ستر الجسد الأنثوي مساسا بها وكأنه برامج منافسة ؛ فكم من كفاءة سدت في وجهها أبواب هذه المعاهد فاستقبلتها معاهد الدول الغربية التي تقدر الكفاءة مجردة من الشكل الذي يحويها ما دام اللباس لا يصنع راهبا كما يقول المثل الغربي .
فهي سيعي الغرب جوهر الخلاف الثقافي مع المجتمعات الإسلامية ؟ ؛ وهل سيعي طابورنا الخامس ذلك فيلتزم على الأقل حيادا يسهم في انحسار دائرة الصراع؟ وهل اقتنع الغرب أن العنف لا يولد إلا العنفوان؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

2 Comments

  1. مهتم بالموضوع
    01/11/2006 at 17:06

    لسم الله . وبعد. شكرا للاخ صاحب المقال الدي تناول هدا المضوع.في الحقيقة كان من الاجدر ان يوسم هدا الموضوع بصراع الثقافتين الاسلامية والغربية حول الجسد الانثوي لانه لم يتناول وجهة نظر الثقافات الانسانية الاخرى كالثقافة الفرعونية والهندية والصينية وافريقيا السوداء والثقافات الامريك-جنوبية الخ.. ودلك تماشيا مع وجهة نظر الغرب الى الثقافات الاخرى حيث يحسب نفسه مركز الكون .وفي رأيي حتى تكون النظرة اشمل وبل واصح علينا ان نوضح للغرب هده الحقيقة وعلينا ان نركز عليها في تدافعنا معه ولا نهمش او ننسى ونتناسى كما يفعل اتجاه الثقات الاخرى.
    من ناحية اخرى من المستحب تفادي التكرار مثل كلمة خلف و مشتقاتها فلقد دكرت على الاقل اربع او خمس مرات في المقدمة فقط واتساءل ما القصد باللاهوت الاسلامي ؟ والجسد الانثوي؟ والجغرافية الاسترالية؟
    واستسمح الاخ على هده المداخلة فهي لا تروم الا المعرفة والفهم المجردين.

  2. مهتمة بالموضوع
    18/11/2013 at 20:44

    السلام عليكم ورحمة الله:
    أود في البداية أن أشكرك أخي على هذا الموضوع الشيق الذي أود أن يناقش بكل طلاقة وبكل منطقية.
    وفي مرحلة ثانية أود أن أركز وأقول أن الجسد الأنثوي بكل رموزه الدلالية أضحى في الوقت الراهن كنموذج تقاس به كمية ونوعية لتحولات الاجتماعية التي قطعتها المجتمعات العربية والمغاربية نحو إحداث القطيعة مع المنظومة القيمية التي تحيط بقضايا الجسد الأنثوي لإعتبارها من الموروثات البالية التي ينبغي التخلص منها في هذه المرحلة الحداثية، كما أن دليل ذلك هو تلك الممارسات والسلوكيات الشاذة والمنحرفة التي يقوم بها الشبان والتي تنم عن وجود لاتوازن بين أفكارهم وسلوكياتهم وكل ذلك بغية البقاء في قوقعة الأعراف المجتمعية التي يظل الفرد فيها رهين قانون اجتماعي ينبغي له الإنسياق له حتى ولو كان ذلك انسياقا شكليا يحافظ فيه على تكيفه المجتمعي ولكن يستدخل فيه أيضا ما يسمى بقيم الحداثة التي استوردت من المجتمعات الغربية.
    وشكرا

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *