العالم يدخل رسميا عصر الهمجية بخطاب الرئيس بوش

معلوم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر استغلت كأبشع ما يكون الاستغلال حتى صارت منعطفا تاريخيا غير مجرى أحداث البشرية ؛ وصارت بداية تاريخ جديد علما بأن العالم عرف أحداثا أهم من أحداث الحادي عشر ولم يعرف من ردود الأفعال ما عرفه بسبب هذه الأحداث . ولقد سقط من الضحايا في شتى أقطار الدنيا أضعاف ما سقط في نيويورك خصوصا في عالمنا العربي والإسلامي ولم يحدث في العالم ما حدث بسبب الضحايا الأمريكان . كما أن العالم عرف كوارث خلفت مئات الآلاف من الضحايا ومع ذلك لم يحدث ما حدث بسبب أحداث سبتمبر ؛ فما هو السر ؟
يبدو من خلال ردود الأفعال الأمريكية المتعلقة بأحداث سبتمبر وقد تجاوزت كل الحدود وبكل المقاييس أنه يصدق عليها الظن الذي اعتبر الأحداث تخطيطا مسبقا مدروسا كان في انتظار القشة القاصمة لظهر البعير بالتعبير العربي. لم تعتبر الأحداث مجرد جريمة استهدفت سيادة دولة وكان وراءها جماعة لا تعرف بحيز جغرافي معلوم ؛ وهو ما أعطى الولايات المتحدة الأمريكية المبرر لغزو العالم برمته بحثا عن الجناة الذين تحولوا إلى أشباح ليل ليست له نهاية. لقد بدأت ما يسمى بالحرب على الإرهاب بفكرة المطالبة بتسليم المسئول عنها من حكومة طالبان ؛ وسرعان ما صارت هذه الحكومة مشروعا إرهابيا اقتضى غزو أفغانستان ؛ وبأعجوبة تم الربط بين المسئول عن تفجيرات نيويورك وبين النظام العراقي ؛ ولما استغرب العالم هذا الزواج المستحيل بين حركة أصولية ونظام علماني ظهرت فجأة فكرة أسلحة الدمار الشامل التي بررت غزو العراق باعتباره مشروع إرهاب صفقته مربحة للولايات المتحدة الأمريكية ؛ وسرعان ما ظهرت فكرة الإرهاب في العراق حيث تم تسويق رمز من الرموز المنسوبة للإرهاب إلى بلاد الرافدين ليكون ذلك ذريعة تبرر بقاء القوات الأمريكية في العراق بعد تبخر ذريعة أسلحة الدمار الشامل. وظهرت مشاريع جديدة أو بالاحرى مبررات جديدة ذات علاقة بموضوع الإرهاب كمشروع دعم سوريا للإرهاب في لبنان وفلسطين والعراق ؛ وكمشروع امتلاك أسلحة الدمار الشامل في إيران ؛ وهي مشاريع قيد الدرس وربما تنتظر الموعد كما هو مخطط في الأجندة الأمريكية.
وهذه الإجراءات غير المسبوقة في التاريخ الحديث تعكس مدى استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى أبعد الحدود وأقصاها من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب بحيث صار العالم كله مسئولا عن هذه الأحداث علما بأن نصيب الأسد من المسئولية كان من حظ البلاد العربية والإسلامية التي استبيحت أراضيها واستبيحت كرامة المنتسبين إليها حتى من الذين يحملون الجنسية الأمريكية منذ أجيال ؛ وأصبح شغل العرب والمسلمين هو البحث عن وسائل التبرؤ مما تسميه أمريكا إرهابا أو شبيها بالإرهاب أو مفضيا للإرهاب أو متعاطفا معه؛ والمشكلة أن هذا المصطلح تمطط واتسع حتى شمل حركات التحرر في العالم وخصوصا في الشرق الأوسط ؛ وهي فرصة لم تضيعها إسرائيل ربيبة أمريكا وراعية مصالحها في المنطقة فتبرأ العرب حتى من حركات التحرير عندهم خشية الوقوع في دائرة الإرهاب ؛ وتحول العرب والمسلمون جملة وتفصيلا إلى مشروع إرهاب يوفر ذريعة للغزو الأمريكي لبلدان العالم العربي والإسلامي في كل لحظة ولأتفه الأسباب.
وتحت غطاء محاربة الإرهاب وقعت جرائم ضد الإنسانية بشقيها الظاهر والخفي ؛ وبالأمس كان تصريح الرئيس الأمريكي عبارة عن دخول العالم عصر الهمجية رسميا إذ اعترف بوجود معتقلات سرية خارج أمريكا ؛ كم اعترف بأساليب القسوة في الاستنطاق ؛ علما بأن المعتقلات السرية هي مرحلة سابقة لمعتقل كوانتانامو حيث يباح كل شيء لأن هذا المعتقل لا يدخله إلا من ثبتت في حقه التهمة الطابو.
ومعلوم أن هذا التصريح من رئيس ينتسب لما يسمى بالعالم الحر عالم الديمقراطية وعالم المؤسسات والقوانين له دلالة خطيرة ؛ فالولايات المتحدة هي قدوة باقي دول العالم بفعل قوة الاقتصاد والقوة العسكرية فإذا ما تجاسر رئيسها على حقوق الإنسان بهذا الشكل المروع فماذا يكون موقف الرؤساء الأتباع ؟ لهذا نكون قد دخلنا عصر الهمجية بامتياز بصدور هذا الإعلان الذي يصادف مناسبة إحياء أحداث الحادي عشر من سبتمبرلهذه السنة . ومعلوم أيضا أن الرئيس الذي أقر بخرق معاهدات جنيف المتعلقة بالكرامة البشرية هو نفسه الذي يجيش الجيوش للتدخل في مناطق متعددة من العالم بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان كما هو الحال في دارفور السودان ؛ فهل الكرة الأرضية يسكنها نوعان من الناس صنف له حقوق ؛ وصنف آخر لا حق له؟
لقد آن الأوان لترتفع الأصوات ذات التأثير لكبح جماح فكرة استغلال أحداث سبتمبر أبشع استغلال ولتخليص العالم من منعرج خطير نحو الهمجية في عصر التطور التكنولوجي الباهر؛ كما أنه آن الأوان ليغير العالم وجهته فيتخلص من أباطرة الحروب الذين يدمرون الإنسان والبيئة ويهدرون الموارد لأسباب واهية القصد منها العدوان ؛ وإشاعة ثقافة الحرب من أجل الاغتناء المجاني والسطو على خيرات بلدان الدول الضعيفة عسكريا الغنية بثرواتها في زمن عدوان السيدا والسرطان والفقر والمجاعات والتسونامي وحتى كاترينا. إن العالم في حاجة ماسة لحكماء رحماء يردونه إلى رشده و يجعلون سلطة القانون فوق كل السلط لا تستثني قويا ولا ضعيفا ؛ وقوة القانون والعدالة تكمن في كون الضعيف يصير قويا أمام القوي ولا يبالي ببطشه ؛ وهذا وحده هو الكفيل برد الأمور إلى نصابها في عالم اختلت موازينه الأخلاقية ؛ والا فسنرى الفظائع في كل أقطار الدنيا حيث ستتحول إلى معتقلات سرية تتنافس في تعذيب البشر وإهانة الكرامة الإنسانية في القرن الواحد والعشرين الذي كان العالم ينتظر فيه زوال الفوارق بين الحضارات والشعوب ؛ وحتى زوال الأسلحة ولماذا لا سواء كانت مدمرة أم تقليدية من أجل صرف ما يصرف عليها لفائدة سعادة الإنسان ورفاهيته ؛فمتى سيسود السلام في هذا العالم البئيس ؟ومتى ستنتهي قصة الإرهاب فيه ؟ ومتى سينتهي عصر الهمجية الجديد؟ ومتى سيخطب رئيس أقوى دولة في العالم ليقول لا للمعتقلات السرية لا لإهانة الإنسان ؟ وحتما لن يكون على شاكلة الرئيس الذي وقف بالأمس يخاطب العالم بدون خجل ليعترف بالمعتقلات السرية والقسوة في التعذيب.
Aucun commentaire