وجدة ..حين تُطفأ المدينة ويُشعل العبث

مصطفى قشنني

في مدينة وجدة، لا شيء يسير وفق منطق، بل وفق مزاج المسؤولين الذين يبدون وكأنهم يديرون المدينة من كوكب آخر، أو من تطبيق “عجائب الدنيا العشوائية”. الشوارع مظلمة، لا لأن الكهرباء انقطعت، بل لأن القرار انقطع. شارع محمد الخامس، الذي يُفترض أن يكون واجهة المدينة، صار يُضاء بأضواء السيارات ( انظر الصورة)، وكأن الإنارة العمومية أصبحت خدمة اختيارية. المصابيح مطفأة، والوجوه مطفأة، والضمائر كذلك. لا أحد يعرف من قرر أن يطفئ المدينة، لكن الجميع يعرف من يدفع ثمن العتمة: المواطن الذي يتعثر في خطاه، ويصطدم بيأسه كل مساء.
ثم يأتيك شارع “روت مراكش”، الذي تم ترصيصه بالأحجار وإغلاقه بإحكام، وكأن المدينة قررت أن تعاقب نفسها. من هو العبقري الذي قرر أن يغلق أحد أهم شرايين المدينة؟ لا نعرف، وربما لا نريد أن نعرف، لأن الجواب سيزيد الطين بلّة. هذا القرار لا يشبه التخطيط، بل يشبه نوبة غضب من مسؤول قرر أن يلعب “تيك توك” على أرض الواقع. الشارع مغلق، البضائع لا تصل، المتاجر تئن، والأسواق تختنق، لكن لا أحد يسمع. لأن من بيده القرار، أغلق الباب على نفسه، وابتلع المفتاح.
أما شارع جيش التحرير، فقصته تصلح لفيلم درامي من الدرجة الثالثة. مغلق منذ أكثر من ثلاثة أشهر، من أجل تمديد “جوج قوادس”، وكأن المدينة كلها رهينة لأنبوبين. الحوادث تتكاثر، الاختناقات المرورية صارت طقسًا يوميًا، والناس يتنقلون بين الغضب واليأس كمن يتنقل بين محطات الحافلة… لو كانت هناك حافلات أصلًا. لأن الحافلات، يا سادة، اختفت. تبخرت. وبدلًا منها، ظهر “الهوندات” و”التريبورتورات”، وكأن المدينة قررت أن تعود إلى عصر التنقل الحيواني، لكن دون حيوانات. المواطن الوجدي صار يتنقل كمن يهرب من نفسه، يركب ما توفر، ويدفع ما لا يملك، ويصل متأخرًا إلى كل شيء، حتى إلى كرامته.
المدينة تعيش فوضى، لا فوضى خلاقة، بل فوضى عبثية، كأن أحدهم قرر أن يكتب سيناريو ساخر عن مدينة تنهار ببطء، ثم نسي أن يضع نهاية. الأمن غائب، شرطة المرور غائبة عن الرومبوانات ، السرقات تحدث في وضح النهار، كأن اللصوص حصلوا على ترخيص رسمي. المواطن البسيط يدفع الثمن، دائمًا، لأنه لا يملك رفاهية الاختباء خلف مكتب أو تصريح أو حصانة. يُسرق، يُهان، يُترك وحيدًا في مواجهة مدينة قررت أن تتخلى عنه.
مدينة وجدة لا تحتاج إلى إصلاحات تجميلية، بل إلى عملية جراحية عاجلة. تحتاج إلى من يفتح النوافذ المغلقة، ويضيء المصابيح المنطفئة، ويعيد للناس ثقتهم بأن المدينة ليست لعنة، بل وطن. لكن هذا لن يحدث طالما أن المسؤولين المحليين يعيشون في عزلة اختيارية، يراقبون المدينة من خلف زجاجٍ مضادٍ للواقع، ويعتقدون أن الصمت هو الحل. وجدة تحتاج إلى من يمشي في شوارعها المظلمة، ويشعر بالوحشة، ويقرر أن يفعل شيئًا، أي شيء، سوى الانتظار القاتل .
وجدة لا تحتاج إلى من يكتب عنها تقارير مزخرفة، بل إلى من يقرأ الواقع دون نظارات وردية. المدينة لا تطلب معجزة، بل قليلًا من العقل وكثيرًا من المسؤولية. ما يحدث ليس سوء تدبير، بل غياب تام لأي تدبير. كل شارع مغلق، كل زاوية مظلمة، كل قرار يُتخذ وكأن المدينة حقل تجارب في مختبر بلا مشرف. المسؤولون المحليون يتقنون فن الغياب، ويبرعون في لعبة “أين اختفى القرار؟”. أما المواطن، فقد تعلّم أن يتنقل كمن يؤدي طقوسًا عقابية، وأن ينتظر الإصلاح كما ينتظر المطر في موسم الجفاف. وجدة اليوم ليست مدينة تُدار، بل تُترك لتتدبر أمرها بنفسها، كأنها ورقة سقطت من دفتر الوطن ولم يلاحظ أحد. فهل نكتفي بالمشاهدة؟ أم نرفع الصوت قبل أن تُغلق المدينة بالكامل، ويُكتب على بوابتها: “هنا كانت وجدة… ثم تعبنا من المحاولة.”
المصدر : https://respress.ma





Aucun commentaire