نعي أُمٍّ من طفل تجاوز العقد الخامس

علي العلوي
قبل الرحيل بساعات قليلة:
دخلتُ الغرفة كما يدخل الصمتُ مرصعا بقسمات الصدى؛ الستائر مطبقة على النوافذ مثل جفون أرقها البكاء، والكراسي مثقلة بالفراغ. في ركن السرير جسد منهك كأنه شعاع ضوء تيبس في مرسى الأسى. يرتجف الغطاء، لا من برد المساء، بل من صقيع داخلي لا يُرى. لا شيء فيها يتحرك، سوى ارتجافة خافتة في صدرها، كأن روحها تأخذ أنفاسا على مهل خشية أن تنكسر.
كنت أخشى أن أوقظها، أو أوقظ فيها وجع السنين. ناديتها بصوت خفيض: أمي؛ فأزاحت الغطاء عن وجهها ببطء، فبدت كأنها غيمة دامعة في سماء المساء. نظرتْ إليَّ بعينين مغمضتين يطفح منهما الألم، ثم قالت: « أهلا علي ». وأضافت بصوت منكسر مثل شظية من زجاج: « أنا متعبة، يا بني… لم أعرف للنوم طريقا منذ أسابيع، بل منذ أعوام، بل منذ أن صار الليل نفسه يعاني الأرق. أريد فقط أن أغفو قليلا … أن أغيب لحظة واحدة دون أن يوقظني صوت الغياب ». صمتت، ثم عادت إلى الظل مثل طفل يغلق الباب الأخير في قلبه.
جلستُ بالقرب منها، لم أنبس ببنت شفة. أيّ لغة تُواسي أمّا أنهكت الأمراض جسدها؟ أيّ كلمة تشبه يدا تمسح تعبا تراكم في العظام كما يتراكم الغبار على قبور النسيان؟ كلّ مرضٍ كأنّه سطرٌ جديد في مرثية صامتة تُكتب على جلدها. لم ينفعها الدواء، كأن الدواء نسي الطريق إليها، أو لعلّ الألم أقام فيه حصونا لا تسقطها العقاقير، ولا تحاصرها التحاليل. كانت أمي تمشي كما تمشي الأشجار في الخريف، كل خطوة تسقط منها ورقة، وكل تنهيدة تُطلق سحابة وجع لا يراها إلا من يعرف وقع الموت حين يتسلل مبكرا إلى الجسد. أيّ لغة تُواسي أمّا اعتادت أن تكون الملاذ، لكن صارت هي من تفتّش عن ملاذ وسط الديار؟ أيّ لفظ يقول لها: « تماسكي »، وقد تخلّى عنها جسدها، وصارت أطرافها مثل أغصانٍ ذابلة تتكسّر بصمت في عتمة تسكنها الذكرى؟ جربنا كل شيء؛ سقيناها مما تبقى من يقين، لكنّ الألم كان يمشي في دمها كظلّ لا يُلاحق، وكانت تبتسم رغم كل شيء، كأنها تخشى على من حولها أن يُنهكهم وجعها.
كانت الغرفة مليئة بالصمت، لكنه لم يكن هدوءا، كان كتلةً من حزن يتدلّى من السقف، ويركض فوق الأثاث، ويتكاثر في الصدر. أدركتُ حينها أن هناك نوما يأتي ولا يأتي، ليس لأنه عصيّ، بل لأنه يعرف أن العينَ حين تُغمض، ترى الموتى أكثر مما ترى الأحياء.
يوم الرحيل:
رنّ الهاتف بعد السابعة صباحا، سمعت فيه صدى الموت نفسه. ليس صوتا، بل همسات تتسلل بين الكلمات كأنها غيمة سقطت على جسد الأرض، لتُعلن بداية النهاية دون أن تملك جُرأة التحدّث. سمعتُ تلاوة القرآن، وحديثا عبارة عن رحلة نحو غيابٍ بعيد، وألم يتنقّل من حرفٍ إلى حرف، وحزن يخيط الأوقات حتى يصبح الزمان خيطا ممزقا.
ماتت أمي، كانت الحقيقة تأتي ببطء مثل أمواجٍ تتسلل إلى شاطئٍ الروح المتعبة، وتغرق في الصخور التي تعجز عن إيقافها. كنتُ أعلم أن صخور الأرض ستتبدل، وأعرف كما يعرف الضوء أن الظلام آتٍ، فكيف لي أن أنكر أن لحظة الفقد قد دخلت إلى عينيّ، وبقيت تراقبني دون أن أستطيع الهروب منها؟
ماتت أمي، فسألت نفسي: هل سقطت الشمس فعلا من السماء أم أن الكون أخذ نجما من داخلي، وعاد به إلى مملكته البعيدة؟ هل كان لزاما أن تبتعد وتتركني خلفها أم إنني كنتُ أنا الذي فقدتُ طريق العودة إليها؟
ماتت أمي، لكن موتها كان لحظةً طويلة، لم يأتِ بصفاء ولا سكون، وإنما بعاصفة تجلب معها الرياح الباردة، والغبار الذي لا يختفي أبدا. كل شيءٍ أصبح صامتا، والبيت قرر أن يُشبع صمته قبل أن يبدأ العويل، فصارت أصوات الجدران غريبة عني، وصرت غريبا عنها. كل زاوية، وكل ركن، وكل ضوء، صار غريبا عني، كما لو أنني أبحث عن شيء ضاع مني، لا أدري أين أضعه الآن. لقد فقدتُ المكان والزمان، وفقدتُ نفسي في وسط الليل الطويل. أمي، التي كانت تزرع في وجهي بذور الضوء الذي لا يزول، والتي كانت تفصل بيني وبين الحزن بسلكٍ من حنان، أخذت كل شيء معها، وأنا هنا متعب كالعراء.
ماتت أمي، فلم يعد لي من يُخبّئ في عينيّ الأمل والألم، ولم يعد لي من يسمعني إذا رفعتُ صوتي، أو إذا بحتُ بالحزن الذي يسكنني. إن موتك، يا أمي، ليس نهاية، بل بداية وحدةٍ لا تحمل إلا صمتك، وسكونك، ولحظة غيابٍ لا أستطيع الهروب منها.
كان أبي في غرفته، كأن الزمن قد توقف عنده، وكأن عقارب الساعة قد أُقفلت له، فبقي يعيش في لحظة قديمة، لا تدركها الأسوار، ولا تشعر بها الأيام. كان نائما أو ربما كان مستيقظا، لكن قلبه غارقٌ في حُفرة من النسيان، بعيدا عن كل شيء، وعن كل من حوله، حتى عن روحه التي كانت تهيم حوله دون أن تُنبهه إلى ما يحدث. أما في الدار، فكل شيء يحدث دون أن يعرف؛ جدران البيت تُخفي عنه الحقيقة التي لا مفر منها؛ أمي رحلت، ورحلت معها كل زوايا الضوء التي كانت تملأ البيت، لكن أبي لا يعرف شيئا؛ لا يعرف أن أمي قد تركت المكان فارغا كما تترك الرياح أثرها على الرمل، لا يعرف أن العيون التي كانت تنظر إليه قد فارقتها الحياة، وتوارت في سكونٍ لا يُسمع فيه سوى أنين القلب.
رحلت أمي عن الدنيا كما يغيب الفجر في الليل. فهل كانت الحياة مجرد حلمٍ تسلل من بين أصابعها، أو ريشة رقصت في الرياح، ثم اختفت؟ لقد كانت صوت الحياة في بيتنا، أو بالأحرى، هي الحياة التي تسكننا. كانت وردة في بستان العمر، وعينا تراقبنا بنور لا ينطفئ، لكنها رحلت، وفي رحيلها أخذت معها جميع الألوان. ما من كلماتٍ تكفي، ولا جملٍ تواسي؛ فكيف يمكن للكلمات أن تلمس جرحا عميقا حين يموت من كان مصدر الربيع للجميع؟
لقد رحلت أمي التي كان قلبها أوسع من البهاء والضياء، وعيونها كانت البئر الذي لا ينضب، تحتوينا بحبٍ يخفف عنّا الوجع، ويعطينا طاقة الحياة رغم عواصف الأيام. كيف أكتب عنكِ يا أمي؟ وأنتِ التي كنتِ تتنقلين بيننا كأرواح الأزهار، كيف أقول إنكِ غادرتِ، وأنتِ في كل ركنٍ من هذا البيت؟ إنك في صمت الجدران، وفي بقايا رائحة الطعام، وفي ضوء الفجر الذي يشرق بعد أن يمر عليك في القبر.
ماتت أمي، لكن لا تموت الأرواح الطيبة، ولا تنتهي القصص التي تُكتب في الأمل. أمي التي عشقتها الأرض، لن ينساها الزمان، ولا يطفئ نورها إلا نور السماء. نودعكِ، لكنكِ ستبقين في الذاكرة، وفي القلب، وفي كل لمسةٍ تذكّرنا بكِ. نودعكِ اليوم، لكننا نعلم أن صوتكِ سيبقى يهمس في آذاننا، وأن دعاءكِ سيرافقنا، حتى نلتقي مرةً أخرى، حيث لا فراق بعده.
يا من تكتب الرحمة على أطراف الغيم، وتُرسلها مع النسيم إلى من سكنت الأرض ثم غادرتها، يا من تُنبت من القبور جنائن، وتجعل من التراب مهادا للنعيم، ها نحن نرفع إليك دعاء خافتا، مبلولا بالحنين، مطرزا باسم الوالدة: فاطمة.
اللهم إنها كانت قنديلا في عتمة الأيام، وصوتا دافئا في صقيع الحياة، فخذ بيدها كما كانت تأخذ بأيدينا، وأنزل عليها برد عفوك وسكينة مغفرتك، واسقِ قبرها بنور من عندك، كما كانت تسقينا حنانا لا ينضب.
اللهم اجعل وسادتها من رياحين الجنة، وغطاءها من رحمتك التي لا تحد، واجعل من ليلها أُنسا، ومن وحدتها لقاء، ومن صمتها تسبيحا لا ينقطع.
يا رب، كانت الوالدة ظلا ناعما يمشي بيننا، فاجعلها اليوم ظلا في الفردوس الأعلى، ترفرف روحها في البهاء، كما كانت ترفرف محبتها علينا كلما ضاق بنا صدر الزمان.
اللهم لا تحرمها نور وجهك، ولا تصدّ عنها أبواب رحمتك، بل اجعل الملائكة تُهدهدها، كما كانت تُهدهد وجعنا بصبرها. اللهم إنا نسألك باسمك الذي إذا دُعيت به أجبت، أن تجعلها في مأمنٍ من كل حساب، وأن تزرع على قبرها من السلام ما يُزهر في القلب رضا، وفي العين دمعةً خفيفة، وفي الروح يقين اللقاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون
Aucun commentaire